يقول الإمام زين العابدين عليُّ بن الحسين (عليهما السَّلام) في "رسالة الحقوق" عن حقِّ الصغير:
«وأمّا حَقُّ الصَّغِيرِ فَرَحْمتُهُ وتَثقِيفُهُ وتَعْلِيمُهُ وَالعَفْوُ عَنْهُ وَالسِّترُ عَلَـيهِ وَالرِّفْقُ بهِ وَالمَعُونَةُ لـَهُ، وَالسِّترُ عَلَى جَرَائِرِ حَدَاثتِهِ فَإنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّوبَةِ، وَالْمُدَارَاةُ لَـهُ وتَرْكُ مُمَاحَكَتِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ أَدنى لِرُشْدِهِ».
بهذه الكلمات النابضة بالرحمة والوعي العميق بأَهميَّة الطفولة، يرسم الإمام زين العابدين عليه السلام ملامح نموذج متكامل للتعامل مع الطفل، ليعكس إدراكًا حضاريًا وإنسانيًا يتجاوز في عمقه الزماني والمكاني الكثير مما أُقرَّ لاحقًا في مواثيق حقوق الإنسان.
ثم يضع الإمام عليه السلام أساسا للتعامل مع الطفل، إذ يعتبرُ الإمام أن الرحمة هي أولى حقوق الطفل وأَهمُّها «وأمّا حَقُّ الصَّغِيرِ فَرَحْمتُهُ»، فالطفل في طوره الأَوَّل يحتاج إلى بيئة مشبعة بالحنان ليتمكَّن من النمو العاطفي والفكري بشكل سليم. وقد أَكد الدين الإسلامي على هذه النقطة في أَحاديث عديدة، منها قول النبيِّ محمَّد صلَّى الله عليه وآله: «نظر الوالد إلى ولده حبًا له عبادة».
فالرحمة ليست مجرَّد شعور، بل هي أفعال عمليَّة تنعكس في الاهتمام اليومي، ومنها مثلاً التقبيل الذي وصفه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله بأنه مفتاح لدخول الجنة: «أكثروا من قُبلة أولادكم، فإنَّ لكم بكلِّ قُبلة درجة في الجنة"». وكذلك الهدية لها دور كبير في ترسيخ المحبة بين الولد ووالده؛ فقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله: «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله، كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج».
ثم يبين الإمام عليه السلام الحق الثاني ودوره في بناء الشخصية السليمة وهو تثقيف الطفل وتعليمه «وتَثقِيفُهُ وتَعْلِيمُهُ»، لأَنَّ بناء العقل وتوجيه السلوك يبدأ منذ الصغر، وقد أَكد كذلك الإسلام على أهمية التعليم المبكر؛ حيث قال الإمام الصادق عليه السلام: «الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلَّم الكتاب سبع سنين، ويتعلَّم الحلال والحرام سبع سنين».
وهذا التصوّر بالفعل يتماشى مع المبادئ الحديثة التي جعلت التعليم إلزاميًا ومجانيًا في المراحل الأُولى من حياة الطفل، حيث يهدف إلى تكوين شخصيَّة متزنة ورصينة وقادرة على مواجهة تحديات الحياة وصعوباتها المختلفة.
وبعد ذلك يركِّز الإمام عليه السَّلام على ضرورة العفو عن أخطاء الطفل والستر عليها «وَالعَفْوُ عَنْهُ وَالسِّترُ عَلَـيهِ وَالرِّفْقُ بهِ وَالمَعُونَةُ لـَهُ، وَالسِّترُ عَلَى جَرَائِرِ حَدَاثتِهِ فَإنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّوبَةِ»، موضحًا أَنَّ ذلك يفتح له باب التوبة ويشجعه على تصحيح مساره، وهذه الرؤية التربوية تعكس فهمًا عميقًا لطبيعة الطفولة التي تكون مليئة بالمحاولات والتجارب، والتي قد تتخللها أخطاء.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله: «رحم الله من أَعان ولده على برِّه ... يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به». وواقعاً أنَّ هذه الوصايا تمثل نموذجًا عمليًا للأُبوة والأُمومة الرحيمة التي تركِّز على التوجيه بدلًا من العقاب، وعلى الإصلاح بدلًا من الإقصاء.
ثم ينتقل الإمام عليه السَّلام للإشارة إلى أهمية مداراة الطفل وترك مماحكته، بمعنى عدم الدخول معه في تحديات أو مجادلات تزيد من حدة توتره «وَالْمُدَارَاةُ لَـهُ وتَرْكُ مُمَاحَكَتِهِ». فالرفق في التعامل مع الطفل يخلق لديه شعورًا بالأمان، ويفتح أمامه آفاقًا واسعة للتعلم والنمو.
وقد ورد عن النبيِّ صلى الله عليه وآله: «من كان له صبيٌّ فليتصابَ له». هذا الحديث يدعو إلى مشاركة الطفل في عالمه والتواصل معه بلغة يفهمها، مما يعزز العلاقة بينه وبين والديه.
ولو جئنا إلى رؤية الإمام المستقبلية للطفل فسنجد أَنَّ الإمام اعتبر أَنَّ التعامل الصحيح مع الطفل من شأنه أن يؤدي إلى رشده، حيث قال: «فَإنَّ ذَلِكَ أَدنى لِرُشْدِهِ». فهذه العبارة تحمل في طياتها رؤية مستقبلية تؤكد أَنَّ الطفولة هي الأَساس الذي يُبنى عليه نضج الإنسان في مختلف أَبعاده الفكريَّة والعاطفيَّة والاجتماعيَّة.
ولو أَردنا أَن نلقيَ نظرة على اتفاقيَّة حقوق الطفل لعام 1990، نجد أَنَّها أَقرَّت حقوقًا مشابهة لما ورد في رسالة الحقوق للإمام عليه السلام، من حقِّ الطفل في التعليم، وحمايته من العنف، وتأمين بيئة صحيَّة للنمو. ومع ذلك، فإنَّ رؤية الإمام تمتاز بشموليَّة أَعمق تجمع بين الحقوق الماديَّة والمعنويَّة، وتعكس منظومة قيميَّة تهدف إلى بناء إنسان متكامل وشخصية فذَّة.
رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام في كل حق من حقوقها التي حوتها تمثِّل دستورًا متكاملًا للتعامل مع الطفل، يعكس رؤية تربويَّة وإنسانيَّة متقدِّمة. فهي في حقيقتها وجوهرها ليست مجرَّد كلمات، بل هي دعوة لتطبيق مبادئ الرحمة والتعليم والعفو والرفق في تربية الأَجيال، ممَّا يُسهم في بناء مجتمعات متوازنة وقادرة على مواجهة التحديات.
اترك تعليق