المعلِّم هو السراج الذي يضيء دروب الجهل بنور العلم، والسائس الذي يهذِّب العقول ويزرع الفضائل في النفوس، فمكانته لا تنحصر في مهنةٍ أَو وظيفة، بل هي رسالةٌ سماويةٌ تُستقى من تعاليم الأَنبياء والمرسلين، ومقام رفيع أَعلته الأَديان السَّماوية والفلاسفة والحكماء على مر العصور.
يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في "رسالة الحقوق": «وأَمَّا حَقُّ سَائِسِكَ بالعِلْمِ فالتَّعْظِيمُ لَهُ والتَّوْقِيرُ لِمَجْلِسِهِ وَحُسْــــنُ الاسْـتِمَاعِ إليهِ وَالإقْبَــــــالُ عَلَيْهِ، وَالمَعُونةُ لَهُ عَلَى نَفْسِكَ فِيمَا لا غِنَى بكَ عَنْهُ مِنْ الْعِلْمِ، بأَنْ تُفَرِّغَ لَهُ عَقلَكَ وَتُحْضِرَهُ فَهْمَـكَ، وتُزَكِّي لَهُ قَلْبَكَ وَتُجَلِّي لَهُ بَصَرَكَ بتَرْكِ اللَّذَّاتِ وَنقْص الشّهَوَاتِ».
هذه الكلمات العظيمة تختصر واجب المتعلِّم تجاه معلِّمه في طيف من الفضائل تبدأُ بالتعظيم والتوقير، وتمرُّ عبر حسن الاستماع، وتبلغ ذروتها في تهيئة النفس لتلقِّي العلم بصدق وإخلاص، فلا يكفي أَن يكون الطالب أو المتعلِّم حاضراً بجسده؛ بل عليه أَنْ يكون حاضراً بعقله وقلبه وروحه، متجرّداً من شواغل الدنيا وملذاتها.
هنا نجد الإمام (صلوات الله عليه) في هذا الحقِّ يطلق تعبير (سائس العلم) على المعلِّم، وهي إشارة واضحة إلى دوره التربوي والأَخلاقي قبل المعرفي، فهو ليس مجرَّد ناقل للمعلومات والعلوم، بل مروِّض ومهذِّب للنفوس، ومُربٍّ للأجيال، وللأسف الشديد قد أُغفِل هذا الدور في كثير من النظم التعليمية الحديثة، حيث طغى الجانب الأَكاديمي العلمي البحت على الجانب الإنساني والأَخلاقي والتربوي الذي هو الدور الأَساس في مهنة التعليم.
فنجد هنا أَنَّ الإمام عليه السَّلام يؤكِّد على أَنَّ احترام المعلِّم هو المفتاح الأَوَّل لسبر أغوار العلم، إذ لا يمكن للطالب أَنْ يتلقَّى المعارف والعلوم المختلفة وهو يحمل في نفسه كبراً أَو استعلاءً، ونُقل عن أَحد كبار علماء الشيعة، أَنَّه عندما دخل مدينة قم المقدَّسة في أَيام زعامته، ورأى شيخاً كبير السِّن، انحنى ليقبِّل ركبتيه، ولمَّا سُئل عن ذلك أَجاب: (لقد قرأت أَلفيَّة ابن مالك عند هذا الشيخ، فهو أُستاذي، ولا بُدَّ لي من تقديره واحترامه)، فهذا السُّلوك يجسِّد عمق الاحترام الذي يجب أَنْ يحمله الطالب لمعلِّمه، مهما بلغ من العلم والمكانة.
ثم ينتقل بنا الإمام عليه السَّلام إلى حسن الإنصات للمعلم، ويبين بأَنَّه ليس مجرد سلوك اجتماعي، بل هو شرط أَساسيٌّ لفهم الدروس واستيعابها، يقول عليه السَّلام: «وَحُسْــــنُ الاسْـتِمَاعِ إليهِ وَالإقْبَــــــالُ عَلَيْهِ»، وهذا الإنصات يتيح للعقل أَن يستوعب الفكرة كاملةً دون نقص أَو تشويش، وللقلب أَنْ يتلقَّى الحكمة بصفاء، ثمَّ يجب على الطالب أو المتعلِّم أَن يهيئ نفسه لاستقبال العلم، من خلال ترك اللَّذات والشَّهوات التي تُشتت العقل وتُضعف التركيز. فيقول الإمام (سلام الله عليه): «بِتَرْكِ اللّذَّاتِ وَنقْص الشّهَوَاتِ»، وهذه التهيئة لا تقتصر على الابتعاد عن اللَّهو، بل تشمل تنقية القلب من الحسد والحقد والغرور وجميع الأمراض النفسانية، التي تعيق نور العلم عن النفاذ إلى أعماق النفس.
ومن أَعظم حقوق المعلم أَنْ يكون الطالب رسولاً أَميناً له، ينقل علمه بحرص وأَمانة. وهنا يقول الإمام: «وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ فِيمَا أَلقَى إلَيْكَ رَسُولُهُ إلَى مَنْ لَقِيَكَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ». وهذه المسؤوليَّة تجعل الطالب شريكاً للمعلم في نشر العلم، وهو تكليف يستوجب الصِّدق والإخلاص في الأَداء.
وعن آداب الطالب في حضور وغياب معلمه يذكر الإمام في رواية (مكارم الأخلاق): «وأَن لا تَرْفَعَ صوتَكَ عليهِ، ولا تُجيبَ أَحداً يَسْألُه عن شَيءٍ حتى يكونَ هو الذي يُجيبُ، ولا تُحدِّثَ في مَجْلِسِه، ولا تَغْتَابَ عِنْدَه أَحداً، وأَنْ تَدْفَعَ عنه إذا ذُكِرَ عِندَكَ بسُوءٍ، وأَنْ تَسْتُرَ عُيوبَه وتُظْهِرَ مَناقِبَهُ، ولا تُجالِسَ لَهُ عَدوَاً ولا تُعادي له وَليّاً». وهذه الآداب تهدف إلى صون مقام المعلم من أَيِّ انتقاص أَو إساءة، سواء كانت مباشرةً أَو غير مباشرة.
ولو تمعّنا أَكثر في مقولة الإمام (عليه السلام) بحقِّ المعلِّم نجدها بأَنَّها ليست مجرَّد توجيهات أَخلاقيَّة عابرة، بل هي دستورٌ تربويٌّ يحمل في طياته أَعمق معاني الاحترام والتقدير للعِلم وأَهله، فهي تُبرز المكانة السامية للمعلِّم، الذي يُعدُّ صانع العقول وباني الحضارات، وتُظهر كيف ينبغي للطالب أَنْ ينهل من معينه بروحٍ ملؤها الأَدب والتواضع.
هذه الكلمات المباركة ترفع العلاقة بين المتعلِّم والمعلِّم من كونها مجرَّد تبادل للمعرفة إلى شراكة روحيَّة وأَخلاقية، فالطالب، كما أَشار الإمام عليه السَّلام، لا يرفع صوته على معلمه، فيتحلَّى بالهيبة والتوقير، ولا يسبق معلِّمه بالإجابة أَو الكلام، فيتعلَّم الصبر والاستماع، ولا يغتاب أَحدًا في حضرته، ليحفظ نقاء المجلس وقدسيته.
إنَّها حقاً دعوةٌ لحماية المعلِّم، ليس فقط من الاعتداء المباشر، بل حتى من النقد والغيبة، وتكريسٌ للوفاء له بنشر محاسنه وستر عيوبه، إنَّها أَخلاق الطالب الحقِّ، الذي يرى في معلمه قناةً لنقل الحكمة ونبراسًا للهداية.
هذه التوجيهات ليست مجرَّد نصائح لتعاملٍ يوميٍّ، بل هي مدرسة في حدِّ ذاتها، تعلِّم الإنسان كيف يوقِّر مصادر النور والعلم والمعرفة، وكيف يجعل من احترامه لمعلِّمه انعكاسًا لاحترامه للعلم ولذاته.
ثمَّ إنَّ طالب العلم الذي يؤدِّي حقوق معلمه يصبح محطَّ تكريم الملائكة والمخلوقات جميعاً، فكما ورد عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله: «إنَّ الملائكة لتضع أَجنحتها لطالب العلم حتى يطأَ عليها، رضًى به»، وعنه صلَّى الله عليه وآله أَيضاً: «إنَّ طالب العلم لتحفُّه الملائكة بأَجنحتها، ثمَّ يركب بعضها بعضاً حتى يبلغوا سماء الدنيا من محبَّتهم لما يطلب»، أَمَّا الإمام الباقر عليه السَّلام فقال: «إنَّ جميع دواب الأَرض لتصلِّي على طالب العلم حتى الحيتان في البحر».
إذن فحق المعلِّم ليس مجرَّد واجب يؤدِّيه الطالب، بل هو أَمانة تُثقل كاهله وتفتح أَمامه أَبواب السَّماء، والالتزام بهذه الحقوق لا يصون العمليَّة التعليميَّة فحسب، بل يرقى بالمجتمعات إلى مستويات أَعلى من الفضيلة والمعرفة.
وليكن في كلِّ مدرسة وحوزة علميَّة كتيب صغير يستعرض هذه الحقوق، مقتبساً من كلمات الأَئمَّة المعصومين عليهم السَّلام، ليكون نبراساً يهتدي به الطلاب والمعلِّمون على حدٍّ سواء، فكلمات أَهل البيت عليهم السَّلام، إنْ أُخذت بعين الاعتبار، تحيي العلاقة بين المعلِّم والمتعلِّم، لتصبح أَساسًا لبناء أَجيال تحمل الأَخلاق والعلم معًا، وتنطلق إلى الحياة بقيمٍ ترتقي بالمجتمع نحو الكمال.
اترك تعليق