أصل الدين هل هو الخوف؟

وقع اختيارنا من بين شتّى الموضوعات الإلحاديّة المختلفة على الكتابة في واحدة من أهمّ مسائل فلسفة الدّين(1)، وهي مسألة: ما هو أصل الدّين؟ أو كيف نشأ الدّين؟ أو ما هو سبب تجذر النّزعة الدينيّة في النفس البشريّة؟ فإنّ هذه الأسئلة قد خاطَرَتْ الكثير من العقول المفكرة، وأصحاب النظريّات الفلسفيّة والاجتماعيّة، فأدلى كلٌ منهم بدلوه، وظهرت نتيجة ذلك فرضيات متعدّدة تناقض ما عليه سائر الأديان السماويّة -وبعض النظريات العلميّة أيضًا- من فطريّة الدّين ووحيانيتهِ وأنّ مصدره هو الله -تعالى-، حيث ذهبت في تفسير الظاهرة الدينيّة إلى بشريّة الدّين وأرضيته وأنّه من صنع الإنسان، وفي بحثنا هذا سنسلّط الضوء على ثلاث فرضيات منها فقط، وهي: (الطبيعيّة، والحيويّة، والعاطفيّة)، والتي تشترك جميعها في اعتبار الخوف مصدرًا للدّين أو الألوهيّة، فالخوف يعدّ شريان تلك الرؤى وقَاسمها المشترك، إلّا أنّها تختلف من حيث سبب الخوف وصياغة الفرضيّة.

     والسّر في اختيارنا البحث عن تلك الفرضيات الثلاثة تحديدًا دون غيرها من الفرضيات الأخرى؛ يكمن في أنّ مقولة الخوف على اختلاف الفرضيّات المنضوية تحتها يتكرّر صداها عند الملحدين إلى يومنا هذا؛ إذ بها يواجه الملحدون مسلّمة عدم انفكاك الدّين عن كلّ الحضارات بعد نفيهم لجوهر الدّين (الإيمان بالغيب والإله).

  كان الفيلسوف والشاعر الروماني لوكريتيوس (ت٥٥ق.م) يقول: "الخوف هو الذي خلق الإله في البداية"(2).

   وفي كتابه (التاريخ الطبيعيّ للدّين) يقول ديفيد هيوم: "ينشأ الدين البدائي للنوع الإنساني من الخوف والقلق من أحداث المستقبل، ومن الأفكار التي يضمرها الإنسان عن القوى غير المرئيّة"(3).

    وهكذا اعتقد غير واحدٍ من المفكرين الملاحدة أنّ الخوف هو أساس الدّين، كما نصّ راسل في محاضراته الشهيرة "لماذا لست مسيحيًا"، ويضيف: "إنّ الخوف هو الأمر كله، الخوف من كلّ ما هو غامض، الخوف من الهزيمة، والخوف من الموت"(4).

   يقول وِل ديورانت في قصّة الحضارة: "الخوف -كما قال لوكريتيوس- أول أمهات الآلهة، وخصوصاً الخوف من الموت، فقد كانت الحياة البدائيّة محاطة بمئات الأخطار، وقلّما جاءتها المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعيّة، فقبل أنْ تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل، كانت كثرة الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف أو بمرض غريب يفتك بها فتكًا، ومن هنا لم يصدق الإنسان البدائي أنّ الموت ظاهرة طبيعية وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة…"(5).

    وصفوة القول: إنّ عملنا في هذا البحث الموجز يقتصر على عرض ونقد الفرضيات الثلاثة آنفة الذكر، وعليه يقع الكلام في مطلبين: الأوّل- في عرضها كما قرّرها أصحابها، والثاني- في نقدها.

 

والكلام هُنا في عرض فرضيات الخوف الثلاثة (أي الطبيعيّة، والحيويّة، والعاطفيّة) التي تفسّر ظاهرة الدّين والإيمان بالله -تعالى- من وجهة نظرٍ لا دينيّة، وذلك على الترتيب التالي:

١- المذهب الطبيعيّ:

    لقد ساهم في صياغة المذهب الطبيعي مجموعة مهمّة من الباحثين، إلّا أنّ المسؤول الأخير عن صياغتهِ بأوضح الأشكال، وأكثرها تأثيرًا حتّى نسب هذا المذهب إليه هو: المستشرق البريطاني عالم اللّغة ماكس مولر (ت١٩٠٠م).

    ويرى مولر أنّ أسماء جميع الآلهة هي أسماء مشتركة من الممكن ببساطة التّوصل إلى أصلها، وكلّها تعني ظواهر الطبيعة الرئيسة، وهذا يدلّ على أنّ أوّل عبادة اتّجهت إليها البشريّة هي عبادة مظاهر الطبيعة الرئيسة، حيث أثارت تلك الظواهر في نفس الإنسان الدّهشة والخوف، وهي نواة الشعور الديني.

   وهذا الخوف والاندهاش يضاف له ظهور فكرة اللّامتناهي؛ باعتبار أنّ البدائي كان يرى النهر لا ينضب ماؤه، والسماء لا ينتهي أفقها، والشمس لا تنفكّ من الظهور، وهكذا فكلّ شيء في الطبيعة يوقظ فيه هذا الإحساس باللّامتناهي.

    لكن لم يتحوّل هذا الشعور إلى دين، إلّا بعد أنْ تحولت هذه القوى الطبيعيّة من قوى مجردة إلى قوى مشخصة حيّة وعاقلة في نظر البدائي، وقد أرجع مولر هذا التّحول إلى اللّغة، وأسماه بالمرض اللغوي، حيث وجد مولر أنّ للّغة السنسكريتيّة التي يستعملها قدماء الهند ميزتان: أ- أنّها وضعت لأمورٍ كليّة. ب- أنّها وضعت للأفعال.

 

    فقد مهّدت كليّة تلك الألفاظ أنْ تطلق على معاني لم تكن تطلق عليها أوّل مرة، فحين توجه الإنسان البدائي إلى كثير من ظواهر الطبيعة، وأراد تسميتها أطلق عليها ما لديه من ألفاظ الأفعال، فسمى كلّ ظاهرة طبيعيّة بلفظ فعلها، فالصاعقة هي الفعل الذي يمزّق التربة أو ينشر النار، والريح هي الشيء الذي يصفّر، والشمس هي الشيء الذي يصدر السهام الذهبيّة، والنهر هو الشيء الذي يفيض…، وبمرور الزمن اختلطت أفعال تلك الظواهر الطبيعيّة بالأفعال الإنسانيّة المشابهة، فأطلقت الألفاظ التي كانت للأفعالِ على الشخصيات حتّى تصور البدائي تلك الظواهر بصورة الإنسان، فكان الأمر مجازيًا أوّل مرة، ثمّ صار حقيقيًا بعد ذلك.

  والخلاصة: أنّ الطبيعة عالم معجز ومجهول عند الإنسان البدائي، و يشير لقوّة لا متناهية، ممّا أثار في نفسه الشعور بالدهشة والخوف من حيث تدخلها في حياته وشؤونه، وذلك أعطى النبضات الأولى للأفكار الدينيّة(6).

 

٢- المذهب الحيويّ (=الأرواحيّة):

    ينسب المذهب الحيوي إلى اثنين من أشهر علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع، وهما: الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر (ت١٩٠٣م)، و الإنجليزي إدوارد بيرنت تايلور (ت١٩١٧م)، فقد ذهب الاثنان إلى أنّ المجتمعات القديمة كانت تعتقد بوجود حياتين حقيقيتين للإنسان: أحدهما يحياها أثناء اليقظة ببدنه، والأخرى يحياها أثناء نومه بروحه، ولأنّ الإنسان القديم كان يرى الموتى في أحلامه؛ فإنّه اعتقد بوجود عالم الأرواح الذي تنتقل إليه الروح بعد الموت، وفي هذا العالم تكون الأرواح شديدة القوى، ويمكنها التأثير سلبًا وإيجابًا على الأحياء في عالم الأبدان الموازي لعالم الأرواح، ومن هنا بدأ لديه الشعور الديني تجاهها، فَبسبب خوف البدائي من أنْ تؤذيه وتضره تلك الأرواح فتنزل به النكبات والآلام؛ راح يعبدها ويقدّم الطقوس والقرابين لها أملًا في تجنب سخطها وكسب رضاها، فكانت أوّل ديانة دان بها الإنسان هي عبادة الأرواح.

    ثمّ تطورت عبادة أرواح السلف إلى عبادة مظاهر الطبيعة، وفي نقطة تعليل هذا التّطور اختلف تايلور مع سبنسر، فالأوّل علّل ذلك بأنّ البدائي عقله كعقل الطفل؛ ولذا كان يعتقد أنّ مظاهر الطبيعة لها أرواح كالإنسان، بل هي أشدّ قوة؛ لأنّ نطاق تأثير الأرواح الإنسانيّة هو الصحة والمرض، بينما نطاق تأثير أرواح مظاهر الطبيعة هو كلّ ما عدا ذلك، وبالتالي انتقل إلى عبادتها، إلّا أنّ سبنسر كان له تعليل آخر لهذا التطّور، حيث أرجع الأمر إلى اللغة؛ باعتبار أنّ الشائع في ذلك الزمان هو تسمية مواليد الإنسان بأسماء مظاهر الطبيعة، فتجد طفلًا يسمى بـ(قمر) -مثلًا-، وبعد أنْ كان البدائي يعبد أرواح هؤلاء بعد موتهم -فكان يعبد القمر الإنسان مثلًا- وهي مشابهة لمظاهر الطبيعة في الاسم؛ تسرّبت إليه بتقادم الأزمان عبادة مظاهر الطبيعة، فأصبح يعبد القمر -مثلًا- بما هو مظهر طبيعي.

    وخلاصة الأرواحيّة: أنّ البدائي لأنّه كان يرى الأموات في الأحلام؛ اعتقد ببقاء أرواحهم وقدرتها على الاتّصال بالأحياء والتأثير عليهم سلبًا وإيجابًا، وبسبب خوفه من أنْ تؤذيه وتضره؛ أخذ بعبادتها دفعًا لشرها وجلبًا لخيرها، وتطوّرت هذه العقيدة لدى البدائي حتّى وصلت إلى عبادة مظاهر الطبيعة، ومنشأ هذا التّطور: إمّا عقليّة البدائي البسيطة التي لا تفرق بين الجماد والحي، أو بفعل اللغة(7).

٣- المذهب العاطفي:

    تُسند نشأة الدّين في هذا المذهب إلى عاطفتين عند البشر: الخوف والطّمع؛ باعتبار أنّ منتهى مخاوف الإنسان هو خوفه من الموت، ومنتهى طمعه هو الاستمرار والخلود بعد الموت، وبالتالي فإنّ هاتين العاطفتين تتعاونان على صيغة معتقد يقسّم الإنسان إلى كيانين: واحد مادّي وآخر روحاني.

    فإذا كان الموت لا بدّ مدرك كيانه المادّي، فإنّ الكيان الروحاني سوف يجتاز واقعة الموت، ويترك سكنه المؤقّت الذي آل إلى التلف إلى مستوى آخر للوجود يتمتّع فيه بالحياة الأبديّة.

   وبما أنَّنَا نواجه فكرة الروح هذه -إلّا ما ندر- في كلّ ديانة قديمة أو حديثة مما وصل إليه علمنا ،كما نواجه في كل منها تصورًا ما لحالة الروح بعد واقعة الموت الفردي، فقد توصل أهل النظريّة العاطفيّة إلى القول بأنّ الحس الديني هو نتاج ثانوي لعاطفة الخوف من الموت وعاطفة الطمع في الخلود، وأنّ مفهوم الألوهيّة لم يترسخ إلّا لكي يضمن الإنسان لنفسه خلاصاً وبقاء أبدياً.

   ويعدّ عالم الأنثروبولوجيا البولندي برونيسلاف مالينوفسكي (ت١٩٤٢م) واحدًا من أولئك الذين يرون أنّ الاحتياجات العاطفيّة هي من تقف وراء الدّين(8).

المطلب الثاني- نقد فرضيات الخوف الثلاثة:

 

   بعد استعراضنا لفرضيات الخوف الثلاثة كما قرّرها أصحابها، ننتقل الآن إلى نقدها من خلال بيان المناقشات والاعتراضات التي وجّهت إليها، وذلك على الترتيب التالي: 

 

أوّلًا- نقد المذهب الطبيعيّ:

    يعتبر عالم الإجتماع الفرنسي إميل دوركايم (ت١٩١٧م) أشهر من نقد المذهب الطبيعيّ والمذهب الحيويّ، وإليك بعض من نقد دوركايم لخصوص المذهب الطبيعيّ ملخصًا في النقاط التالية:

  ١- يرى دوركايم أنّ البدائي لا يمكن أنْ يعبد ظواهر الطبيعة؛ لأنّه لو كان الدّين -كما يقول المذهب الطبيعيّ- قد نشأ في الإنسان نتيجة خوفه من الطبيعة بهدف محاولة استرضائها والتحكم فيها؛ لأدرك البدائيّ فشله وخطأه مبكرًا؛ لأنّ عبادة الظواهر الطبيعيّة لا تليّن له تلكم الظواهر، فحين يعيش البدائي البركان والعاصفة والمطر الكثيف -مثلًا-، فمهما صلى وقدّم القرابين لها، فإنّها لن تكف وتتوقف، وعندها يدرك مبكرًا أنّ أفعاله تلك مجرّد عبث فيكف عنها.

   ٢- وممّا يعترض به دوركايم على المذهب الطبيعيّ هو اتّساق الطبيعة وانتظام ظواهرها وجريانها على نسق واحد رتيب متكرّر؛ باعتبار أنّ القاعدة الطبيعيّة في العامّة من بني البشر أنّ تكرار الحدث أمامهم بشكل دائم يورث عندهم الاعتياد، وبالتالي لا يرون فيه ما يدهشم أو يُخيفهم، فمثلًا: شروق الشمس صباحًا وغروبها مساءً، ودورة القمر الشهريّة، وفصول السنة…نظام روتيني متكرّر لا يترك في النفس كل هذا الأثر المدّعى، وقد قيل: الأصل لا يُسْأَل عنه، أمّا الاستثناءات في نظام الطبيعة، كالخسوف والكسوف والعواصف والبداكين، فإنّها لا تترك إلّا انطباعات مؤقّته. وعليه، فما ذهب إليه المذهب الطبيعيّ من أنّ مظاهر الطبيعة قد أثارت في نفس البدائي الشعور بالدهشة والخوف وبالتالي ظهر الدّين؛ لا يمكن المساعدة عليه.

   ٣- لقد قام المذهب الطبيعيّ على فكرة تقسيم الوجود بنظر البدائي إلى: مقدّس لا متناهي، وغير مقدّس متناهي هو عالم الطبيعة، لكن دوركايم يعترض بأنّ الأشياء الطبيعيّة إذا كانت غير مقدّسة، فكيف نسب البدائي القداسة إلى ما بعد الطبيعة، وهو قد تخيلها على صورة المسائل الطبيعيّة؟!(9)

 

ثانيًا- نقد المذهب الحيويّ (=الأرواحيّة):

    فيما يلي سنذكر بصورة مختصرة أهمّ ما وجهه دوركايم -سابق الذكر- من نقدٍ لهذا المذهب الحيويّ:

   ١- لقد قام المذهب الحيويّ على فكرة أنّ البدائي ميّز بين الروح والجسد، وأنّ للروحِ عالمها الخاصّ، والحال أنّ البدائي أكثر قصورًا من أنْ يدرك فكرة فلسفيّة بهذا العمق؛ إذ أنّ الأبحاث الأنثروبولوجيّة تثبت -بما لا يقبل الشك- أنّ الإنسان البدائي ذا كسل عقلي، وأنّه يعجز عن التفكيك بين عالم المادّة وعالم المعنى، فضلًا عن إدراكه أنّ الروح قوّة أثيريّة غير مادّيّة تحيا بهذا الشكل.

    ولو سلّمنا -جدلًا- أنّ البدائي كان عنده من النضوج العقلي ما يقدر معه على إدراك ذلك، فنقول:كان من باب الأولى -حينئذٍ- أنْ يكون قادرًا على الالتفات لخطأ ما اعتقده في الروح؛ وذلك من خلال أمرين:

    الأوّل- أنّ بعض الأحلام تنقل أحداثًا قد حدثت سابقًا، وبالتالي سيدرك البدائي -وهو بذلك النضوج العقلي- أنّها مجرد استذكار لما حصل فعلًا، وليست حياة أخرى لكائن الروح.

   الثاني- ثمة أحلام يرى فيها البدائي أنّ بعض الأشخاص القريبين منه ممّن يعرفهم قد فعلوا أفعالًا معيّنة، وكان بإمكانه -وهو بذلك النضوج العقلي- أنْ يسألهم في يقظته عنها، فيعرف كذب ما رآه بعد إخبارهم له بعدم فعلهم ذلك، وحينها سيدرك أنّ تلك الأحلام مجرد وهم، وليست حياة أخرى لكائن الروح.

  ٢- أنّ الروح عند البدائي وهي في الجسد لم تكن مقدّسة حتّى مع علمه أنّها ستكون ذات تأثير على مصيره بعد موتها، وحينها يسأل دوركايم: فما الوجه في صيرورة الروح مقدّسة عند البدائي بهذا الشكل -كما يدّعي أصحاب المذهب الحيويّ- بعد انفصالها عن الجسد؟!

   ٣- يعترض دوركايم على تايلور بخصوص تشبيهه لعقليّة البدائي بعقليّة الطفل؛ باعتبار أنّ الطفل لا يعتقد بحياة كلّ شيء، بل يميّز بين الجماد والحيّ، وما يبدو منه أحيانًا من التعامل مع الجمادات على أنّها كائنات حيّة، فناتج من الميل القويّ نحو اللّعب لكنّه في أعماقه يدرك الفرق، وبالتالي يبطل قياس البدائي عليه.

   ٤- وأخيرًا ينقض دوركايم الأرواحيّة بأمرين وجدهما في المجتمعات القديمة:

   أ- مقتضى اعتقاد البدائي بألوهيّة أرواح السلف -كما يدّعي أصحاب المذهب الحيويّ- أنْ يتصوّر الإله بصورة الآدمي، والحال أنّ ما يجده الباحث في اعتقادات الأقوام البدائيّة تصويرهم للآلهة بصورة حيوانيّة أو نباتيّة!

    ب- مقتضى المذهب الحيويّ عبادة البدائي لمطلق أرواح الموتى، والحال أنّ التقديس عنده يختصّ بأرواح العظماء منهم!(10)

ثالثًا- نقد المذهب العاطفي:

   لا نطيل الكلام بنقد هذا المذهب والرّد عليه؛ لأنّه أضعف المذاهب وأقلّها انتشارًا مقارنة بالمذهبَين السابقين، ونكتفي بالقول:

     إنّ الدّين في أحيان كثيرة هو مَن يُثير في الإنسان الخوف من الموت وسكراته ومن القبر وما بعده من أهوال ويتوعده بالعذاب إنْ هو أساء، وليس العكس (أي ليس الخوف من الموت هو مَن يُثير في الإنسان نزعة الشعور الدينيّ)، ومن ناحية أخرى، فإنّ مجرّد تمني الخلود والرغبة فيه ليس سببًا كافيًا للاعتقاد بوجود عالم آخر بعد الموت تتنعّم فيه الأرواح بالحياة الأبديّة، وعليه تبطل فرضيّة كون الحسّ الدينيّ هو نتاج ثانوي لعاطفة الخوف من الموت وعاطفة الطمع في الخلود المدّعاة من قِبل أصحاب المذهب العاطفي.

   كما أنّ هناك أديان حيّة لها جذور تاريخيّة بعيدة تعتقد بتناسخ الأرواح (أي أنّ الروح تبقى بعد الموت، وتحلّ في جسد شخص آخر)، وهي فكرة تتناقض مع وجود عالم بعد الموت، ومِنْ ثَمَّ لا وجود لأيّ مبرر فيها للخوف من الموت، وفكرة التناسخ وجدت طريقها في البوذيّة والهندوسيّة والسيخيّة، وأديان أخرى في الهند وغيرها.

     والخلاصة: إنّ الخوف من الموت والطمع في الخلود…لا يبعثان على نشوء الدّين، والنظريّة العاطفيّة قاصرة عن تبرير وجود أديان لا تقدم لأتباعها مثل هذا العزاء… دراستنا لتأريخ الدين تظهر بكل جلاء أنّ معتقدات الروح الفرديّة وخلود الشخصية قد بنيت على المعتقد الدينيّ، ولم تشكّل في أيّ وقت باعثًا من بواعث الدّين(11).

 

 الخاتمة

    أخيرًا، وبعد الانتهاء من عرض فرضيات الخوف الثلاثة، وبيان أهم الإشكالات والاعتراضات التي توجه إلى كلّ واحدة منها على حدة؛ يمكن في سياق النّقد العامّ لمقولة الخوف في نشأة الدّين استخلاص النتائج التالية:

    ١- إنّ فرضيات الخوف الثلاثة آنفة الذكر مبنية على افتراض أنّ الإنسان عاش فترة تأريخيّة بدون دين أو إيمان بإله، وهذا ما لم يثبت؛ إذ ليس لأحدٍ بيانات كافية ومعرفة وافية عن الإنسان البدائي الأوّل، وكيف كان يعيش أو كيف يفكر ؟!

    ٢- على الإلحاد أنْ يُدرك أنّ هذه الفرضيات على فرض ثبوتها، فإنّ غاية ما تفيده هو أنّ أحد عوامل التدين في الإنسان هو الخوف، ولا تؤدّي أبدًا إلى أنّ الخوف سبباً كافياً وعلّة تامّة للتدين.

   ٣- لو فرض ثبوت نشأة الدّين بسبب الخوف في بعض المجتمعات، فلا يصح تعميمه على سائر المجتمعات الأخرى، بل تكون قضيّة خاصّة بذلك المجتمع المعيّن دون غيره.

    ٤- منطقيًا: لو كان الخوف من الطبيعة وظواهرها سببًا تامًّا لنشوء النزعة الدينيّة؛ لكان من الأولى أنْ يفكر الإنسان البدائي بعلاج طبيعيّ ماديّ يحلّ بشكل مباشر ما يعاني منه، لا أنْ يفترض قوى وأسباب غير ماديّة على أمل أنْ تدفع عنه ما يواجه، ولكانت الأديان الآن كلّها متجهة بالعبادة للطبيعة، وَلكن جميع الأديان -تقريباً- بما فيها أقدم الديانات التي وصلت لنا آثارها أو بقي المتدينون بها تؤمن بإله خالق للطبيعة وتعبده.

    ٥- فلسفيًا: لو كان الخوف علّة تامّة لنشوء الدّين لزال بزواله؛ إذ أنّ المعلول يدور مدار العلّة وجودًا وعدمًا، فمع تقدّم العلم واكتشاف الأسباب المباشرة للحوادث ينبغي أنْ يزول الدّين، لكنّه لم يزل ولا يزال.

والحمد لله ربّ العالمين…

الهوامش:------

(1) فلسفة الدّين هي: دراسة الدّين بشكل عقلي محض لا يخضع للاعتقادات.

(2) ديورانت، ول وايريل، دروس التاريخ، ص٧٢، ترجمة يوسف ربيع، عصير الكتب للنشر والتوزيع، مصر-القاهرة، الطبعة الأولى، سنة (٢٠٢٠م).

(3) هيوم، ديفيد، التاريخ الطبيعيّ للدّين، ص١٠٣، ترجمة حسام الدّين خضور، دار الفرقد، سوريا-دمشق، الطبعة الأولى، سنة (٢٠١٤).

(4) راسل، برتراند، لماذا لستُ مسيحيًا، ص٣٤، ترجمة عبد الكريم ناصيف، دار التكوين، لبنان-بيروت، الطبعة الأولى، سنة (٢٠١٥م).

(5) ديورانت، ول وايريل، قصة الحضارة، ج١، ص٩٩، ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، دار الجيل، لبنان-بيروت، الطبعة الأولى، سنة (١٩٨٨م).

(6) ينظر: النشار، علي سامي، نشأة الدّين، النظريات التطوريّة والمؤلهة، ص٦٣، دار نشر الثقافة بالإسكندريّة، مصر-الإسكندريّة، ١٩٤٩م.

 (7) ينظر: النشار، علي سامي، نشأة الدّين، النظريات التطوريّة والمؤلهة، ص٣٣، دار نشر الثقافة بالإسكندريّة، مصر-الإسكندريّة،(١٩٤٩م).

(8) ينظر: السواح، فراس، دين الإنسان، بحث في ماهيّة الدّين ومنشأ الدوافع الدينيّة، ص٣١٨، دار علاء الدّين، سوريا-دمشق، الطبعة الرابعة، سنة (٢٠٠٢م).

(9) ينظر: السواح، فراس، دين الإنسان، بحث في ماهيّة الدّين ومنشأ الدوافع الدينيّة، ص٣١٦، دار علاء الدّين، سوريا-دمشق، الطبعة الرابعة، سنة (٢٠٠٢م)، وأيضًا: النشار، علي سامي، نشأة الدّين، النظريات التطوريّة والمؤلهة، ص٨١-٨٩، دار نشر الثقافة بالإسكندريّة، مصر-الإسكندريّة،(١٩٤٩م). 

(10) ينظر: الحيدري، الدكتور إحسان علي، فلسفة الدّين في الفكر الغربي، ص٥٨، دار الرافدين، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، سنة (٢٠١٣م).

(11) ينظر: السواح، فراس، دين الإنسان، بحث في ماهيّة الدّين ومنشأ الدوافع الدينيّة، ص٣٢٥، دار علاء الدّين، سوريا-دمشق، الطبعة الرابعة، سنة (٢٠٠٢م).

: الشيخ قتيبة عقيل المطوري