المراد بأصول الإيمان بوجوده تعالى: هي المعاني الكلية التي يُبنى عليها الإيمان الصحيح في الاعتقاد بوجود الله وكماله، وأنّه هو الخالق والمدبر للكون.
ومن أهمّ تلك الأصول خمسة، وهي:
الأصل الأول - الاعتقاد بوجود الله تعالى ضرورة عقلية وفطرية
والمراد به: أنّ الاعتقاد بوجود الله وربوبيته للكون هي حقيقة معرفية تصديقية، تنبع من فطرة الإنسان، وتقوم على أسس عقلية، ويقرّ العقل بصحتها يخضع لها.
قال تعالى: (فأقِمْ وجهَكَ للدِّينِ حنيفًا فِطرتَ اللهِ التي فطرَ الناسَ عليها لا تبديلَ لخلقِ اللهِ ذلك الدين القيِّم ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمونَ)[الروم: 30].
فإنّ الله تعالى قد جعل في الإنسان فطرة تقتضي الإيمان بأنّ له خالقًا ومدبرًا، وتستلزم الاعتقاد بوجود الله تعالى ومعرفته، وهي نفس الغريزة التي يميِّز الإنسان بها بين الحق والباطل، والحسن والقبيح وغيرها، والتي يدرك الإنسان بها (مبدأ السببية) أي: إنّ لكل حادثة سببًا، وأنّه لا يمكن أن يوجد شيء من دون فاعل ينقله من العدم إلى الوجود.
ونتيجة لعمق إيمان النفس الإنسانية بمبدأ السببية، كان الإيمان بالله تعالى أمرًا فطريًا نابعًا من الكيان الإنساني، فالإنسان صاحب الفطرة السليمة الذي لم يتأثر بمؤثرات خارجية لا يحتاج إلى دليل لإثبات وجود الله تعالى؛ لأنّ ذلك مطبوع في نفسه.
الأصل الثاني - الاعتقاد بوجود الله تعالى ضرورة معرفية
والمقصود به: أنّ المعرفة الإنسانية لا يقوم لها نظام ولا يستقيم لها استدلال إلا مع الإيمان بالله تعالى.
قال تعالى: (أوَمَن كان ميتًا فأحييناه وجعلْنا له نورًا يمشي به في الناسِ كمَن مثَلُهُ في الظلماتِ ليس بخارجٍ منها)[الأنعام: 122].
ولا ريب في أنّ الحياة الإنسانية لا تستقيم إلا بالمعرفة الصحيحة الحقّة في تصوراتها ومنهج البحث والاستدلال فيها، وأمّا إذا وقع خلل في ذلك سيدخلها الشكّ والاضطراب، وستفسد الحياة الإنسانية لا محالة.
وبناءً على هذا، فإنّ المعرفة الصحيحة لا تتحقق إلا بوجود الضرورات العقلية وسلامتها من الشكّ؛ لأنّ العلوم التي يكتسبها الإنسان عن طريق الخبرة والتجربة والتأمل لا بدّ لها من أصول تستند إليها، وهي المبادئ الضرورية، فإن اختلت تلك المبادئ أو اضطربت، فسيدخل الخلل في المعارف النظرية ويفسدها، ومن الواضح أنّ المعارف البشرية لا يمكن أن تكون كلها بديهية بحيث تكون حاصلة في النفس من غير اكتساب ولا نظر، فهذا باطل بالوجدان.
وأيضًا لا يمكن أن تكون جميع المعارف البشرية نظرية، بحيث يكون إثباتها عن طريق النظر والاكتساب فيكون إثباتها عن طريق غيرها؛ إذ إنّ هذا يؤدي إلى الدور أو التسلسل، وهما باطلان بالضرورة. إذن لا بدّ أن يرجع النظري إلى الضروري.
وبذلك يتّضح: لا بدّ من الاستناد إلى الضرورات العقلية التي ينتهي إليها الاستدلال، وثبوت تلك القضايا الضرورية في الواقع لا يمكن تصوره إلا مع وجود المطلق؛ لأنّها لا تكون إلا مطلقة، والمطلق لا يثبت إلا بالمطلق، إذ النسبي لا يمكن أن يكون مستندًا لثبوت المطلق؛ لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يوجد مطلق في الوجود إلا الله تعالى.
فيثبت: أنّ الإيمان بوجود الله و بخلقه للكون هو الأساس الأولي الذي تقوم عليه المعرفة البشرية، والضمان الحقيقي الذي لا يستقر النظام المعرفي ولا ينضبط إلا بوجوده.
الأصل الثالث - الاعتقاد بوجود الله تعالى ضرورة نفسية
ومعنى ذلك: أنّ الإنسان لا يمكن أن تطمئن نفسه إلا مع الإيمان بوجود الله تعالى، الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده.
قال تعالى: (الذينَ آمنوا وتطمئنُّ قلوبُهم بذكرِ اللهِ ألا بذكرِ اللهِ تطمئنُّ القُلوبُ)[الرعد: 28].
ولا شكّ أنّ كل إنسان له إرادة وقصد، لأنّ ذلك من لوازم الحقيقة الإنسانية، فلا يمكن أن يوجد إنسان ولا إرادة له.
والإرادة والقصد من المعاني الإضافية التي لا تتصور إلا مع وجود متعلق مراد ومقصود، ولكنّ المراد لا يخلو من أحد حالين: إمّا أن يكون مرادًا لغيره، وإمّا أن يكون مرادًا لذاته، ولا بدّ للإرادة الإنسانية أن تنتهي في تعلقها إلى مراد لذاته؛ لأنّ تعلقها بشيء مراد لغيره يجعلها في اضطراب مستمر وبحث دائم عن الذي تنبع منه كل المرادات والتعلقات.
وعلى هذا الأساس، فإنّه لا يمكن أن يكون المخلوق مرادًا لذاته؛ لأنّ وجوده ليس من ذاته، لأنّه كان معدومًا ثم وجد وسيلحقه العدم، فلم يبقَ إلا أن يكون المراد لذاته قديمًا مستغنيًا بنفسه عن غيره، ولا يوجد من يتّصف بذلك إلا الله تعالى.
الأصل الرابع - الاعتقاد بوجود الله تعالى ضرورة أخلاقية اجتماعية
ومعنى هذا: أنّ الناس لا يمكن أن يأسسوا لأنفسهم نظامًا أخلاقيًا صالحًا لضبط سلوك الإنسان إلا مع الإيمان بوجود الله تعالى.
قال تعالى: (وتَعاونوا على البِرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعدوانِ واتّقوا الله إنّ الله شديدُ العقابِ)[المائدة: 2].
ولا شكّ في أنّ الأخلاق مكوّن ضروري من مكوّنات الحياة الإنسانية، ولا يمكن تستقيم مسيرة الحياة إلا بالأخلاق الصالحة، إذ إنّ الإنسان هو الكائن الحيّ الوحيد الذي يملك نظامًا كاملًا عن الأخلاق، بل إنّ أقوى ما يتميّز به الإنسان عن البهيمة هو مبدأ طلب الصلاح والبحث عن الكمال والاستقامة، وإنّما يكون ذلك كله بالأفعال الأخلاقية.
والمنظومة الأخلاقية هي القوة الروحية التي استطاعت أن ترفع مستوى الإنسان عن مرتبة البهيمية إلى مستوى أرقى في التعامل في الحياة، وكل التصرفات الإنسانية الحياتية مبنية على الأخلاق، فلا حياة للإنسان بلا أخلاق.
وعليه، فإنّ النظام الأخلاقي لا يمكن أن يكون إلا مع الإيمان بوجود الله تعالى؛ لأنّ المبادئ الأخلاقية لا بدّ أن تكون متّصفة بالإطلاق والثبات، بحيث تكون معتبرة في كل زمان ومكان، ولا يصحّ دخول النسبية في الأخلاق؛ لأنّ دخولها يؤدي إلى ضياع الصواب والخطأ، وينتهي إلى المساواة بين الصالح والفاسد، ويغلق الأبواب أمام كل دعوات الإصلاح، ويفتح الأبواب أمام المفسدين، بحجة أنّ لكل فرد أو مجتمع أخلاقًا تخصّه، ولا يكون هناك مسوغًا لمنع أقبح الأفعال.
وبناءً على ذلك، فإنّ الوصول إلى المبادئ الأخلاقية المطلقة لا يمكن أن يكون إلا مع الإيمان بالله تعالى، ولا يمكن للعقل الإنساني المنكر لوجود الله أن يصل إليها؛ لأنّ الوصول إلى الإطلاق والثبات الشامل لكل زمان ومكان؛ يستلزم الإحاطة بكل شيء، والتجرد التام عن كل الأهواء والأغراض. والعقل الإنساني قاصر في علمه وتجرده، فلا بدّ أن يعتمد على غيره في الوصول إلى مرحلة الإطلاق. وعليه، فإنّ الله تعالى أساس الإطلاق في الكون ومصدر العدل فيه.
الأصل الخامس - اتّصاف الله تعالى بالكمال المطلق
والمراد منه: أنّ الله متّصف بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بأيّ وجه من الوجوه، بل إنّ الثابت له تعالى أعلى مراتب الكمال.
قال تعالى: (وللهِ المثلُ الأعلى وهو العزيزُ الحكيمُ)[النحل: 60].
فمعنى الكمال المطلق: هو عبارة عن اجتماع صفات الكمال كلها في ذات واحدة، وانتفاء صفات النقص عنها.
ولا شك في أنّ كماله تعالى نابع من ذاته لا من أحد سواه؛ لأنّه مستغنٍ عن غيره، بل كل شيء مفتقر إليه، فما له من الكمال لا يمكن أن يكون من غيره، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، وما كان من ذاته فهو ملازم له، وذاته قديمة الوجود، فكماله لا بدّ أن يكون قديم الوجود لا ينفك عنه.
وكذلك أنّ الله تعالى خالق الوجود كله، والخلق يستلزم كمال الحياة؛ لاستحالة وجود الخلق العظيم من دون الحياة، ويستلزم أيضًا كمال العلم؛ لامتناع وجود هذا الخلق العظيم المتقن الجاري على سُنن مستقيمة مع الجهل أو نقص العلم، ويستلزم أيضًا كمال القدرة؛ لاستحالة انتقال الكون العظيم من العدم إلى الوجود بغير قدرة توجب ذلك، ويستلزم أيضًا كمال الإرادة؛ لامتناع وجود هذا الكون العظيم في وقت محدد وصفة محددة ونظام محدد مع عدم الإرادة والقصد، ويستلزم كمال الحكمة؛ لاستحالة أن يكون ما موجود في الكون من خير ودقة وانتظام ووضع لكل شيء في موضعه من غير أن يكون ذلك نابعًا عن حكمة بالغة. واجتماع هذه الصفات في ذات يستلزم ثبوت سائر الكمالات؛ لأنّها أصول الكمال وأساسه.
ولا ريب في تطلع النفس الإنسانية إلى الارتباط بالكمال المطلق، نعم إنّها قد تُخطأ في تشخيص الطريق، فتتصور أنّ ما ليس بكمال مطلق كمال مطلق.
ومع صحة تشخيص الطريق للوصول إلى الكمال المطلق، فإنّه يتعذر على المخلوقين الإحاطة بكمال الخالق عزّ وجلّ.
والاعتقاد بهذه الحقيقة قائم على أصول عقلية يقينية تستلزم الإقرار بالعجز عن الإحاطة بكمال الله تعالى؛ لاستحالة إحاطة المحدود باللامحدود.
بل إنّ المخلوقين لم يستطيعوا إدراك تفاصيل الكون، وقد تواترت أقوال العلماء التجريبيين وغيرهم في الإقرار بأنّ الكون ما زال مليئًا بالأسرار والألغاز، وأنّ الإنسان مع تقدمه الكبير في العلم لم يدرك إلا قدرًا ضئيلًا منه.
ومن الواضح أنّهم إذا عجزوا عن الإحاطة بالكون الذي هو فعل من أفعال الله تعالى، فلا يمكنهم أن يحيطوا علمًا بالخالق وبكماله، بل إنّ عجزهم عن البلوغ إلى ذلك أشدّ وأبعد.
ولازم ذلك: أنّه لا يصحّ عقلًا أن يعترض الإنسان على أفعال الله وتدبيره للكون، لأنّه إن عجز عن فهمها أو إدراك حكمتها، فإنّه يجب عليه التسليم والإذعان لخالقه.
اترك تعليق