تنـزيه الذات الإلهيّة من النهاية وعدمها!

إنّ الله سبحانه وتعالى لا يُحاط بحدٍّ، ولا يُقاس بمقدار، ولا يُوصَف بزمانٍ أو مكان؛ لأنّ هذه الحدود والمقادير إنّما هي من صفات الممكنات المخلوقة، أمّا البارئ سبحانه فمُنزَّهٌ عن الحوادث وكلّ ما يَعرض لها، ولايجري عليه جميع ما يجري عليها من حدّ وامتداد وتجزّئ وما يلازمه، ومن أيّ توقّف أو تعاقب، وشدّة أوضعف، وسعة أو ضيق، وهكذا.

فهو الذي ليس كمثله شيء، ولا تدركه الأبصار، ولا يحدّه وهم، ولا يبلغه فكر، وهو الذي قبَّل «القَبل» فلا قبل له، وبعَّد «البَعد» فلا بَعد له، وإنّه أعظم وأقدس من أن يُحاط بفكرٍ بكيف وحدّ وأين وكم.

متاهة الذهن البشري المنقطع عن معارف الوحي وخبر السماء: 

يدرك العقل السليم أنّ لكلّ موجودٍ حادثٍ سبباً ومؤثّراً، غير أنّ الإنسان إذا نظر في هذا العالم دون أن يسترشد بنور براهين الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، تاه في فكره وضلّ عن سواء السبيل.

فقد يتوهّم أنّ هذا العالَم بنفسه واجب الوجود، وأنّ أجزاء الكون هي تجلّياتٌ وتعيّناتٌ للوجود الواحد؛ فيخلط بين الخالق والمخلوق، ويقع في وهمٍ كبيرٍ يُسمّى: «وحدة الوجود»، الباطلة بجميع تقريراتها الفلسفية والعرفانية.

احتمالان ناقصان: 

وبعبارة أخرى: عندما يحاول الذهن أن يتصوّر علاقة الخالق بخلقه دون هداية الوحي، لا يجد أمامه إلاّ احتمالين ناقصين:

الأوّل: أن يتصوّر الخالق منفصلاً عن خلقه بعد أن أوجدهم، كالمجسِّم الذي يتخيّل خالقاً جالساً في السماء يراقب مخلوقاته من بعيد، وينزل إليهم تارة ويصد إلى عرشه أخرى، وهذا تصوّر باطل لا يليق بساحة الكبرياء، وضعفه بيّن لدى العقلاء.

الثاني: أن يتوهّم أنّ الله متّحدٌ بالعالَم، ولا وجود لشيءٍ سواه، وهذا أيضاً باطل؛ لأنّه يُنكر حقيقة الخلق والحدوث والإيجاد.

بل إنّه فاسد من أصله، لأنّ التناهي واللاتناهي من صفات الكمّ، والله تعالى منزَّهٌ عن الكمّ والمقدار، فلا يُقال بشأنه متناهٍ ولا غير متناهٍ بما يشمل الامتداد والسعة؛ لأنّه ليس معدودًا.

فالفرق الأساسي بين الخالق والمخلوق يكمن في الحقيقة المقدارية للحوادث؛ قال تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ» ‏(سورة الرعد: ٩).

هذه الآية العظيمة تُعلن أن كل شيء سواه سبحانه محدودٌ مقدّر، أمّا الله تعالى كما قال مولانا أمير المؤمنين وإمام الموحّدين عليه السلام: «لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً...، بَلْ كَبُرَ شَأْناً وَعَظُمَ سُلْطَاناً» 

نهج البلاغة: الخطبة ١٨٥.

وأما وصفه تعالى بـ: "المتعال"؛ فهو إعلانُ علوّه بمعنى تنزّهه عن الزمان والمكان والمقدار ونحو ذلك؛ كما قال مولانا أمير المؤمنين ووصيّ رسول ربّ العالمين: «تَعَالَى عَمَّا يَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْدَار».

نهج البلاغة، الخطبة ١٦٣.

التوحيد الخالص: 

هكذا يتجلّى التوحيد في صورته النقيّة: لا تعطيل ولا تشبيه ولا تجسيم ولا حلول ولا اتحاد ووحدة، بل هو قربٌ لا مسافة فيه، وإحاطةٌ بلا امتزاج، وعلوٌّ بلا انفصال، واقرار بالمعرفة التنزيهية دون تصوّر بالكمّ والكيف.

وبهذا التنزيه يثبت التوحيد الخالص؛ إذ كلما أراد الذهن أن يتصوّره سبحانه، يُقر عقل صاحبه المؤمن بأنّه تعالى منزّه عما يتوهّمه الفكر؛ فيصاب بالحيرة الذهنية الحقيقية في نفس الآن الذي يقرّ عقله به تعالى بالتنزيه؛ فيقول: سبحان الله عمّا يصفون، والله أكبر من أن يوصف، فيخرّ ساجدًا على أثر هذه الحيرة الذهنية التي حصلت له من خلال المعرفة التنزيهية التي جاء بها الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وهذا هو التوحيد، وبهذه المعرفة يعرف المؤمن معنى: سبحان الله، والله أكبر؛ فيلتذّ بما يقوله عن معرفة في عباداته؛ إذ لا يبقى بعد الحيرة والإقرار إلا العبادة والخضوع والخشوع. 

 ودمتم في رعاية الله تعالى.

: الشيخ علي الحسون