الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين..
العلم سور يُحصِّن الإنسان من الزلل ويحفظه من السوء والخلل، وبه يتسامى الإنسان تألقًا نحو الكمال المنشود، والإنسان العالم هو ذلك الشخص الذي ينير لمن حوله، كأنَّه الشمس يستدلُّ بنورها الآخرون، ومن هنا شدَّد الإسلام على طلب العلم والسعي إليه، وأعطى للعالم منزلةً لا تدانيها منزلة، وهذا واضحٌ لكلِّ من يطَّلع على آيات القرآن الكريم أو السُّنَّة النبوية، وأمَّا في مقالتنا هذه فسنحاول قراءة أهميَّة العلم وآدابه مع الزهراء (عليها السلام)، التي كانت محورًا علميًّا للنساء في المدينة المنوَّرة فكانت تعلّم النساء ما يشكل عليهنّ من الأحكام الشرعيّة والمعارف الإلهيّة الضروريّة، وكان يغشاها نساء المدينة وجيران بيتها([1])، وكانت تنقطع لتعليم النساء فلا تمل أو تضجر من ذلك؛ بل كانت تؤسِّس لترصين آداب العلم والتفقه لدى النساء، وممَّا أُثر عنها في هذا الصدد ما ورد عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بقوله: ((حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت: إنَّ لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك فثنَّت فأجابت، ثم ثلثت فأجابت، إلى أن عشَّرت فأجابت، ثمَّ خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول الله، قالت فاطمة (عليها السلام): هاتي وسلي عمَّا بدا لك، أرأيت من اكترى يومًا يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه مائة ألف دينار أ يثقل عليه؟ فقالت: لا . فقالت (عليه السلام): اكتريت أنا لكلِّ مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤًا فأحرى أن لا يثقل عليَّ، سمعت أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنَّ علماء شيعتنا يحشرون، فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، وجدهم في إرشاد عباد الله، حتَّى يخلع على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نــور، ثمَّ ينادي منادي ربنا (عزَّ وجل): أيُّها الكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم [كما خلعتموهم] خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم، حتَّى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثمَّ إنَّ الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم وتضعفوها، فيتمُّ لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من بمرتبتهم ممن يخلع عليه على مرتبتهم، وقالت فاطمة (عليها السلام): يا أمة الله إنَّ سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة، وما فضل فإنَّه مشوب بالتنغيص والكدر))([2]) .
فالزهراء (عليه السلام) تقول بصيغة غير مباشرة إنَّ على العالم أن لا يضجر من كثرة السؤال حتَّى وإن بلغت الأسئلة عددًا كبيرًا، وعليه أن يكون مصغيًا لسائله مجيبًا له ومقبلًا عليه، وقد أعطت الزهراء (عليه السلام) درسًا للعلماء بأنَّ كلَّ إجابة لها من الأجر عند الله تعالى ما لا يُحصى، وضربت لذلك مثالاً في غاية الروعة، وهو أن لو شخصًا يعمل بنقل حمولةً ثقيلةً إلى السطح، وعلى كلِّ نقلةٍ له من المال مائة ألف دينار، وهو رقم كبير جدًّا بحسب مقايس ذلك العصر، ولو اقترحنا مبلغًا يوازي الفرق بين عصرنا وعصر الزهراء والفارق بينهما لكان مبلغًا كبيرًا جدًّا في أرقامنا الحاليَّة، ثمَّ جعلنا عوضًا عن كلِّ إجابةٍ يُجيبها العالم على سؤالٍ يرد إليه؛ فستكون النتيجة أنَّ العالم سيفرح كُلَّما ورد إليه سؤال، ولن يُظهر الضجر أو التعب أبدًا؛ بل سيكون مقبلًا بكلِّ فكره وعواطفه على السائل، بل يترقَّى الأمر أكثر حتَّى يكون العالم فرحًا بكلِّ سؤالٍ يرد إليه، وكلَّما ازدادت الأسئلة يزداد فرحًا وبهجةً وسرورًا . هذا بالنسبة فيما لو كان الأجر بهذا الشكل في هذه الدُّنيا الفانية فكيفما لو كان الأجر أضعاف هذه الأرقام كميَّة ونوعيَّة وديمومةً فإنَّ الأمر سيزيد من فرح العالم وسعادته بكثرة الأسئلة الواردة إليه، وهذا ما أوضحته الزهراء (عليها السلام) بأنَّ الأجر في الآخرة لا قياس فيه مع الأجر المفترض في عالم الدُّنيا، والله يُضاعف لمن يشاء .
ثمَّ تأتي الزهراء (عليها السلام) لتبيِّن أجر العلماء عند الله تعالى بصورةٍ تجعل الإنسان يتحسَّر أسفًا فيما لو لم يكن عالمًا؛ ولكن نقول لهؤلاء إنَّ الأمر لم يفتهم وما زال الوقت متَّسِعًا لأن ينضمُّوا لهذه الفئة، وما عليهم إلَّا أن يُشمِّروا عن سواعدهم ويعقدوا النيَّة على اكتساب العلم والسعي من أجله . وهناك درسٌ آخر يمكن أن نفهمه من حديث الزهراء (عليها السلام) وهو أن تكون النية في اكتساب العلم لله وحده لا شريك له وإلَّا سيكون هذا العلم وبالًا على صاحبه، وفي هذا المعنى يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِه الْعُلَمَاءَ، أَوْ يُمَارِيَ بِه السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِه وُجُوه النَّاسِ إِلَيْه، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ))([3]) . فالعلم يجب أن يكون لله وحده؛ لكي يحصل على ما يصبو إليه من الأجر عند الله تعالى.
([1]) ينظر: شرح ابن أبي الحديد: ٩/١٣٤.
([2]) بحار الأنوار: 2/3
([3]) الكافي: 1/47 .
اترك تعليق