البصيرة والبصر وأثرهما في ادراك الحقائق

البصيرة والبصر مفهومان مهمان لهما وجه اشتراك ووجه افتراق، وأثرهما كبير في ادراك الحقائق التي من خلالها يكون الانسان في أمان في الدارين، سنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء عليهما، وبيان العلاقة بينهما مستعينين في كلِّ ذلك بهدي ومعارف القرآن الكريم، وبالسنّة الشريفة المطهرة لمحمد وآل محمد (عليهم السلام).

أهمية البصيرة في ادراك الحقائق:

البَصِيرة في اللغة: (عقيدة القلب، قال الليث: البصيرة اسم لما اعتقد في القلب من الدين وتحقيق الأمر، وقيل: البصيرة الفطنة)(1)، (يقال للجارحة الناظرة، وللقوة التي فيها ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر)(2).

أمّا اصطلاحاً: فالبصيرة هي ادراك الحقائق واشراف القلب عليها.

وعلى هذا فالبصيرة ترتبط بكشف الحقيقية وعلم الباطن، وتعدُّ من الضرورات التي لا يمكن أن يتخلى عنها الفرد الطالب للكمال والنجاة؛ لطي طريق الحق، وتكتسب أهميتها وضرورتها لكونها كاشفة عن الحقائق، فالبصيرة تختلف عن البصر إذ تتعلق بالنظر الباطني، ويطلق عليها البعض (العين البرزخية) والتي تكون فيها المعلومات حاضرة بأصلها، وليست تحصيلية مكتسبة فلا علاقة للخزين المعلوماتي لدى الفرد بتحصيلها، ولا علاقة للتحليل والبراهين للوصول للمعلومة، بضم المقدمات والخروج بنتائج لمعرفة الواقع وادراك الحقيقة.

 لقد استخدمت كلمة البصيرة في القرآن الكريم بصيغة الجمع (البصائر) في خمس آيات، وقد ارتبطت جميع الآيات بالكتب السماوية وما جاء به الرسل فوصفتها بصائر، فقد قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}(3)، وكذا قوله تعالى:{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(4).

 أمّا كلمة بصيرة بصيغة المفرد فقد أشار لها القرآن الكريم في آيتين مباركتين، الأولى في قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}(5)؛ فلشدة معرفة الإنسان بأعماله لتعلقها بنواياه التي لا تحتاج لاحتمالات ظنية فكان بصيرة على نفسه، أي ذو معرفة واطلاع تام بنفسه، والثانية في قوله الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(6)، فقد بيّنت الآية مسألة ومعطى تعتبر من أهم المسائل والمعطيات التي يتمتع بها الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام)، ومن تبعهم وحمل إرثهم وفكرهم ورسالتهم من العلماء الرساليين، فسبيل الدعوة الى الله عز وجل وعرض المشروع الإلهي على الناس، لا بُدَّ أن يكون عن بصيرة ودراية؛ ليتم من ذلك أمور:

 الأمر الأول: شعور القائد ببراءة ذمته وارتياح ضميره واطمئنان قلبه بأحقية ما يدعو إليه؛ ممّا يدفعه للتناغم الجدي مع هدفه الذي يدعو إليه، ومشروعه الذي يتبناه، وبدوره سيبدع في الطرق والوسائل والأساليب المتخذة للدعوة بما يتناسب مع أهمية المشروع والهدف، وبالطرق الجاذبة لا الطاردة، والسليمة لا السقيمة، والصحيحة لا الخاطئة؛ ممّا يجعل التأثير أكبر وأبلغ في نفوس المستهدفين.

الأمر الثاني: تأكد الآخرين من سلامة معتقدهم والمشروع الذي ينوون الالتحاق به، ويسيرون فيه؛ فيضمنوا بذلك الوصول إلى المبتغى والمراد بصورة سليمة وسريعة، فقد ورد عَنِ الْإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَلَا يَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً)(7).

الأمر الثالث: حصول الفائدة المتوخاة من الدعوة (تحقيق الغاية) من خلال ابراز السبل التي تعمل على اقناع المدعو من مصداقية المشروع والدعوة التي يتبناها ويشرف عليها الداعي ومن خلال طرح الأدلة عليها بقوة ومتانة؛ مما يسهم في هداية الآخرين.

إنّ المعرفة التامة بما يدعو إليه القائد لا بُدَّ أنْ يكون عن بصيرة حقة، أو قل عن علم ويقين، لا ظنون؛ فالظن لا يغني عن الحق شيئاً، فقد قالت الآية: {عَلَى بَصِيرَةٍ}، حيث تنتج وتعمل البصيرة نتاج وعمل البوصلة، فالبوصلة تحدد المسار الدقيق والصحيح الذي لا بُدَّ أن يسلكه الإنسان؛ فبحصوله على الاتجاه الصحيح يأمن عن التيه والضلال في البحار والقفار، وكذا يكون عمل البصيرة.

فالبصيرة سمة وميزة يجب أن يتمتع بها القادة، والداعين إلى الحق، بل هي من أهم السمات التي يمتلكها هؤلاء القادة، والتي تميزّهم عن الزعامات والقيادات الأخرى، وتُعرِّف الأمة كيف يفرقون ويميزون القيادات الحقة عن القيادات ذات المنافع الدنيوية، والطالبة لزخارف الدنيا بلباس واسم الدين.

لقد بيّنت الآية الكريمة بأنّ محور هذه البصيرة هو الله، فهي من الله تعالى، والى الله تعالى، وما دام الداعي على بصيرة من ربّه فلا يوجد تخبّط في مسيرته، ولا يوجد تناقض أو تضاد في أهدافه، ولا تحرّكه النزوات والشهوات والانفعالات النفسية، ولا يؤثر عليه كثرة من حوله أو قلّتهم، كما لا تؤثر عليه هتافات أو شعارات الناس، ولا تزويق وتزيين المتزلفين، ولا تخدعه المكـائد والحيل من قبل المرجفين والرافضين لهذا الاتجاه، وكلّ هذا لا يُدرك من دون عناية الله ولطفه.

لقد بيّنت الآية أنّ البصيرة سبيل ومنهاج من يريد أن يقتفي أثر رسول الله، ويدعو بدعوته: فقال: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فهو تكريم وتشريف لهم بكونهم على بصيرة نتيجة للاتباع المطلق للرسول (صلى الله عليه وآله) فلحقوا به وكانوا امتداداً لدعوته المباركة، وبيان معالم سبيل الله، فطريق الهداية الذي ينادون به متحد ومشتق من سبيل ومعالم الهداية المحمدية، وأعلى مراتب البصيرة لدى المعصومين من آل محمد (عليهم السلام)، فهم المصداق الأعلى، والانطباق التام لقوله تعالى {وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، فعَنْ سَلَّامِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي} قَالَ: (ذَاكَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَأَمِيرِ الْمُؤْمنِيِنَ (عَلَيْهِ السَّلَامَ) وَالْأَوْصِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِمْ)(8).

فهؤلاء أهل البصائر، الواجب على الخلق اتباعهم والأخذ عنهم، قال تعالى: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(9).

أهمية البصر في إثراء المعلومات وادراك الحقائق:

يُعتبر البصر أهمَّ حاسةٍ يمتلكها الإنسان في ادراك الحقائق من بين حواسه المادية، أو قل الظاهرية؛ لأنّ البصر آلة يستعملها الإنسان بصورة مباشرة للأحداث، إذ يرى ما يقع أمامه من مجريات وأحداث؛ فيكون أوثق في تحديد المعطيات والنتائج، ولكون البصر مرتبطاً بالزمان الحاضر فلا يتمكن الفرد من رؤية الماضي أو المستقبل أو ما لا يكون أمامه عياناً إلا من تفضل عليه الله، ويلِي البصر في الأهمية والتراتبية لإدراك الحقائق السمع؛ لأنّ السمع لا يتقيد بالحضور في المكان، إذ قد يسمع من فلان عبر الهاتف وما شاكل ذلك، وقد يسمع بعض الكلام؛ فلا يُحصّل المعرفة التامة بتمام الحدث.

وبما أنّ هاتان الحاستان تقعان على رأس الحواس؛ فقد تكرّر ذكرهما في القرآن الكريم ووصف الله تعالى نفسه بأنَّه (السميع البصير)، أمّا الأدلة على أهمية البصر وتقدمه على بقية الحواس في ادراك الحقائق، فقد قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(10)، فيمكن القول بأنّ الآية ناظرة إلى أنّ ما يكشف للمرء عند الموت نتيجة لكشف الغطاء، ورفع الموانع الدنيوية؛ قوته كقوة الحديد، أو دقيق فحديد بمعنى التحديد، وأيضاً يمكن الاستدلال بما بيّنه الله من حالة اليقين التي امتلكها نبيه الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) عند عروجه ودنوه، فقال تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}(11)؛ فلأهمية البصر في المعرفة الحقة وصف الله بصره بالثبات والتثبت في كشف المعطيات، وقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ. أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَتُخْطِئُ السِّهَامُ وَيُحِيلُ الْكَلَامُ، وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَاللَّهُ سَمِيعُ وَشَهِيدُ. أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ، فَسُئِلَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا، فَجُمِعَ أَصَابِعَهُ وَوَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ)(12).

 وقد يقول قائل: أليس حاسة السمع مقدمة على حاسة البصر في القرآن الكريم عند اجتماعهما، وكذا مسألة تأثر الجنين وهو في بطن أمه عن طريق حاسة السمع في حين أنّ البصر يكاد يكون منعدم الفائدة، فلماذا يتقدم البصر على السمع في الأهمية؟

والجواب: إنّ لفظي السميع البصير قد جاءت في القرآن الكريم في أحد عشر آية، عشرة آيات ارتبطت بالله فيكون السمع والبصر من الأسماء الإلهية التي تبيّن الإحاطة والعلم الإلهي فلا تفريق في ادراك الحقائق بالنسبة لله من حيث علم الله فكلاهما ينتجان معرفة تامة، وآية واحدة اختصت ببيان تقديم سمع الإنسان على بصره وهي مرتبطة بعالم الأجنة، فقد قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}(13)، ويمكن القول بأنَّ التقديم قد جاء للعلّة التكوينية والإنشائية بنمو واكتمال حاسة السمع قبل حاسة البصر لدى الإنسان وهو جنين، بما يلائم مكان تواجده في ظلمات الرحم، وعدم البصر لكونه في ظلمة محيطة به في رحم الأم ممّا يستلزم عدم الابصار، فقد قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}(14)، في حين أنّ السمع لا دخل للنور فيه؛ فهو يستفيد من حاسة السمع قبل حاسة البصر، ومن هنا يتأثر الجنين في بطن أمه بسماع القرآن الكريم، بل حتى بعد الولادة مباشرة يؤذن في أذنه عند الولادة لمعرفته العالم بحاسة السمع وضعف البصر عن تلقي النور والضياء في أول ساعات الولادة.

وهنا لا بُدَّ من طرح سؤال مهم، هل كلّ ما يبصره الإنسان هو عبارة عن الحقيقة الواقعيّة فتترتب الآثار على ما يراه؟

والجواب: إنّ البصر آلة ووسيلة في كسب المعلومات، وهنالك محطة وواسطة لفهم الأمور الخارجية توقع التحليل على ما تشاهده، وتعطي أحكاماً؛ نتيجة للمعطيات التي حصلت عليها ظاهراً، وبعض علماء النفس يطلقون على هذه الواسطة (النظام الإدراكي)، أو قل النظام العقلي المودع من قبل الله لدى الناس، وقد عرف الإدراك بمعالجة الدماغ للمعلومات التي تأتي من الحواس، بحيث يقوم النظام العصبي المركزي المعقد على تحديد وتنظيم وتفسير المعلومات لفهم العالم المحيط بنا.

 فهو بالنسبة للبصر نظام يقوم بتفسير المرئي وتحليله، واختلاف التفسير والتحليل هو منشأ الاختلاف ما بين الناس فيما يحكمون به نتيجة لفهمهم، وما لديهم من خزين معلومات يعتمدونها في فهم الحدث، فأنا حينما يقع بصري على شيء ما، فهنالك ثلاثة أمور ألاحظها:

الأمر الأول: الواقع الخارجي.

الأمر الثاني:  التصوّر الحاصل في الذهن.

الأمر الثالث: هو الواسطة أو الأداة ما بين هذين الأمرين، وهي النظام الإدراكي الذي يقوم بتفسير الصورة القادمة إلى الذهن، وبما أنّ هذا النظام يتأثّر بعوامل عدّة؛ فنتائج التصوّرات ستختلف.

وينبغي الإشارة إلى قضايا مهمة وينبغي مراعاتها عند تفعيل حاسة البصر؛ لكونها رافداً مهماً للإدراك والوصول للنتائج الحقيقية والواقعية:

القضية الأولى: التأكّد ممّا تواجه، فإن كان محسوساً، فلا بُدّ من التأكدِ من سلامة الحواس، وتركيزها عليه دون غفلة.

القضية الثانية: صحة المعلومات المخزنة سابقاً في الذهن، والبحث والاستعانة بمعلومات أخرى جديدة تتصف بالسلامة، والدقة والواقعية في حالة الاحتياج.

القضية الثالثة: الاعتناء بكلّ الاحتمالات الأخرى، وعدم الاستهانة بها، والتي قد تساهم في كشف الحقائق المغيبة.

وجه الاشتراك ووجه الافتراق بين البصيرة والبصر:

يمكن القول بوجود وجه افتراق بين البصيرة والبصر، فهما مفهومان متقابلان، فالأول بالقلب أو اعمال العقل والفكر والثانية بالعين المجردة.

 كما يمكن القول بوجود وجه اشتراك بين البصيرة والبصر بأنَّهما منتجان للعلم؛ فقد يصيران كالشيء الواحد من خلال نتاجهما وأثرهما؛ وذلك لإنتاجهما العلم والمعرفة، وقولنا البصر المنتج للعلم لإخراج النوع الآخر من البصر؛ إذ ليست كلّ رؤية ونظر منتجة للعلم والمعرفة، قال تعالى {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}(15)، فهم كالأنعام لهم عيون ينظرون بها إلا أنَّهم لم يستفيدوا علماً أو معرفة مع وجود الاستعدادات والامكانات لديهم، وكذا البصيرة سلاح وسبيل للمعرفة والرقي والتكامل فعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لَيْسَ الْأَعْمَى مِنْ يَعْمَى بَصَرِهِ، إِنَّمَا الْأَعْمَى مِنْ تَعْمَى بَصِيرَتُهُ)(16)، فكم من موقف ينظر اليه الكثير إلا أنّ القليل ممن يعتبر ويتدبر ويتأمل، وقال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا}(17)، فهي وإن كانت مفتوحة وينظر بها الى الأشياء من حوله إلا أنّه يستخدمها في الأمور الحسية، ولا ينطلق بها للمعرفة التامة؛ فهو لا يستخدمها في الغرض الأولي والحقيقي والذي أعدّت لأجله من المعرفة التي قال عنها الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(18)، نعم هو يستخدمها في أمور ثانوية وجانبية وعرضية، استعمال في جهات محددة وضيقة.

المراتب والمقتضيات الذاتية للبصيرة:

تتفاوت مراتب البصيرة عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في حمل وفهم فكرهم المبارك النير، والدعوة الى الله بحسب امتلاكهم لعوامل وصفات تؤهلهم للقرب من أئمتهم وقادتهم وسادتهم؛ فيعطوهم ويفرغون عليهم ممّا آتاهم الله من فضله؛ لاتصالهم بالمعين الذي لا ينضب، ولتمسكهم بحبل الله الذي لا ينقطع.

ومن تلك العوامل والصفات التي ينبغي امتلاكها والتخلق والتحلِّي بها لكلّ من يسعى لإدراك البصيرة هي:

العامل الأول: التقوى والورع والقرب من الله

التقوى من الاتقاء، وتُعتبر التقوى المرتبة الأولى من مراتب الورع وهي تجنب المحرمات وأداء الواجبات، إذ تمثل التقوى الحصن الحصين الذي يمنع الفرد من الولوج في المعاصي، ممّا تنعكس عليه إيجاباً، وبهذا يضمن أن تكون سريرته نقية فلا يضل الطريق، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}(19)، بل التقوى تكون عاملاً مهماً لرفد الفرد بالعلم الذي هو أحد سبل كسب البصيرة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}(20)، وقد ورد في الرواية عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: (كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَذَكَرْنَا الاعمال، فَقُلْتُ أَنَا: مَا أَضْعَفَ عَمَلِي، فَقَالَ: مَهْ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ لِي: إِنَّ قَلِيلَ الْعَمَلِ مَعَ التَّقْوَى خَيْرُ مِنْ كَثِيرٍ بِلَا تَقْوَى، قُلتُ: كَيْفَ يَكُونُ كَثِيرُ بِلَا تَقْوَى؟ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): نَعَمْ مِثْلُ الرَّجُلِ يُطْعِمُ طَعَامَهُ وَيَرْفُقُ جِيرَانَهُ وَيُوَطِّئُ رَحْلَهُ فاذا ارْتَفَعَ لَهُ الْبَابُ مِنَ الْحَرَامِ دَخَلَ فِيهِ فَهَذَا الْعَمَلُ بِلَا تَقْوَى، وَيَكُونُ الْآخَرُ لَيْسَ عِنْدَهُ فاذا ارْتَفَعَ لَهُ الْبَابُ مِنَ الْحَرَامِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ)(21).

إنّ الورع حال للعبد أخص من التقوى، وأعلى درجة تمنحه عدم الاقتحام للشبهات، وهي أساس التقوى، وأعلى حالاته، فيكتسب الورع البصيرة؛ لأنه يدخل في ولاية أهل البيت ومقام المنية، ومن ثمارها دخول الجنة من دون حساب، فقد روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا مُوسى: إِنَّهُ لَنْ يَلْقَانِي عَبْدُ فِي حَاضِرُ الْقِيَامَةِ إِلَّا فَتَّشْتَهُ عَمَّا فِي يَدَيْهِ، إِلاَّ مَنْ كَانَ مِنْ الورعين، فَإِنِّي استحييهم وَأَجَلُهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسابٍ)(22)، وقد بيّن العلامة المجلسي (رحمه الله)(23): بأنَّ للورع أربع درجات:

الأولى: ورع التائبين: وهو ما يخرج به الإنسان من الفسق وهو المصحح لقبول الشهادة.

الثانية: ورع الصالحين: وهو الاجتناب عن الشبهات خوفا منها، ومن الوقوع في المحرمات. الثالثة: ورع المتقين: وهو ترك الحلال خوفاً من أن ينجر إلى الحرام، مثل ترك التحدث بأحوال الناس مخافة أن ينجر إلى الغيبة.

الرابعة: ورع السالكين: وهو الإعراض عما سواه تعالى خوفاً من صرف ساعة من العمر فيما لا يفيد زيادة القرب منه تعالى.

إنّ القرب من الله من أهم الطرق والوسائل التي يكتسب الفرد من خلالها البصيرة فقد ورد (ما زال عبدي يتقرب الي حتى أكون سمعه)، والمعنى الجميل والدقيق للقرب هي أن يكون حضور الله لدى العبد؛ ليؤثر في سلوكه وقربه بالعمل بالطاعات واجتناب المحرمات، فعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام):‌ (يَا إِسْحَاقُ خَفِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ،‌ فَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا يَرَاكَ؛ فَقَدْ كَفَرْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَرَاكَ ثُمَّ بَرَزْتَ لَهُ بِالْمَعْصِيَةِ؛ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مِنْ أَهْوَنِ النَّاظِرِينَ عَلَيْكَ‌)(24).

كما أنّ الارتباط بالمعصومين (عليهم السلام)، والتقرب إليهم بالسير على نهجهم وتعاليمهم يُعدُّ من موارد القرب لله، وله آثار بالغة في حياة الإنسان؛ فالأئمة (عليهم السلام) هم قادة البشر، ومرشدوهم في مسير الكمال، والارتباط بهم ممدوح، وممّا يطلبه العاقل.

وقد وردت تأكيدات كثيرة في الآيات والروايات تحثّ على هذا الأمر إلى درجة عُدّ فيه الاتباع ارتباطاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) وهو ارتباط بالله تعالى، والذي يورث القرب والحب الإلهي قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(25)، ومن يبلغ هذه المرحلة أي مرحلة القرب الإلهي فقد نال غاية في الكمال.

وقد ورد عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (مَنْ وَصَلَنَا وَصَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَمَنْ وَصَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَقَدْ وَصَلَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى)(26).

وكلّما أشتد ورع الإنسان كلّما دنا واقترب من سادته؛ فيدخلوه في الدائرة المطهرة لأهل البيت (عليهم السلام) والتي أدخلوا فيها من ارتضوه، فقد سأل ابن الكواء أمير المؤمنين (عليه السلام) عن سلمان قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ؟ قَالَ (عليه السلام): (بَخْ بَخْ سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَمَنْ لَكُمْ بِمِثْلِ لُقْمَانَ الْحَكِيمُ، عَلِمَ عِلْمُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرِ)(27)، ومن هنا ورد كلامهم لعيسى القمي بأنّ مقام المنيّة لا تنال أي فرد ينتحل التشيع فعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَدَخَلَ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيُّ فَرَحَّبَ بِهِ وَ قَرَّبَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ قَالَ: (يَا عِيسَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ مِنَّا - وَلَا كَرَامَةَ - مَنْ كَانَ فِي مِصْرٍ فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَحَدُ أَوْرَعَ مِنْهُ)(28)، فالورع يكسب الصفاء واكتساب النقاء من فيض المعصوم.

العامل الثاني: مخالفة الهوى، وتزكية النفس

 من وسائل تنوير البصيرة مخالفة هوى النفس من خلال مراقبة النفس والعمل على إصلاح عيوبها وأخطائها، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه)(29)، فمن المهم أن يخالف النفس ويتخذها عدواً له ولا يأمن لها؛ فيضل ويتردى، فقد قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}(30)، وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (مَنْ أَحَبَّ نَيْلَ دَرَجَاتِ الْعُلَى؛ فَلْيَغْلِبِ الْهَوَى)(31).

التزكية في اللغة: مصدر زكّى الشيء يزكيه، ولها معنيان:

المعنى الأول: التطهير، (زكاة المال معروفة، وهو تطهيره، والفعل منه زكى يزكي تزكية إذا أدى عن ماله زكاته غيره: الزكاة ما أخرجته من مالك لتطهره به، وقد زكى المال. وقوله تعالى: وتزكيهم بها، قالوا: تطهرهم)(32).

المعنى الثاني: النماء والريع، يقال زكّى المال يزكوا إذا نمى ومنه الزكاة لأنّها تزكية للمال وزيادة له، يزكو: كلّ شيء يزداد وينمي)(33).

التزكية في الاصطلاح: يعطي نفس المعنى اللغوي، فتزكية النفس شاملة لأمرين:

تطهيرها من الأدران والأوساخ.

تنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة.

لقد حثّ الله والسنّة المطهرة على تزكية النفس وطهارتها، فقال تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}(34)، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}(35)، وقال رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (بتزكية النَّفْسِ يَحْصُلُ الصَّفَاءِ)(36)، وبناء على ذلك فعلى الفرد أن يشتغل بتزكية النفس من خلال الاتصاف بالأخلاق الحميدة، وأن يتنزه عن الصفات الرذيلة؛ ليكسب الآثار الطيبة في الدنيا والآخرة.  

العامل الثالث: العزيمة وقوة الإرادة

إنّ ضعف الإرادة والقدرة، وعدم الاصرار والتصميم تمنع من البدء بأي مشروع وعمل كما تمنع الاستمرارية فيه، فإن ضعفت إرادتنا؛ فسيتدخل الشيطان ويصور لنا عبر الوهم أنَّ العبادة صعبة، أو أنَّ الاستقامة يستحيل تحصيلها، أو أنَّ تزكية النفس وطهارتها غير مطلوبة، أو أنَّ المهم هو العبادة الصوريَّة الخالية من المضمون، وهذه مشكلة كبيرة ومعقدة، ويكمن الحل بتقوية الإرادة التي تحتاج إلى بذل جهد كبير، وعناء شديد، وصبر واصرار واستمرار، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(37)، فجاهدوا: أي بذلوا جهد من خلال قوة الإرادة التي يمتلكونها، والاتسام بالعزيمة والاصرار؛ للوصول للمبتغى فيريهم الله بالبصيرة طريق الهداية.

العامل الرابع: العلم

العلم من العوامل المهمة في تنوير بصيرة الفرد والسير في الصراط القويم الذي أمر الله به، فعن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) في وصفه خلفاء الله قال: (هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رَوْحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلَانُوا مَا استعوره الْمُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةُ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى. أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ)(38)، وينبغي مراعاة أمر مهم في التعلم لكي يكون منتجاً للبصيرة وهو أن يكون العلم ممّا حثّ الشرع على تعلمه ليكون مورثاً للبصيرة، كتعلم القرآن والتدبر فيه، وأن تكون المقدمات صحيحة ومورثة لليقين، والعمل وفق ذلك العلم؛ فقد ارتبط العلم بالعمل وانعكس عليه، فقد قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(39)، فهذا ناتج عن علم غير مورث لليقين لأنَّ المقدمات خاطئة، أو لم يكن هنالك عمل بما علم، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (الْعِلْمُ مَقْرُونُ إِلَى الْعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمَل، وَمَنْ عَمِلَ عَلِمَ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ)(40)، ومعنى ذلك أنّ كلّ معرفة تثمر حالاً وصفاءً في النفس، وكل حال يحمل صاحبه على عمل وعبادة، وكلّ عبادة تثمر حالاً آخر وصفاء غير الأول، وهو يثمر معرفة أخرى غير الأولى، وهكذا يتكامل إيمان المرء بالمعرفة والعبادة حتى يبلغ الغاية، ويخلص من التعب والمشقة، ويستقر في مقام الأمن والراحة، ويصل إلى مراتب اليقين الثلاثة: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.

ومثل ذلك مثل من يمشي بسراج في ظلمة، فكلّما أضاء له من الطريق قطعة مشى فيها فيصير ذلك المشي سببا لإضاءة قطعة اخرى منه وهكذا، وفي الحديث النبوي (صلى الله عليه واله): (مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اَللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(41).

العامل الخامس: سلامة العقل والفكر

التغذية مهمة لجسد الانسان؛ لبقاءه وديمومته، وامداده بالطاقة اللازمة التي يتحرك بها ويعيش، وكذا العقل حتى وردت الروايات بأنّ مصدر الاثابة والعقاب تدوران مدار العقل، بل أنّ العقل شرط من شروط التكليف، والعاقل من يستعمل عقله ويتفكر بصورة سليمة، ومن هنا كانت الأفكار السقيمة مؤثرة على الفرد، لقد اشترط في العقائد أن لا يكون مقلداً للغير، وقد خاطب الله العقلاء في القرآن ودعاهم للتفكر في خلق السموات والأرض وفي أنفسهم وفق التفكر الأنفسي والآفاقي، وقد حثّت الروايات على العقل والتفكر والتدبر، وهذا يستوجب سلامة الفكر وخلوه عن الكدورات، والأفكار السلبية، وترك العناد واللجاج؛ اللذان يبعدان عن البصيرة وادراك الحقائق.

العامل السادس: قراءة القرآن والتدبر فيه:

خير وسيلة لتحصيل البصيرة هو التدبر في القرآن الكريم ومعرفة آياته، فإنّ المتكلم هو الله عز وجل، وقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بكونه بصيرة، قال تعالى: {هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(42)، وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ}(43)، وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ، وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ، ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي المهاوي، وَالضَّلَالِ فِي المغاوي)(44).

العامل السابع: الاستفادة من التاريخ

ومن موجبات البصيرة الاستفادة من المواعظ والعبر التي مرّت سابقاً، والاستفادة من قصص الماضين قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(45)، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}(46).

إنّ تسلسل الأحداث التاريخية وتكرار المواقف يكسب الفرد الخبرة الكافية لتخطي مجريات الأمور والأحداث، فلا ينبغي اهمال الماضي لما له من ترابط مع الحاضر، ولما له من تأثير كبير في كسب الأمان من الوقوع في المنزلقات، فالأحداث الماضية بمثابة الخريطة التي تعطي لكلّ فرد معطيات حقيقية وصحيحة يعتمد عليها كمعايير للتقييم بصورة حسنة وجيدة ومطابقة، فهي تكسب نوعاً من الرؤية الصافية التي تجلو الضبابية عن دائرة العمل، ومن هنا حثت الشريعة بفرعيها الكتاب والسنة على الاستفادة من قصص الماضين وتجاربهم، وقد بيّنا الآيات الكريمة أعلاه أضف لها قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(47)، أمّا الأحاديث ففي تفسير قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}(48)، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، وَلَا تخطئون طَرِيقَتِهِمْ شِبْرٍ بِشِبْرٍ، وَذِرَاعُ بِذِرَاعِ، وَبَاعَ بباع حَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ دَخَلَ جُحْرُ ضَبٍّ لدخلتموه، قَالُوا الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَمَنْ أَعْنِي لينقض عُرَى الاسلام عُرْوَةَ عُرْوَةَ فَيَكُونُ أَوَّلَ مَا تنقضون مِنْ دِينِكُمْ الْإِمَامَةِ وَآخِرُهُ الصَّلَاةِ)(49).

 

الهوامش:-------

([1])ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري, لسان العرب ج2 ص94.

([2])الراغب الأصفهاني, مفردات غريب القرآن ص ٤٩.

([3])سورة الأنعام, آية: 104.

([4])سورة الجاثية, آية: 20.

([5])سورة القيامة, آية: 14.

([6])سورة يوسف, آية: 108.

([7])الشيخ البرقي, المحاسن ج۱ ص۱۹۸.

([8])الشيخ الكليني, الكافي ج ١  ص ٤٢٥.

([9])سورة يونس, آية: 35.

([10])سورة ق, آية: 22.

([11])سورة النجم, آية: 17.

([12])الشريف الرضي, نهج البلاغة ج ٢ ص ٢٤.

([13])سورة الإنسان, آية: 2.

([14])سورة الزمر, آية: 6.

([15])سورة الأعراف, آية: 198.

([16])الشيخ محمد الريشهري, ميزان الحكمة ج ١ ص ٢٦٦.

([17])سورة الأعراف, آية: 179.

([18])سورة فصلت, آية: 53.

([19])سورة الأعراف, آية: 201.

([20])سورة البقرة, آية: 282. 

([21])الشيخ الحر العاملي,  وسائل الشيعة ج 15 ص241.

([22])الشيخ محمد الريشهري, ميزان الحكمة ج ٤ ص٣٥١٢.

([23])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج67 ص100.

([24])الشيخ الكليني, الكافي ج2 ص 68.

([25])سورة آل عمران, آية: 31.

([26])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج 16 ص336.

([27])أبو منصور الطبرسي, الاحتجاج  ج 1 ص 387.

([28])القاضي أبي حنيفة النعمان المغربي, شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار ج3 ص 501.

([29])علي بن محمد الليثي الواسطي, عيون الحكم والمواعظ ج1 ص120.

([30])سورة ص, آية: 26.

([31])الميرزا النوري, مستدرك الوسائل ج ١٢ ص ١١5.

([32])ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري, لسان العرب ج ١٤ ص ٣٥٨.

([33])المصدر نفسه.

([34])سورة النازعات, آية: 18.

([35])سورة الشمس, آية: 9.

([36])الشيخ محمد الريشهري, ميزان الحكمة ج ٢ ص١١٥٤.

([37])سورة العنكبوت , آية: 69.

([38])الشيخ محمد الريشهري, أهل البيت في الكتاب والسنة ص١٤٠.

([39])سورة الكهف, آية: 103، 104.

([40])قطب الدين الراوندي, الخرائج والجرائح ج۳ ص۱۰۵۸.

([41])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج40 ص۱۲۸.

([42])سورة الأعراف, آية: 203.

([43])سورة الجاثية, آية:20.

([44])الشيخ هادي النجفي, موسوعة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ج ٧ ص51.

([45])سورة القصص, آية: 43.

([46])سورة يوسف, آية: 111.

([47])سورة آل عمران, آية: 140.

([48])سورة الانشقاق, آية: 19.

([49])علي بن إبراهيم القمي, تفسير القمي ج ٢ ص٤١٣.

: الشيخ أمجد سعيد اللامي