رحيل الإمام الجواد (عليه السلام) الحلقة الثانية

الفتن التي طالت الشيعة في إمامة الجواد (عليه السلام)

مرّت شيعة ومحبي أهل البيت (عليهم السلام) بابتلاءات وفتن واختبارات عدّة وبشتى الأنواع؛ وذلك لأنّ أمرهم صعب مستصعب كما ورد عَنْ سَدِيرِ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبَى عَبْدُ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) اعْرِضْ عَلَيْهِ مَسَائِلَ قَدْ أَعْطَانِيهَا أَصْحَابُنَا إِذَا خَطَرَتْ بِقَلْبِي مَسْأَلَةٍ فَقُلْتُ: (جُعِلْتُ فِدَاكَ مَسْأَلَةُ خَطَرَتْ بِقَلْبِي السَّاعَةَ قَالَ أَ لَيْسَتْ فِي الْمَسَائِلِ قُلْتُ: لَا قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قُلْتُ قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: انَّ أَمْرَنَا صَعْبُ مُسْتَصْعَبُ لَا يَعْرِفُهُ الَّا مَلَكُ مُقَرَّبُ أَوْ نَبِيُّ مُرْسَلُ أَوْ عَبْدُ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ للايمان. فَقَالَ: نَعَمْ، انَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مقربين وَغَيْرِ مقربين مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُرْسَلِينَ وَغَيْرَ مُرْسَلِينَ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممتحنين وَغَيْرِ ممتحنين وَانٍ أَمَرَكُمْ هذاعرض عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَلَمْ يُقِرُّ بِهِ الَّا الْمُقَرَّبُونَ وَعُرِضَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَلَمْ يَقْرَبْهُ الَّا الْمُرْسَلُونَ وَعُرِضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَقْرَبْهُ الَّا الممتحنين)[1]؛ وذلك ليحيى من حي عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، وفي كلّ ذلك يراعي الله أن يأتي البلاء بغتة من دون سابقة انذار فلا ينجو إلا المخلص الموقن، والمسلم لله وأهل البيت (عليهم السلام) ومن تلك الفتن المهمة في قضية الإمام الجواد (عليه السلام):

الفتنة الأولى: فتنة ولادته

تأخر وجود العقب للإمام الرضا (عليه السلام) وكانت فتنة شديدة على الشيعة؛ لأنّ المعروف أنّ الحجة لا يكون بلا عقب, لقد بيّنت الروايات تلك الفتنة فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (قَدْ بَلَغْتُ مَا بَلَغَتْ وَلَيْسَ لَكَ وَلَدُ، فَقَالَ: يَا عُقْبَةُ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الامر لَا يَمُوتُ حَتَّى يَرَى خَلَفَهُ مِنْ بَعْدِهِ)[2].

كان الشيعة ينتظرون بفارغ الصبر ولادة الإمام الجواد من أبيه الإمام الرضا (عليه السلام)، وذلك لعلمهم بهذا الأمر، وكانت تمرّ الأيام والأشهر والسنون من العمر الشريف للإمام الرضا (عليه السلام) فقد مرّت أكثر من أربعين سنةٍ ولم يرزق ولداً ليلِي أمر الإمامة بعده، وعندما كان يسأل الإمام عن ذلك يجيب: إن اللّه سوف يرزقني ولداً يكون الوارث لي والإمام من بعدي, وبعد طول انتظار ولد الإمام الجواد (عليه السلام) سنة (195هـ). لقد ثارت الشبهات وتسلل الشك لقلوب البعض مع وجود النصوص المسبقة من أهل البيت (عليهم السلام) بوجود العقب للإمام سواء كانت النصوص من الإمام الرضا (عليه السلام), أو ممن سبقه من المعصومين (عليهم السلام)، فحديث اللوح الذي نزل تهنئة من الله للسيدة الزهراء (عليها السلام) بولادة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) حديث مشهور، حيث ورد ذكر الأئمة من ذريتها إلى الإمام المهدي (عليهم السلام), وعن يَزِيد بْنِ سَلِيطِ الزَّيْدِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ الْكَاظِمِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ لِي: (يَا يَزِيدُ، وَإِذَا مَرَرْتَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَلَقِيتَهُ وَسَتَلْقَاهُ، فَبَشِّرْهُ أَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ غُلَامُ، أَمِينُ، مَأْمُونُ، مُبَارَكُ وَسَيُعْلِمُكَ أَنَّكَ قَدْ لَقِيتَنِي، فَأَخْبِرْهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا هَذَا الْغُلَامُ جَارِيَةُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مَارِيَةَ، جَارِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُبَلِّغَهَا مِنِّي السَّلَامَ فَافْعَلْ)[3]، وكذا ما ورد عن تحديد المعصوم لخليفته قبل موته والتمهيد لذلك في أيام حياته والتأكيد عليه قبل وفاته, فقد رَوَى يَحْيَى الصَّنْعَانِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه‌ السَّلَامَ) وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يُقَشِّرُ مَوْزاً، وَيُطْعِمُ أَبَا جَعْفَرٍ، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، هَذَا الْمَوْلُودُ الْمُبَارَكُ؟ قَالَ (عليه‌ السَّلَامُ): نَعَمْ يَا يَحْيَى هَذَا الْمَوْلُودُ الَّذِي لَمْ يُولَدْ فِي الْإِسْلَامِ مَوْلُودُ أَعْظَمُ بَرَكَةً عَلَى شِيعَتِنَا مِنْهُ)[4].

لقد وصل الأمر إلى فتنة أعظم وهي إنكار الولد للإمام الرضا في أيام حياة الإمام الرضا (عليه السلام) حتى وصل الأمر أن يأخذ بني هاشم الإمام إلى القيافة لإثبات ولده الإمام الجواد (عليهما السلام) كما سنبينه في الحلقة القادمة، وأي مصيبة عندما ترمى السيدة أو الإمام بهذه التهمة التي تكاد تنطبق لها السموات والأرض ومن قبل أخوته وعمومته من بني هاشم.

الفتنة الثانية: تسلمه الإمامة في سن الصبا

المسألة الجديرة بالاهتمام هي تولي منصب الخلافة في سن السابعة أو الثامنة من عمره الشريف؛ ممّا شكل سابقة في الفكر الإمامي، ولكن هذا الأمر ليس بغريب في حياة الأولياء التي فيها الكثير من المعجزات والكرامات التي اخترقت نواميس الطبيعة، وقد جاءت الروايات لتبيّن مدى تأثر الناس ورفضهم لإمامته, كما رفض القوم من قبل إمامة جده علي بن أبي طالب (عليه السلام) بحجة أنّه حدث السن، بل تسلل الشك لقلوب بعض الموالين بأهليته للإمامة؛ ممّا دعا الأئمة التخطيط المسبق والممنهج لرفع الشك عن قلوب محبيهم لمن كان لديه وعي وفهم وادراك وقلب سليم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[5]، فقد مهد الأئمة لقبول ولاية وإمامة الصغير منهم عبر الروايات بصورة عامة أو خاصة ومنها:

عَنِ الْخَيْرَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ وَاقِفاً بَيْنَ يَدَيْ أَبِي الْحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِخُرَاسَانَ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٍ: يَا سَيِّدِي إِنْ كَانَ كَوْنُ فَإِلَى مَنْ؟ قَالَ: (إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ أَبْنِيَ، فَكَأَنَّ الْقَائِلَ اسْتَصْغَرَ سِنَّ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعَثَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) رَسُولاً نَبِيّاً، صَاحِبَ شَرِيعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ فِي أَصْغَرَ مِنَ السِّنِّ الَّذِي فِيهِ أَبُو جَعْفَرٍ)[6].

عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَقَدْ خَرَجَ عَلِيُّ فَأَخَذْتُ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، لأصف قَامَتِهِ لِأَصْحَابِنَا بِمِصْرَ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ حَتَّى قَعَدَ، فَقَالَ: (يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ احْتَجَّ فِي الْإِمَامَةِ بِمِثْلِ مَا احْتَجَّ بِهِ فِي النُّبُوَّةِ فَقَالَ: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةِ وَهُوَ صَبِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يؤتاها وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً)[7].

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: سَأَلْتُهُ - يَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)- عَنْ شئ مِنْ أَمْرِ الامام، فَقُلْتُ: (يَكُونَ الْإِمَامُ ابْنِ أَقَلَّ مِنْ سَبْعَ سِنِينَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ, وَأَقَلَّ مِنْ خَمْسِ سِنِينَ)[8].

عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى قَالَ قُلْتُ لِلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : قَدْ كُنَّا نَسْأَلُكَ قَبْلَ أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَكَ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَكُنْتَ تَقُولُ: يَهَبُ اللَّهُ لِي غُلَاماً، فَقَدْ وَهَبَهُ اللَّهُ لَكَ، فَأَقَرَّ عُيُونَنَا، فَلَا أَرَانَا اللَّهُ يَوْمَكَ فَإِنْ كَانَ كَوْنُ فَإِلَى مَنْ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَهُوَ قَائِمُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ؟ فَقَالَ: وَمَا يَضُرُّهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ قَامَ عِيسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِالْحُجَّةِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ)[9].

الهوامش:--------

([1])محمد بن الحسن الصفار, بصائر الدرجات ص ٤٧.

([2])الشيخ الطوسی, الغيبة ج۱ ص۲۲۲.

([3])الشيخ عزيز الله عطاردي, مسند الإمام الرضا (عليه السلام) ج ١ ص٢٣.

([4])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج ٥٠ ص ٣٥.

([5])سورة ق, آية: 37.

([6])الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ج ۲ ص688.

([7])قطب الدين الراوندي, الخرائج والجرائح ج ١ ص ٣٨٤.

([8])الشيخ الكليني, الكافي ج ١ ص ٣٨٤.

([9])المصدر نفسه, ص ٣٢١.

المرفقات

: الشيخ أمجد سعيد اللامي