صون المسامع استراتيجية الفلاح والخلود

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَفِقِينَ وَالْكَفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}[1].

ذكرت الآية المباركة موضوعاً من الموضوعات المهمة في الحياة، وهو موضوع السمع، إذ يدخل هذا الموضوع في البناء المعلوماتي للإنسان، والذي يصدر على أساسه السلوك البشري الذي تدور عليه أحداث الحياة، لذا فهو من الموضوعات التي لا يمكن التهاون ولا عدم الاعتناء بها.

فحاسة السمع لها أهمية بالغة في تحديد بوصلة الإنسان واتجاهه، لأن عقائد الإنسان وأفكاره واختياراته وردود أفعاله كلها مبنية عليه، إذ أن كل ما يتأسس من فكر لديه مبني على أساس المعلومات التي منشأهُا السماع والاستماع، لذا فهو يسهم بنسبة كبيرة في التكوين العقائدي والفكري والعلمي له، ومنه اكتسب أهميته القصوى.

والسمع حاسة وصفتها الأبحاث العلمية الطبية المتسالم عليها عند أهل الاختصاص منذ أربعة عشـر قرناً: بأنها تنضج وتكتمل في الجنين قبل غيرها من الحواس، فيسمع بها الأصوات ويتأثر وهو لا يزال جنين في بطن اُمه[2]، ومعنى ذلك أن مصير الإنسان متوقف عليها، كذلك مكانته المعنوية، وتعيين منزلته الاجتماعية والدينية التي يترتب عليها الثواب والعقاب، يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[3].

فالسمع حاسة تلعب دوراً أساسياً في صياغة شخصية الإنسان، لأنها الأداة الفعالة التي تكون فكره وتبني سلوكه، وذلك لما تنقله من المسموعات التي تنطبع في دخائل الذات وقرارة النفس، فتجعل منها بريدا لنقل الآداب الكريمة والفضائل الحسنة والمزايا الحميدة ليتأثر بها وينفعل، لتكون بعدئذ من صفاته وخصائصه...[4].

ومن هذا المنطلق تناول القرآن الكريم موضوعه في آياته المباركة بالذكر بصريح اللفظ بالوجوب والإرشاد باعتباره كتاب هداية، وأراد بذكره إياها إلفات النظر إلى ضرورة العناية بها، من حيث التشذيب والتهذيب والصيانة عن كل ما يشينها، لأنها مدخل معلومات الإنسان التي يدور عليها الفكر والتفكر وانتاج الأفكار، والتي على أساسها يكون سلوكه في الحياة.

فهي مهمة فطرية عقلية شرعية، لها واجباتها والتزاماتها ومستحباتها وحقوقها التي بينها الإمام زين العابدين علي ابن الحسين(عليهما السلام) في رسالة الحقوق في النص التالي، حيث قال: ((أما حق السمع: فتنزيهه عن أن تجعله طريقا إلى قلبك، إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيرا أو تكسب خلقا كريما، فإنه باب الكلام إلى القلب، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر ولا قوة إلا باللّه))[5].

إذن فالآية المباركة تناولت هذا الموضوع(السمع) لأهميته القصوى لدرء تأثيراته الفكرية والعقدية وآثارها، إذ قالت: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَفِقِينَ وَالْكَفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}[6].

فالكفر، يعنى عدم الإيمان بما من شأنه الإيمان به، كالمبدأ ووحدانية الله(جلّ وعلا) والمعاد والبعث وعدم الاعتقاد بنبوة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وعدم الاعتقاد بكل ما يؤدي إلى نفي رسالة النبي(صلى الله عليه وآله)، مثل عدم الاعتقاد بالقرآن الكريم، ووجوب الصلاة، وما أشبه.

 والملاك والمعيار في تحقق واحده من الأمور التالية،

1-  إنكار ضرورة دينية، إما بسبب الجهل أو الضعف أو عدم القدرة الفكرية أو سوء الفهم، كإنكار وجوب الصلاة[7].

2-  تكذيب النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله).

3-  الخروج عن الدين[8].

أما الاستهزاء فهو لغة: السخرية[9]، وهي تتضمن معنى الاحتقار والاستذلال[10]، وقد يفرق بين الاستهزاء والسخرية: أن السخرية إنما تكون بعد صدور الفعل من الشخص، وأما الاستهزاء فلا يلزم أن يكون الفعل قد صدر[11]، وقيل أن الاستهزاء: المزح في خفية[12]، والمعنى الاصطلاحي هو ما عليه المعنى اللغوي، وهو موجب للارتداد عن الصراط المستقيم والكفر[13].

وقد صرحت بالموردين(الكفر والاستهزاء) الآية المباركة، إذ قالت: {... ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ...}، فالآية هي: العلامة[14]، أو العلامة الثابتة[15]، أو العلامة الظاهرة[16]، وآيات اللّه‏ عجائبه، وتأتي الآية بمعنى العبرة [17]، وقيل: بمعنى المعجزة[18]، وكلها منطبقة على الموارد أعلاه.

والحكم في هذين الموردين والذي يفضي إلى نتيجة واحدة وهي الكفر، يمثل استراتيجية في السلوك البشري، هو: {... فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ...}، ووجهه: أن الحقيقة العلمية الآنفة الذكر اعلاه، تقول: أن السمع طريق العقل والإدراك والفهم، وهو في غاية الأهمية، فيلزم الانتباه لما نسمع، وقد ورد التنبيه على لسان الإمام علي ابن الحسين(عليهما السلام) في رسالة الحقوق من أن السمع له حق علينا، وهو: ((... تنزيهه عن أن تجعله طريقا إلى قلبك، إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيرا أو تكسب خلقا كريما، فإنه باب الكلام إلى القلب، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر ولا قوة إلا باللّه)).

فهذا الحكم في الآية مبني على أهمية التأثير في الإنسان، فالإنسان قد لا يعير اهتماماً لذلك لجهله بالأمر أو تهاونه أو عدم اهتمامه وهو بالنتيجة تقصير في محضر الله تبارك وتعالى، إن ترك من دون عناية واهتمام، لذا وظيفة التنزيه للضرورة كانت مقصد الهداية التي يتمتع بها القرآن الكريم لخطورة الأمر وتأثيره في صياغة الشخصية واتجاهها.

فجانب العقيدة الذي تقوم عليه شخصية الانسان لا يكتمل إن لم تكن له اذن واعية يدرك بها الهدى ويعلم بها علم اليقين، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[19]، فمفتاح الخير كله هذا الفعل، وهو سماع توحيد الله تبارك وتعالى ابتداءً بتلك الكلمات السلسة البسيطة وانتهاءً بالحجج والدلالات على توحيده(جلّ وعلا)، والتي تستلزم أن يكون السماع من منهل صاف صحيح بتدبر وتفهم وتعقل، وهو لا يتوفر عند الذين يخوضون في آيات ويستهزؤون بها.

وعلى هذا فالأمر خطير، ويجب علينا المحافظة عليه لصيانة شخصياتنا وحمايتها من كل ما يشينها عند الله تعالى، وهو يقتضي أن نبدأ بإجراءات الحماية الفورية لهذه الجارحة، وأولها أن نعتني بها طبياً لتكون أداة سليمة للسماع والاستماع، فنتجنبها كل مايؤثر عليها في جودة الاستماع ورداءته، مثل: سماع الموسيقى الصاخبة لما له من (تأثير سلبي على الدماغ والجسد).

حيث نشر في مقال على موقع (عرب 48) بتاريخ 30/10/ 2016م، من أن الموسيقى لها تأثير مباشر على حالة الإنسان النفسية والجسدية، فهي قد تقضي أحيانًا على بعض المشاعر السلبية، وتخلقها أو تعززها أحيانا أخرى، هذا إضافة إلى التأثير السلبي المؤكد على العقل والأعصاب، لأنها تعمل على زيادة ذبذبات الدماغ لدى الإنسان، وبالتالي، تزيد من فرص التعرض للضغوط والمشاعر السلبية، كما أنها تصيب الجهاز العصبي المركزي بالخلل، وكذلك تصيب ملفات التذكر والفهم في الدماغ نتيجة التأثير الذي تحدثه على ذبذبات تسمى “ألفا”، وهي تتعلق بحالة التذكر والتعلم لدى الإنسان، بالإضافة إلى قدرتها على تدمير خلايا العقل الخاصة بالمهارات الشخصية للفرد، وبالتالي يفقد الفرد قدرته على تطوير ذاته، ويعجز عن القيام بمهامه اليومية.

وبحسب دراسة أميركية أجراها أطباء من جامعة ستانفورد، تبين أن التأثيرات الإيجابية للموسيقى، لا سيما الصاخبة، أقل كثيرًا من تأثيراتها السلبية التي تصيب العقل والأعصاب، حيث تعمل الموسيقى، وفقًا للدراسة، على زيادة شعور الإنسان بالآلام الموجودة بالجسد، كما تزيد من فرص اضطرابات ضغط الدم، لأنها توجه مباشرة إلى الخلايا العصبية الموجودة بالدماغ، ومن ثم يصاب الإنسان بالأمراض التي تتعلق كثيرًا بشعور الفرد بالراحة، مثل ضغط الدم، وبما أنها تحتوي على ارتعاش موسيقي، فإن ذلك يجعل أعمال العقل غير مستقرة أثناء وبعد الاستماع إليها، كما أنها تفتح مسام الجسم بصورة أعمق[20]، وبشكل يمنح البكتيريا فرصًا لاختراق الجسد، الأمر الذي يؤشر للإصابة بأمراض كثيرة ومتعددة، والكثير من المشاكل غير المنظورة، لذا حذرت منظمة الصحة العالمية من الاستماع إلى الموسيقى وخصوصاً الصاخبة وبحسب احصاءاتهم فهناك قرابة  (1.1) مليار شخص من المراهقين والبالغين عرضة لخطر فقد حاسة السمع بسبب الاستماع إلى الموسيقى وخصوصاً بصوت مرتفع جدا، وقد ورد في إحصاءات أجرتها المنظمة الدولية أن (43 مليون) شخص في المرحلة العمرية من (12 إلى 35) عاما فقدوا حاسة السمع[21]، ولأجل هذه المخاطر التي تحف بحاسة السمع جاءت الشريعة متمثلة بقرآنها وسنة نبيها الأكرم(صلى الله عليه وآله) وأل بيته المعصومين(عليهم السلام) تنبه وتنهى عن مثل هذه الأفعال.

وثانيها وهو الأهم صيانة هذه الحاسة معنوياً وفكرياً بإبعادها عن كل ما حرم الله سبحانه وتعالى من:

1-  الكذب واستماع قول الزور والكفر الظاهر والمبطن وما أشبه من الأفعال والأقوال، وتقريبها من كل ما أمر الله به(جلّ وعلا)، فقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: (وفَرَضَ عَلَى السَّمْعِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ وَأَنْ يُعْرِضَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ مِمَّا نَهَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ، وَالْإِصْغَاءِ إِلَى مَا أَسْخَطَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ)[22].

2-  الامتناع من سماع كل ما يزعزع عقيدة الإنسان بالله سبحانه وتعالى وبدينه ويفسد أخلاقه، كالحث على التجسس المرفوض شرعاً على الناس، حيث جاء الرفض صراحة في كتابه الكريم بقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}[23]، حيث قَالَ الإمام أَبو عبد الله الصادق(عليه السلام): ((...الْـمُسْتَمِعُ بَيْنَ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ يُصَبُّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ‏ وَ هُوَ الْأُسـربُ))[24]، والآنك هو الرصاص، والحث على إظهار صوت الحلي بعد ما نهى الشارع المقدس عن اظهار الحلي صورتها وشكلها على البدن[25]، وذلك لما فيه من حركة إفساد النفس الإنسان بإلهائها عن ذكر اله الذي يستلزم ترك طاعته، قال تعالى: {وَلَا يَضـربْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ }[26].

كذلك الأمور التي نهت الشريعة الإسلامية عنها، هي الأمور التي قولها والاستماع إليها يزعزع الثقة بين أبناء المجتمع، وهي تؤدي إلى تحلله وتفككه، فيحل فيه الضعف، ويكون لقمة سائغة للشيطان وأنصاره، حيث قالت الآية المباركة: {... إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ...}[27].

ونظراً لخطورة هذا الأمر، الظاهرة خطورته من عاقبته وخاتمته: {... إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَفِقِينَ وَالْكَفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا...}[28]، وجب ولزم علينا الانتباه والعمل على تجنب خطورته من خلال اتباع هذه الآية في مقام العمل، واتخاذ استراتيجيتها منهجاً نسير عليه في حياتنا، بالامتناع عن ما يقوله هؤلاء الضالون المرجفون خصوصاً، فإننا بأمس الحاجة إليه، خصوصاً ونحن نعيش خطر(العولمة) التي تسعى لتصدير الأفكار الهدامة عن طريق وسائل الأعلام، لذا يجب أن لا نتبع كل ما يسمع من ضلالات فيستقيم الفكر وتسعد الحياة وتفلح.

الهوامش:---------

[1] آل عمران: 31.

[2] انظر: الاعجاز الطبي، السيد الجميلي، ص: 65.

[3] الإسراء: 36.

[4] انظر: حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام)، باقر شريف القرشي، ج2، ص: 224-225.

[5] رسالة الحقوق للإمام زين العابدين.

[6] آل عمران: 31.

[7] انظر: الهمداني، التمهيدات، 1370هـ، ص209.

[8] انظر: بحر العلوم، بلغة الفقيه، 1403هـ، ج4، ص201.

[9] أنظر: كتاب العين، والصحاح، ولسان العرب: مادة " هزأ " .

[10] معجم مقاييس اللغة، ومجمع البحرين، مادة: " هزأ ".

[11] معجم الفروق اللغوية: الفرق بين الاستهزاء والسخرية.

[12] المفردات، للراغب الإصفهاني)، مادة: " هزأ ".

[13] أنظر: القواعد ٢: ٢٧٤، والإرشاد ٢: ١٨٩، والتحرير ٢: ٢٣٦، ومجمع الفائدة والبرهان ١٣: ٣١٤، والجواهر ٤١: ٦٠٠، وغيرها.

[14] الصاحب، المحيط في اللغة، ج 10، ص 472.

[15] أبو هلال العسكري، معجم الفروق اللغوية، ص 368.

[16] البستاني، محيط المحيط، ص 20.

[17] الفيومي، المصباح المنير، ص 32.

[18] فتح الله، معجم ألفاظ الفقه الجعفري، ص 22.

[19] سورة يونس: 67.

[20] الكلام منقول بتصرف.

[21] انظر: موقع الطبي، اخبار الطبي- عمان، تاريخ نشر الخبر: 4 مارس 2015.

[22] أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج‏2، ص: 35.

[23] سورة الحجرات: 12.

[24] المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ج‏2، ص: 616.

[25] انظر: الكشاف،  محمود الزمخشري، ج3، ص: 63.

[26] سورة النور : 19.

[27] آل عمران: 31.

[28] آل عمران: 31.

المرفقات

: الشيخ مازن التميمي