التخطيط الإلهي لإدارة النزاع على الأرض

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام ):

((... إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا وَاخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، وَيَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، وَيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولَئِكَ مِنَّا وَإِلَيْنَا))[1].

إن الصراع في الأرض بين إبليس(لعنه الله) والإنسان، وقد خطط الله تبارك وتعالى لإدارته، لأنه في الأصل عناد من قبل إبليس(لعنه الله) تجاه الامتثال بالأمر بالسجود لآدم(عليه السلام)، فتحول هذا العناد إلى صراع بعد طرده من رحمة الله تعالى، وهو صراع بين إبليس(لعنه الله) والإنسان الذي أمر بالسجود له، ومساحته كل الكرة الأرضية والحياة عليها.

وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يجري الصراع وفق معادلة العلة والمعلول، والذي لا تصدر نتائجه إلا إذا توفرت أجزاء العلة لصدور المعلول، وهي مدعومة بالإرادة الإلهية التي لا مرد لها، من أجل الفوز في الصراع وإقرار النصرة في نهاية المطاف لله تبارك وتعالى.

وأجزاء العلة المشار إليها هي:

1- العلم والمعرفة المجموع في القرآن الكريم.

2- التخطيط الإلهي الحكيم المحكم لإدارة هذا النزاع وإنجاحه وإتمامه وهو على مراحل، والذي تشير إليه آية إكمال الدين: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا...}[2].

3- الإنسان الذي به يروم إبليس الانتصار في معادلته، وهو إما معصوم أو غير معصوم مطابق للمعصوم أو مؤمن على درجات.

والتخطيط الإلهي قائم على أساس العلم والمعرفة والهداية السلوكية، وفي علم الله الأزلي أن ابليس لن يترك الإنسان المعني بالعلم والمعرفة والهداية السلوكية دون أن يحرفه ويعرقل مسيرته إلى الله تعالى، لذا كانت جزئيات هذا التخطيط موضوعة من قبل الأئمة المعصومين(عليه السلام)باعتبارهم المسؤولين عن إجراء التخطيط الإلهي على الأرض، وذلك لأنها تقتضي المباشرة مع الإنسان الذي تنزه عن مباشرته الله تبارك وتعالى، كما أنها تختص بالأرض.

وقد أوكل الله سبحانه وتعالى تنفيذ وتطبيق وإنجاح هذا التخطيط للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، فأرسله وأرسل معه الكتاب، وجعل الأئمة(عليهم السلام) بنفس المواصفات التي لا يصح العمل بدونها، يحافظون على الكتاب ومعلوماته المنزلة من الله سبحانه، ويقودون عملية التنفيذ والتطبيق لكل ما جاء في الكتاب كلياً، وأما الجزئيات فقد تركت لهم(عليهم السلام)، يخططون لها ويقدرونها ويرعون مصالحها الشرعية.

لذا رأى الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(عليه السلام) أن يسكت عن حقه الإلهي خمسة وعشرون عاماً، بينما رأى الإمام الحسن(عليه السلام) أن يقبل بالصلح الذي فرض عليه، أما الإمام الحسين(عليه السلام) فاختار النهوض بشورة زلزلت عروش الطغاة والظلمة، وهكذا دواليك بقية الأئمة المعصومين(عليهم السلام).

وقد استمرت هذه الرؤيا والتخطيط المعصوم في اتخاذ طريق الوصول إلى الله تعالى وهزيمة إبليس(لعنه الله تعالى) بالدعاء والعبادة لله تعالى والبناء المعرفي الإدراكي والسلوكي التطبيقي، وهي طيلة فترة إمامة الإمام زين العابدين والباقر والصادق الكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري(عليهم السلام)، ثم تكون العودة للتخطيط الإلهي بظهور الإمام الحجة ابن الحسن(عجل الله فرجه الشريف) فيبدأ كما بدأ رسول الله(صلى الله عليه وآله).

قال الإمام الحسين بن علي(عليمها السَّلام) عن جده المصطفى(صلى الله عليه وآله) في ذلك: ((لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه عزّ وجل ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، ...))[3].

وحيث أن الله سبحانه وتعالى أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها كما قال أبو عبد الله الصادق(عليه السلام): ((أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، ...))[4]، فكان من ضمن الأسباب التي تنجح التخطيط المعصوم ضرورة وجود أعوان يعتمد عليهم يساعدون في نجاح المهمة، وذلك قول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام ): ((... وَاخْتَارَ لَنَا شِيعَةً ...))، وهم أناس يستندون في عملهم وتحركاتهم إلى السلوك المعصوم في الصلاح والعدل وحسن السلوك والتصرفات، وهنا لابد أن تتحقق المشابهة حتى يصح العمل والنجاح، والحديث الشريف يشير إلى ذلك: ((... إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا وَ اخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، وَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَ يَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، وَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَ أَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولَئِكَ مِنَّا وَ إِلَيْنَا))[5].

فالشيعة هم القوم المشايعون لهم الذاهبون على أثرهم[6] كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ}[7]، فكل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر، قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ}([8])، وهم الاتباع والمحبين للآخرين كما ورد في قوله تعالى في سورة القصص: {فَاسْتَغاثَهُ الَّذي مِنْ شيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّه}[9].

وقد أطلقت مفردة الشيعة اصطلاحاً في الكتب والمصادر الإسلامية على ثلاث معان هي[10]:

الأول: المحب لأهل بيت النبوة(عليهم السلام)، فمن أحب علياً(عليه السلام) وأبناءه دخل في التشيع، والشيعة على هذا التعريف يدخل جميع المسلمين إلاّ النواصب.

الثاني: الشيعي من يؤمن بتفضيل علي بن أبي طالب (عليه السلام) على عثمان خاصة أو على سائر الخلفاء والصحابة، ولكن مع ذلك يؤمن بأنّه (عليه السلام) الخليفة الرابع، ولا يؤمن باستخلافه والنص عليه من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)[11].

الثالث: الشيعة هم الذين شايعوا علياً(عليه السلام) على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده من نسل فاطمة(عليها السلام) وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من الإمام([12])، وقد أطلق خصوم الشيعة لقب الرافضة على هذا الصنف من الشيعة.

وهذا القسم الثالث هم المعنيون في الحديث ولكن ليس على نحو الادعاء بل الفعل خاصة، وهم اختيار إلهي ولسوا تنصيب دنيوي وأفعالهم وأعماله دالة عليهم، ولهم صفات وخصائص ذكرها الحديث، هي:

1- يَنْصُرُونَنَا

2- وَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَ يَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا

3- وَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ فينا

4- و يبذلون أَنْفُسَهُمْ فِينَا

فهذه الأربعة صفات الشيعة الذين اختارهم الله تبارك وتعالى لإنجاح الخطة بتهيئة اللازم لذلك، لا مجرد الشيعة المتبعون فقط من دون العمل والتطبيق.

فالقضية قضية تبادلية تفاعلية بين من اختارهم الله سبحانه وتعالى كقادة أساسيين لهذه العملية التي يمكن أن نطلق عليها: (عملية نصرة الله عز وجلّ على إبليس لعنه الله تعالى)، والقادة الثانويين وهم الشيعة بحسب التخطيط الإلهي، فهم لا يتلقون الأوامر المركزية المهمة من قبيل: (...بِأَبِي أَنْتُمْ وَأُمِّي وَنَفْسِي وَأَهْلِي وَمَالِي مَنْ أَرَادَ اللَّهَ بَدَأَ بِكُمْ وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُمْ وَمَنْ قَصَدَهُ تَوَجَّهَ بِكُمْ...)[13]، ولا يتوقف الأمر عندهم بل يتعدى إلى من والاهم وهم درجة من المؤمنين: (... موال لكم ولأوليائكم...)[14]، فتصبح المعادلة:

الإمام المعصوم(عليه السلام)، الشيعة، وهم المتبعون حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل، والمؤمنون ونقصد بهم: واتباع الاتباع، وهم على درجات كما ورد في حديث الإمام الصادق(عليه السلام): ((إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء حتى ينتهي إلى العاشر، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره))[15]، والفرق بين الاتباع المباشرون للأئمة(عليهم السلام) والمؤمنون الثانويون، أن أولئك يندر صدور المعصية منهم على نحو التعمد، بل إما غفلة أو سهواً، بخلاف أتباعهم الثانويون، إذ تصدر منهم المعصية لله تعالى في هذه الموارد وفي غيرها، ويمكن تصوير الأمر بالمخطط التالي:

الله(عزّ وجلّ)  -------> الإمام المعصوم       ------>       الشيعة    ------->     المؤمنون   -------->      الاتباع

 

ففلسفة الأمر قائمة على تلقي الأمر الإلهي واستقباله برغبة ناشئة عن أن الله عليم حكيم محيط والاستعداد للعمل به من دون اجتهاد شخصي، أما المستلم يخطط في الدنيا بما يلائم طبيعة البشر لإنجاز الأمر الإلهي وإتمامه على أكمل وجه، ثم يتلقاه الشيعة لتطبيقه بحذافيره من دون اجتهاد يغذون به من يتبعهم ووالاهم ونصرهم، وهؤلاء على اختلاف درجاتهم متغلغلون في جميع مستويات المجتمع وطبقاته، وبهذه الطريقة يصل الأمر الإلهي لجميع أفراد البشر ليتم العمل به وتنتصر عملية نصرة الله تعالى على إبليس لعنة الله عليه.

هذا اقتضى وصول جميع الأوامر الإلهية إلى الناس لجانب العصمة في الفاعل وهو المعصوم(عليه السلام)، ولكن بقي الدور على القابل وهو الإنسان الموسومون بالمؤمنين واتباعهم، فهولاء المعول عليهم في إنجاح عملية النصرة الفعلية الواقعية المشار إليها في السطور السابقة، فهم يجب أن يجتهدوا في هذا المسار ويوفروا في أنفسهم الخصائص المطلوبة، وهي:

1- الاستعداد النفسي للقبول، الامر الذي يعني البناء النفسي للبناء الأخلاقي امتثالاً لقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}[16].

2- السعي الحثيث للتواصل مع مصدر الأمر الإلهي وهو الإمام المعصوم بكل الطرق الصحيحة والوسائل المشروعة.

3- وجود الرغبة لتبني الأوامر الإلهية تبنياً حقيقاً وتطبيقها على أرض الواقع، ورغبتهم نظير قوله تعالى: {... لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}[17].

4- السعي الجاد للعمل بما أمر الله سبحانه وتعالى وتطبيقه بحسب الطاقة البشرية.

5- الاجتهاد الذاتي في مقام التطبيق لضمان النجاح فيه طبقاً للموازين الشرعية لا غير.

وهكذا نرى أن العلاقة بين الله سبحانه وتعالى والإمام المعصوم(عليه السلام) والشيعة واتباعهم علاقة تفاعلية تبعث في الإنسان الجد والاجتهاد والنشاط، وتزيد إصراره على ضرورة النجاح على ضوء توفر تلك الخصائص.

لذا ذكر الحديث الشريف الفعاليات السلوكية المترتبة على ذلك لإنجاح عملية النصرة لله تبارك وتعالى وهي:

1- النصرة؛ وهي كلمة مطلقة تعني بمختلف المستويات، وتشمل جميع الوسائل والطرق المشروعة لا غير.

2- الارتباط الإنساني ويشمل: (العواطف والمشاعر والأحاسيس)، إذ أشار إليها بقوله: ((... وَيَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا...))، وذلك يعني الاقتداء الفكري والسلوكي.

3- تدعيم نجاح العملية بكل ما تحتاج من لوازم النجاح، وأشار الحديث إليه بقوله: ((وَيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِينَا))، وكلمة فينا هنا تشتمل على تضحية النفس بالنفس، والتضحية بالسعادة والرفاهية والراحة في الحياة الدنيا والتي آخر مطافها ترك الحياة إن لزم الأمر، كل ذلك من أجل إنجاح النصرة الإلهية المنحصرة فيهم لا في غيرهم، لذا نخاطبهم: ((...فمعكم معكم لا مع غيركم، وإليكم إليكم لا إلى عدوكم، آمنت بكم وتوليت آخركم، بما توليت به أولكم، وبرئت إلى الله من أعدائكم، الجبت والطاغوت، والأبالسة والشياطين، ومن حزبهم وأتباعهم، ومحبيهم وذويهم والراضين بهم وبفعلهم، الصادين عنكم، الظالمين لكم، الجاحدين حقكم، المفارقين لكم، الغاصبين إرثكم، والشاقين فيكم، والمنحرفين عنكم، ومن كل وليجة دونكم))[18].

الهوامش:------------------------------------------------------------

[1] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج: 10، ص: 114.

[2] سورة المائدة: 3.

[3] كمال الدين، محمد بن علي بن بابويه القمي، ج1، ص: 318.

[4] الكافي، محمد بن يعقوب، ج1، ص: 183، ح: 7.

[5] بحار الأنوار،  محمد باقر المجلسي، ج:10، ص: 114.

[6] راجع: الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، ج 17، ص 147.

[7] سورة الصافات: 83.

[8] سورة سبأ: 54؛

[9] سورة القصص: 15.

[10] بحوث في الملل والنحل، جعفر السبحاني، ج 6، ص 7.

[11] بحوث في الملل والنحل، جعفر السبحاني، ج 6، ص 8.

[12] الملل والنحل، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، ج 1، ص 189.

[13] مفاتيح الجنان، عباس القمي، الزيارة الجامعة.

[14] نفس المصدر.

[15] الكافي، محمد بن يعقوب الكليني،  ج: ٢، ص: ٤٥.

[16] سورة الشمس: 7-10.

[17] سورة التحريم: 6.

[18] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج: 99، ص: 153.

: الشيخ مازن التميمي