إن الموت يشكّل نهاية للحياة الدنيوية المليئة بالنواقص والمحاطة بالشهوات من كل جانب، والفاقدة للكثير من الكمالات، ومن أجل إكمال هذه النواقص، والوصول بالإنسان إلى الكمالات كان لا بدّ من الموت الذي يكون طريقا لإكمال النواقص وتحقيق الكمالات المُفضية إلى الحياة الأخروية التي يتحرّر فيها الإنسان من أعباء الجسد الدنيوي الذي كان يثقل روحه، ويتخلّص من كم المعاناة التي عاناها في رحلته الدنيوية المليئة بالمشاقّ والمحفوفة بالمخاطر، ومن ثم فقد شكّل الموت بهذا اللحاظ بداية للحياة الأخروية التي ستكون حياة رائعة ومريحة وجميلة وماتعة للإنسان الذي أحسن الإعداد لها، وجعل من حياة الكدح والمشاقّ والتعب والمعاناة الدنيوية طريقا وممرّا إلى الحياة الأخروية بكلّ تفاصيلها الجميلة ومُتَعها المستمرّة وغير الزائلة، كمتع الدنيا، فالموت "ليس معناه سوى مفارقة الروح الجسد والدنيا"[1]، وهذه المفارقة تحدث حين تفارق الروح الجسد وتتحرّر منه ومن قيوده واشتراطاته، وتفارق الدنيا ومنغّصاتها ومزعجاتها، وتنطلق في حياة جديدة ملؤها الحرية والفيوضات الإلهية، فالموت يشكّل انتقالة سريعة من الحياة الدنيوية إلى الحياة الأخروية، ولكل حياة منهما قوانينها واشتراطاتها، كما يشكّل انتقالا من النشأة الدنيوية إلى النشأة الأخروية، ومن الطبيعي أن يسبّب الموت حزنا وألما وتفجّعا لمن يحب الميت، إلا أنه يشكل في الوقت نفسه سعادة ونعمة كبيرة للإنسان الصالح الذي وقع عليه الموت، ولا سيما إذا كان موته في سبيل الله، ومن أجل الإصلاح وتحقيق العدل، وهذا ما حصل مع الإمام الحسين عليه السلام حينما أطلق كلمته المدوية في أثير الزمن:
"فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما"[2].
شكّل الموت في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر موضوعا مهما وإشكاليا، ومثّل حقيقة واقعة وموضوعا مؤثّرا وضاغطا على الإنسان، ومصدرا للخوف المستمر؛ وبسبب هذا الخوف المستمر والمهيمن على البشر نجد قسما كبيرا منهم يتهرب منه ومن ذكره والحديث فيه، ونجد كثيرا من الباحثين والمفكّرين قد "أهملوه عن عمد أو عن غفلة، فأضحى موضوعا مزعجا لا يشجّع على التفكير، لذا فإن عدم اهتمام المفكّرين بدراسة الموت ليس إلا فرارا من هذا الموضوع"[3] الخطير والمهم، ومحاولة للابتعاد عنه وعن ذكره والحديث عنه، والبحث فيه وفي حيثياته وتفاصيله، وسعيا إلى تناسيه، وفي ذلك يقول بوسويه: "إن اهتمام الناس بدفن أفكارهم عن الموت قد لا يقل شأنا عن اهتمامهم بدفن موتاهم، فخوف الناس من الموت هو الذي حَدا بهم إلى تجاهل التفكير في الموت أو العمل على تناسيه"[4]، لذا نجد كثيرا من الناس لا يحبّ ذكره، ويسعى بكلّ طريقة إلى تغيير موضوع الحديث إذا كان عن الموت، بل نجد قسما منهم يعدّه سوءًا، لذلك يقول لأهل الميت عند تعزيته لهم تلك المقولة الخاطئة التي أصبحت جزءًا من نسق اجتماعي خاطئ في مجتمعاتنا: (خاتمة السوء إن شاء الله)، ونجد قسما آخر يعدّه شرا؛ لذلك نراه يقول مسرعا، بعد ذكر الموت: (أبعد الله الشر عنكم)، ونرى إخواننا المصريين مثلا يقولون عند ذكره: (الشر برّة وبعيد)، مع أن الموت ليس سوءًا وليس شرا، بل هو قدر حقّ واقع على البشر من الله تعالى، تنتهي به حياتهم الدنيوية، وتبدأ حياتهم الأخروية.
إن هذه النظرة الخائفة والتشاؤمية إلى الموت بوصفه خطرا كبيرا وسوءًا وشرا نظرة غير دقيقة، ولا تعكس حقيقة الموت، فأصحاب فلسفة الحياة يرون "أن الموت جزء من الحياة وأنه ليس مضادا لها، فلِكَي تكون النظرة إلى الموت صحيحة يجب أن تجعل الموت جزءًا من الحياة، وهذا ما فعلته فلسفة الحياة، خصوصا عند أشهر ممثليها من الألمان، فقد قال فردريك نيتشة: (حذار أن تقول: إن الموت مضاد للحياة) (...) إن أصحاب المذهب الحيوي يقولون: إنه ليس خارج الحياة شيء، فالحياة هي الكل، ومعنى هذا أن الموت يجب أن يفسر أيضا بالحياة وأن تفسر الحياة بدورها بالموت، ولهذا يقول جورج زمل: (إن الحياة تقتضي بطبيعتها الموت، بحسبانه هذا الشيء الآخر الذي بالنسبة إليه تصير شيئا، والذي بدونه لن يكون لهذا الشيء معناه وصورته). إن الحياة تقتضي الموت إذا، وما هو حي وحده الذي يموت"[5]، وعليه فإن الحياة والموت حقيقتان متضادّتان، وتتميز الواحدة منهما بضدها، إذ تقول العرب: بضدها تتميز الأشياء، فلم تتميز الحياة وتُعرف وتُحَب إلا بوجود الموت، ولم يتميز الموت ويسعى الإنسان إلى الفرار منه إلا بوجود الحياة، ولكن هذا التضادّ بين حقيقتي الحياة والموت لا يعني أن الموت مضادّ للحياة كما حذّر من قوله نيتشة بل الموت بداية لحياة ثانية لها خصوصياتها عن الحياة الدنيا، ولها أنظمتها وقوانينها التي تميّزها، ومن ثم فلا داعي للخوف منها، فهي حياة أخروية سيعيشها الإنسان، كما كانت من قبلها حياة دنيوية عاشها الإنسان بتفاصيلها كلها.
ويرى شوبنهاور أن "الموت هو الهدف الحقّ للحياة، وقصر الحياة الذي يثير الأسى بلا انتهاء قد يكون أفضل صفاتها، وأن طبيعتها الحقّة غير قابلة للإفناء، معتبرا الموت ملهم الفلسفة، معيدا إلى الأذهان مقولة سقراط: إن الفلسفة هي معرفة الموت، وبدون الموت لا توجد فلسفة"[6]، فالموت - بحسب شوبنهاور - هو الهدف الحقّ للحياة، وهذا فهم فيه دقّة وتأمّل، فالحياة لابدّ أن تنتهي في يوم من الأيام بالموت، بعيدا كان أو قريبا ذلك اليوم، وعلى الإنسان أن يفيد من هذه الحقيقة المهمة والواقعة لا محالة، فيجعل حياته تسير إلى هدفها الحتمي والحقّ، وهو الموت الذي بوقوعه تبدأ الحياة الأخروية، وتنتهي الحياة الدنيوية القصيرة قياسا إلى حياة الآخرة، وهذا القصر قد يكون من أفضل صفاتها؛ لأنها حياة مليئة بالكدح والتعب والمعاناة بكلّ أنواعها، وهذه الحقيقة سيعرفها الإنسان الذي أفاد من حياته الدنيا وجعلها مزرعة يحصد ثمارها في حياته الأخروية، حينما ينتقل بموته إليها، ويرى الفرق الكبير بين الحياتين، ويعرف أن الموت ما هو إلا انتقالة سريعة من حياة إلى حياة، وأن ما قدّمه في الحياة الدنيا غير قابل للإفناء والإمحاء، بل محسوب عليه ومكتوب، مثل طبيعة الحياة التي عاشها والتي تميّزت بأنها غير قابلة للإفناء بحسب شوبنهاورـ. إن هذا الفهم وغيره للموت جعله ملهما للفلاسفة، ودافعا إياهم للبحث والتفكّر فيه؛ لأنه قدر محتوم وحقيقة واقعة يسعى الكثير إلى استكناهها وفهم حيثياتها ودقائقها.
ورد الموت في نصوص النهضة الحسينية بعدّة ألفاظ تحقّقت فيها قوة الإشارة إليه، ومن هذه الألفاظ: القتل، والموت، والشهادة، والذّبح، والمنيّة، والمصرع، ولقاء الله، والفداء بالنفس، وتقطيع الأعضاء، ومفارقة الأرواح للأجساد، والسِلّة، وبذل المهج، والحِمام، وقطع الرأس، وضرب العنق، والاستبشار بالذهاب إلى الآخرة، وغيرها. وكانت أكثر الألفاظ المشيرة إلى الموت ورودا كلمة (القتل) بمشتقّاتها، ثم كلمة (الموت) بالمرتبة الثانية، ثم تليها مفردة (الشهادة)، ثم بقية المفردات..
ويميّز الراغب الأصفهاني بشكل دقيق بين القتل، والموت، فيقول: "أصل القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال: قتلٌ، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال: موتٌ"[7]، فالقتل يشبه الموت في أنه يمثّل مفارقة الروح للجسد ونهاية الحياة، لكنّه يختلف عنه؛ لأنه يحصل بفعل فاعل، في حين أن الموت يحصل بانتهاء الحياة بالمرض، أو الحادث العرضي، أو الموت الطبيعي، أو غيره من أسباب الموت. إن هذا الفرق بين القتل والموت يشكّل سببا وجيها في كثرة ورود مفردة القتل ومشتقّاتها في نصوص النهضة الحسينية قياسا إلى مفردات أخرى تحمل معاني مقاربة كالموت والشهادة وغيرها؛ لأن مفردة القتل تشير إلى وقوع الموت بفعل فاعل، والفاعل هنا مشخّص وواضح، يتمثّل بأعداء الإمام الحسين عليه السلام الذين أرادوا قتله بكل طريقة متاحة لهم، وأرادوا إسكات صوته المدوي بقوله: "ومثلي لا يبايع مثله"[8]، لذلك نجد الشرارة الأولى للنهضة الحسينية، المتمثّلة بالحديث الذي دار بين الإمام الحسين عليه السلام والوليد بن عتبة ومروان بن الحكم، مفعمة بذكر القتل حينما قال مروان للوليد محرّضا إيّاه على قتل الإمام عليـه السـلام:
"إن فارقك الساعة ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم، ولكن احبس الرجل حتى يبايع أو تضرب عنقه".
فقال الحسين عليه السلام: "يا ابن الزرقاء، أنت تقتلني أم هو؟ كذبت وأثمت".
ثم أقبل على الوليد وقال: "أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة. بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل شارب الخمور، وقاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"[9]، وبعد أن خرج الحسين عليه السلام من هذا المجلس قال مروان للوليد موبّخا له على سماحِهِ للإمام بالخروج دون أخذ البيعة منه أو قتله:
"عصيتني. فو الله لا يمكنك على مثلها.
قال الوليد: وبّخ غيرك يا مروان! اخترت لي ما فيه هلاك ديني. أقتل حسينا إن قال لا أبايع؟ والله لا أظن امرءاً يحاسب بدم الحسين إلا خفيف الميزان يوم القيامة"[10]. إن هذا الحوار ينطوي على أكثر من مفردة من مشتقّات القتل هي: القتلى، تقتلني، قاتل النفس، أقتل حسينا، وهو يؤشّر ويسجّل كونه الشرارة الأولى للنهضة الحسينية والبيان رقم واحد لها أن هذه النهضة ستكون موّارة ومليئة بأحداث القتل البشع الذي سيمارَس بحقّ الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، وأن القتل والتفكير فيه والسعي إليه سيمثّل فعلا مهيمنا على ما سيفعله أعداء الحسين عليه السلام قبل نهضته وفي أثنائها، ودافعا قويا لهم يحرّكهم ويسيطر على أفعالهم، ويطبع تصرفاتهم حتى يحقّقوه يوم العاشر من المحرم، وبذلك ستثبت عليهم صفة قاتلي الإمام الحسين عليه السلام على مرّ الليالي وكرور الأيام وسير التاريخ...
الهوامش:____________________________
[1] تفسير القرآن الكريم، 8/291.
[2] مقتل الحسين، 200.
[3] سيمياء الموت في ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي، رسالة ماجستير، زاهية بو قروحة، جامعة مولود معمري، كلية الآداب واللغات، 2015، 8.
[4] الموت في الفكر الغربي، جاك شورون، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، د. ط، 1984، 9.
[5] بحث: مشكلة الموت في الثقافة العربية، د. حازم خيري، مجلة ابن رشد، ع 11، شتاء 2010 - 2011،على الرابط الآتي: www.ibn-rushd.org بتاريخ 4/1/2018.
[6] مقال: الموت في الفكر الفلسفي الغربي والديني، علي محمد اليوسف، صحيفة المثقف، ع 4028، 9 /2017، على الرابط الآتي: www.almothaqaf.com بتاريخ 4/1/2018.
[7] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ضبطه هيثم طعيمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1428هـ 2008م، 409، مادة: قتل.
[8] مقتل الحسين، 129.
[9] مقتل الحسين، 129.
[10] مقتل الحسين، 130.
اترك تعليق