إذا كان هذا الكتاب يبرهن على أنه حقيق بالقراءة والدراسة والوقوف على أبوابه ومباحثه لغزارة معلوماته وشموليته, فإن مؤلفه لحقيق بأن تتعدد القراءات والدراسات حول فصول حياته الشيقة المليئة بالعلم والأدب والتأليف والتصنيف.
فالكتاب منبع من منابع الثقافة الإسلامية والعربية تدفق على يد علم من أعلام الأمة الإسلامية, ومفخرة من مفاخر مدرسة أهل البيت (ع), فهو مدرسة متنقلة نهل منها الكثير ولا تزال كتبه ــ وخاصة موسوعته الضخمة الموسوعة الحسينية ــ مصدرا مهما ومنبعا ثرا للدارسين والباحثين والمؤلفين وطلاب العلم والمعرفة.
الكتاب هو الجزء الثالث من أجزاء قسم الحسين والتشريع الإسلامي والذي هو من ضمن موسوعته الخالدة حيث يقدم الكرباسي ــ وكعادته ــ رائعة من روائعه والتي هي عصارة فكره وعلمه تجلت في هذا الكتاب الانسكلوبيدي الغزير بالمادة التاريخية والعلمية والأدبية والفقهية.
يبدأ الكرباسي كتابه بالإشارة إلى نقطة مهمة ومثيرة قد تخفى على كثير من الدارسين والمؤلفين وهي أن الإمام الحسين (ع) كان مشاركا لأخيه الإمام الحسن (ع) ليس في الإمامة فقط بل بالعهد أيضاً فكان يمارس قيادته وتصديه للأمة معه في حياته, وقد بدآ معا بحمل أعباء الإمامة بعد استشهاد أبيهما (ع) مباشرة عام (40هـ) ويستدل الكرباسي على ذلك بعدة نصوص تاريخية وروايات معتبرة.
كما دل على ذلك النصوص الحديثية منها قول النبي (ص): (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وقوله: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) فالحسين (ع) قام بدوره على امتداد حياته بعد أمير المؤمنين (ع) حتى توّجه بنهضته العظيمة وثورته المباركة التي رفعت شعار الإصلاح ومحاربة الفساد بقوله: (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي رسول الله (ص) وأبي علي بن أبي طالب (ع)
ومن هذه النقطة المهمة يطرق الكرباسي باب العهد للأئمة المعصومين (ع) ابتداءً بالإمام زين العابدين (ع) الذي قام بدور الإمامة بعد أبيه وحمل على عاتقه مسؤولية الأمة وحماية الشريعة المقدسة كما حمل هذه المسؤولية تجاه الامة وقيادتها وفق أحكام الإسلام الحقة التي جاء بها خاتم النبيين (ص) كل الأئمة (ع) فصانوا الدين من الزيغ والإنحراف، وتصدوا للتيارات الفاسدة والمبتدعة والسياسات الجائرة وهذا الأمر لا يتأتى لأحد سوى لهم (ع) فهم الذين أختصهم الله بوحيه، ونص عليهم الرسول (ص) وقرنهم بالكتاب.
وبعد أن يستعرض الكرباسي بعض خصائصهم (ع) ومآثرهم العظيمة وإبراز فضلهم وعلمهم وتأثيرهم على الأمة وتلاميذهم الذين صاروا من أعلام التاريخ يدير دفة الحديث عن الحواضر الإسلامية وجذورها وإنشائها والمراحل العلمية التي مرت بها وأبرز علمائها وفقهائها وأعلامها والعهود السياسية التي رافقتها ابتداء بمكة المكرمة فاليمن فالبحرين ثم ينتقل بالحديث عن حواضر العراق فيخصص للكوفة فصلا مطولا باعتبارها عاصمة أمير المؤمنين وأهم مدينة في تلك الفترة الصاخبة فمنها خرج أعلام الشيعة الذين تصدروا العلوم الإسلامية إضافة إلى أنها ــ أي الكوفة ــ كانت منطلقا لكل الثورات العلوية وغيرها والتي قامت ضد السلطتين الأموية والعباسية
ثم ينتقل الكرباسي بالحديث عن حاضرة أخرى كان لها دورا كبيرا في رفد الحضارة الاسلامية والانسانية كما كانت معقلا من معاقل الشيعة ألا وهي البصرة فيتحدث عن دورها الثقافي والسياسي ثم يتطرق إلى كربلاء المقدسة وبغداد والكاظمية المقدسة فالنجف الأشرف فالحلة الفيحاء فسامراء المقدسة مستعرضا كل ما يخص الحركة العلمية فيها ويذكر أبرز علمائها ومدارسها وتياراتها .
ويشير الكرباسي في معرض حديثه عن بلاد الشام إلى أثر الشيعة الكبير في ازدهارها ونموها وبلوغها أوج مراحلها في القرنين الثالث والرابع الهجريين على عهدي الحمدانيين والمرداسيين وأثر تلك المرحلة على المراحل اللاحقة ويبدأ بالحديث عن مدنها بدمشق فحلب وطرابلس الشام والقدس الشريف وجبل عامل وبعلبك.
وعن جهود الشيعة ودورهم العظيم في نشر الإسلام وبناء الحواضر وتأسيس المدن والمعاهد الثقافية في شمال أفريقيا يستعرض الكرباسي أهم هذه الأدوار وأبرزها في تاريخ تلك المدن ولا سيما دور الفاطميين في بناء الجامع الأزهر الذي أصبح مفخرة من مفاخر التاريخ الإسلامي كما يستعرض الحواضر الأخرى كجامعة الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب وقرطبة في الأندلس.
وفي مبحث إيران وما وراءها يقدم الكرباسي ــ كعادته ــ مادة تاريخية وعلمية غزيرة الفائدة حيث يتوغل في أنثروبولوجيا هذه البلاد وعاداتها وتقاليدها وجذورها ويتدرج إلى تطورها والحقب التاريخية والحضارية التي مرت بها والحكومات التي سادتها وأهم الأحداث التي رافقتها على الصعيدين الاجتماعي والسياسي فيبدأ بالري فقم المقدسة فقزوين فأصفهان فخراسان فمشهد المقدسة فنيسابور.
ثم يشد الكرباسي الرحال بقلمه وفكره الخصب إلى ما بعد إيران ليقدم لنا أهم المراحل الانتقالية وعهود التغيير الجذري لبلاد ما وراء إيران بدخولها الإسلام وإنشاء حضارة وبناء مدارس ومعاهد فيها فيتحدث عن الهند وباكستان وأفغانستان وبلاد ما وراء النهر (تركستان الروسية)
لقد كان الكتالب بحق تحفة نادرة جمعت من المعلومات التاريخية والعلمية والفكرية ما يغني الدارس والباحث والقارئ
اترك تعليق