قراءة في كتاب... أضواء على مدينة الحسين (الجزء الأول)

(وجدت نفسي على عتبة مسقط رأسي تارة, وأخرى محلقاً في سمائها لأنظر إليها نظرة الباحث المتفحّص والذي لا علاقة له بالمكان إلا من باب التاريخ الذي يجب أن يكون موضوعياً إلى أقصى الحدود ...)

بهذه الكلمات يبدأ الشيخ المحقق الأستاذ محمد صادق الكرباسي مقدمته للجزء الأول من كتاب أضواء على مدينة الحسين (ع) وهو قسم من أقسام موسوعته الحسينية الخالدة متحرِّياً في دراسته لتاريخ هذه المدينة الموضوعية في الطرح والحيادية في الرأي, وهذا المنهج يجسّد مثلاً قيِّماً للبحث التاريخي الموضوعي الذي يعتمد على الأدلة والحقائق بعيداً عن الآراء التي تسوقها الأهواء والأمزجة.

فالكرباسي في بحثه لا يؤكد القول ولا يجزم بالرأي دون أن يمحصه ويدعمه بالأدلة والحقائق، ويعطيه حقه دون زيادة أو نقصان ولا يثبته إلا بعد استقراء عميق ودراسة مستفيضة وتسليط الضوء على حقيقته.

 وقد تبنّى الكرباسي هذا البحث لعدة أمور أوضحها ودافع عنها في رده على من عد هذا البحث فيه بعض التحيّز لهذه المدينة كونها مسقط رأسه وهو ما (يزيده فخراً وفضلاً) وهي كما يقول: (رفع الظلم والحيف المتراكمين على هذه المدينة أولاً, وثانياً إن لهذه المدينة خصوصية كونها تشرفت باحتضان سبط النبي الأكرم (ص) وسيد الشهداء (ع).

فهو يوضح إن بحثه لم يكن لإضافة خصائص شخصية منه لهذه المدينة تقودها الأهواء والنزعات, ولكنه البحث الذي يجلي الحقائق التاريخية لهذه المدينة والتي (سعى الظالمون إلى إخماد ذكرها وإطفاء تاريخها), وهذه هي الغاية من الباحث الحصيف والمحقق الأمين الذي ينظر إلى التاريخ نظرة محايدة باستخدامه أدوات البحث العلمي الرصين. ويدلنا على ذلك قوله: (فلو كنت باحثاً عن إمام آخر من أئمة المسلمين لما تخطيت نهجي هذا).

ثم يشرع في بحثه مبينا الغاية منه حيث (لا يختلف هذا الباب عن غيره من أبواب الموسوعة لأن الغرض في النهاية الحديث عن الإمام الحسين ـ ع ـ وديدنه الذي جرى عليه في بقية الأبواب هو التبويب والتقسيم حسب الموضوع الذي نتولى الكتابة عنه).

نهج الكرباسي في بحثه استخدام المعيار البحثي المنطقي السليم, والرؤية المحددة التي تنفذ إلى الماضي بعمق وتفحّص لرسم صورة حقيقية لهذه المدينة إلى الأجيال, فهو لا يعتمد الإنسياق في بحوثه وراء ظاهر الروايات بل البحث والتحقيق عن جذور وتشعبات وتداعيات الحدث والمكان, فهو يصبو إلى التكامل في البحث الذي يغني القارئ وهذا هو هدفه غير عابئ بالجهد والمعاناة والتعب الذي يلاقيه في الحصول على المعلومة.

يقول في ص (29): (إن الحديث عن كربلاء أخذنا إلى الحديث عن أصل الخلقة ثم المدنية ثم التمصير لنتحول إلى تاريخ المدينة وتطوراتها وموقعها الجغرافي). فهو يسعى من خلال (التدرج المعلوماتي) ــ كما يسميه ــ للوصول إلى الموضوع بشكل كامل عبر (خلفية معرفية صحيحة) ولا يبالي بما يكلفه هذا البحث الموسع من جهد مضنٍ وعمل مضاعف فيقول:

(وربما كان هذا الجزء بكامله تمهيدا للحديث عن هذه المدينة المقدسة بمعنى أن ما ورد فيه لا يرتبط بها مباشرة إلا من باب الوصول إلى الهدف, وكلما اقتربنا من نهاية هذا الجزء تقربنا إلى الحديث عن هذه المدينة بشكل مباشر, وعندما نتحدث عن كربلاء نتحدث بالطبع عن الجذور والملابسات والتطورات وعلى جميع جوانبها لتكون هذه الأجزاء موسوعة مختصرة وموجزة عن كربلاء).

ثم يبيّن الكرباسي أمراً مهماً جداً بخصوص هذا التمهيد العميق والرابط بينه وبين المقدمة الطويلة عن طريق سؤال وهو أسلوب الباحث المتفحص الذي لا يترك شاردة ولا واردة تنقص بحثه دون ذكرها فيجيب عنه بقوله:

(وسيتبين للقارئ بأن المقدمة وهذا التمهيد لهما علاقة بقدسية هذه الأرض والتي لم تستجد قدسيتها من أحد بل نشأت مقدسة, وما إن اكتشفتها الحضارات التي حكمت هذه المنطقة إلا وتعاملت معها من هذا الباب, وجاءت حضارة الإسلام بعد ذلك لتظهر قدسيتها من جديد وبالصورة الإسلامية والتي هي أعرف بالمثوى والمُثوى فيها)

إن هذا البحث وبهذه الآلية يدل بحق على ندرته في عالم البحوث والدراسات فالمخزون الانثروبولوجي الهائل الذي استقاه الكرباسي من تاريخ هذه المدينة يدل على مدى انصهاره فيها، وتفاعله مع طقوسها وتقاليدها وأعرافها.  

ويلاحظ ذلك جليا من خلال الأبواب التي وضعها في هذا الكتاب وتتمحور بوضع مقدمة شبه كاملة لربط هذه المدينة بالمنطقة ثم الإقليم ثم الكرة الأرضية ثم المجموعة الشمسية والمجرة والكون.

وهو بحث مستفيض يغني الباحث في هذا المجال بالمعلومات المهمة التي عرضها الكرباسي فيه باستخدام آلية (التدرج في المعارف) حيث بنى بحثه على الشكل الهرمي مبتدأً بالكون فمجرة درب التبانة فالمجموعة الشمسية وفيها يتحدث عن أصل اسم كل كوكب من هذه المجموعة واكتشافه وخواصه ومساحته وبعده عن الشمس والأرض مرفقا بالصور.

ثم يتطرق الكرباسي إلى علاقة الأرض بالإنسان في مبحثه الإنسان والأرض, ثم خطوط الطول والعرض, فالأقاليم والقارات, ويفرد فصلاً خاصاً عن قارة آسيا ودولها وأنهارها وأعراقها ولغاتها وأديانها ومنتجاتها وحضاراتها للدخول إلى مبحث العراق والحديث عنه بكل هذه التفاصيل للوصول إلى كربلاء المقدسة.

يظهر الكرباسي في مباحثه المتتالية ترابطاً عجيباً فهو يأخذ بالقارئ في سياحة حول الكون بمركبة فكره النير للعروج إلى مدينة الشهادة وهناك حيث روضة سيد الشهداء يكون دليل الهادي للقارئ في هذه المدينة للتعرف على تضاريسها وطقوسها وعاداتها وتقاليدها وأعلامها وأحداثها ومساحتها وحدودها وتاريخها العلمي والفكري والأدبي والسياسي والاجتماعي.

إن هذا البحث النادر يدل على عقلية فذة في مجال البحوث ولا أدل من هذه الموسوعة على علميته فهو المحقق والباحث والدارس والعالم والفقيه والأديب والمفكر والفيلسوف وكما قال المتنبي: 

أسَــــامِياً لم تَزِدْهُ مَعْرِفَةً  ***  وَإنّمَا لَذّةً ذَكَــــــــــــرْنَاهَا

تَقُودُ مُسْتَحْسَنَ الكَلامِ لَنَا  ***  كما تَقُودُ السّحابَ عُظْمَاهَا

 

كاتب : محمد طاهر الصفار