جازَ والله في الشرفِ حداً لا يُوصف وغايةً لا تُعرف وباللهِ أسألكَ إعفائي مما أتخوَّف ..
هذه الكلمات لقامة نسائية أخرى شاخصة في تضاريس التأريخ، لقد كانت هذه الكلمات التي طرقت أذني معاوية في عهده وسمعها وهو جالس على عرش الخلافة من جروة بنت مرة المرأة المؤمنة البطلة التي لم تخش بطشه وسطوته وجابهته بالحقيقة وأثنت على عدوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في مجلسه وأسمعته ما يكره ووجهت إليه صفعة قوية بقولها هذا الذي كان بمثابة الصاعقة التي صبت على رأسه وبقي التاريخ يتناقلها جيلا بعد جيل.
إنها السيدة جروة بنت مرة بن غالب التميمية من بني أسيد بن عمرو بن تميم كانت تسكن في مكة وهي من النساء اللواتي عرفن بالفصاحة والبلاغة والمنزلة السامية بين نساء العرب والمواليات لأمير المؤمنين والسائرات على منهجه واللاتي ثبتن على الولاء الخالص الذي لا تشوبه شائبة وكان معاوية يعرف منها هذا الولاء.
في ليلة أرق فيها معاوية فاستدعاها فلما دخلت عليه قال لها: مرحباً يا جروة ! أرعناك ؟
فقالت: إي والله، لقد طرقت في ساعة ما طرق فيها الطير في وكره، فأرعت قلبي وأرعبت صبياني، وأفزعت عشيرتي، وتركت بعضهم يموج في بعض، يتراجعون القول، ويترددون الأمر، ويرصدون الكلام، خشية منك وخوفاً عليَّ !
هذه الكلمات منها هي بمثابة إدانة مبطنة لاستدعائها في الليل كما إن خوف قومها عليها يكشف عن سطوة معاوية وبطشه وسفكه لدماء الموالين لأمير المؤمنين وهي قد عرفت بولائها.
فقال لها: ليسكن روعك ولتطب نفسك فالأمر على خلاف ما ظننت، إني أحتجمت فأعقبني ذلك أرقاً فأرسلت إليك لتخبريني عن قومك.
ولا يعرف بالضبط غاية معاوية من سؤاله هذا غير أنه يتضح من خلال الحديث إنه يحاول أن يستدرجها في الكلام لإبداء رأيها في أمير المؤمنين وهي هي باقية على ولائها له فأبدت رأيها وصرحت عن ولائها بكل شجاعة.
قالت له: عن أي قوم تسألني ؟
فقال: بني تميم، فقالت:
هم أكثر الناس عدداً، وأوسعهم بلداً، وأبعدهم أمداً، هم الذهب الأحمر، والحسب الأفخر.
فقال: صدقت، فأنزليهم لي ؟ فقالت:
أما بنو عمرو بن تميم فأصحاب بأس ونجدة، وتحاشد وشدة، لا يتخاذلون عند اللقاء، ولا يطمع فيهم الأعداء، سلمهم فيهم وسيفهم على عدوهم.
فقال لها: صدقت، ونعم القوم لأنفسهم. فقالت:
أما بنو سعد بن زيد مناة، ففي العدد الأكثرون، وفي النسب الأطيبون، يضرون إن غضبوا، ويدركون إن طلبوا، أصحاب سيوف وجحف، ونزال وزلف، على أن بأسهم فيهم وسيفهم عليهم.
وأما بنو حنظلة، فالبيت الرفيع، والحسب البديع، والعز المنيع، والمكرمون للجار، والطالبون بالثار، والناقضون للأوتار.
فقال: إن حنظلة شجرة تفرع.
فقالت: فأما البراجم ، فأصابع مجتمعة، وكف ممتنعة. وأما بنو طهية، فقوم هوج، وقرن لجوج.
وأما بنو ربيعة فصخرة صماء، وحية رقشاء، يغزون غيرهم، ويفخرون بقومهم.
أما بنو يربوع ففرسان الرماح، وأسود الصباح، يعتنقون الأقران، ويقتلون الفرسان.
وأما بنو مالك فجمع غير مفلول، وعزٌّ غير مجهول، ليوث هرَّارة، وخيول كرَّارة.
أما بنو دارم، فكرم لا يدانى، وشرف لا يسامى، وعزٌّ لا يوارى.
قال: أنت أعلم الناس بتميم فكيف علمك بقيس ؟
فقالت: كعلمي بنفسي فقال: فأخبريني عنهم
فقالت: أما غطفان فأكثر سادة وأمنع قادة.
وأما فزارة فبيتها المشهور وحسبها المذكور.
وأما ذبيان فخطباء وشعراء أعزة أقوياء،
وأما بنو عبس فجمرة لا تطفى وعقبة لا تعلى وحية لا ترقى.
وأما هوازن فحلم ظاهر وعز قاهر.
وأما سليم ففرسان الملاحم وأسود ضراغم.
وأما نمير فشوكة مسمومة وهامة مكمومة وأرنة معلومة وراية ملمومة.
وأما هلال فاسم فخم وعز ضخم وأما بنو كلاب فعدد كثير وفخر أثير وحلم كبير.
فقال لها معاوية: لله أنت فما قولك في قريش ؟
فقالت: أما قريش فهم السنام وسادة الأنام والحسب القمقام.
ثم سألها: فما قولك في عليٍّ ؟
فقالت: جاز والله الشرف حداً لا يوصف، وغاية لا تعرف، وبالله أسأل إعفائي مما أتخوف.
لقد بيّنت بهذه الكلمات القصيرة بأن شأن أمير المؤمنين أعلى من الوصف وأسمى من التعريف وهو فوق كل ما وصفت به سادات العرب من مزايا وصفات.
...................................................
بلاغات النساء ــ ابن طيفور ص 77
أعيان الشيعة ج 4 ص 70
أعلام النساء ــ رضا كحالة ج 1 ص 191
أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان ــ ابن بكار ص 33 ــ 36
اترك تعليق