العلوية أسماء القزويني.. نفحة الشعر الحلي

عاشت الحلة عصوراً فكرية وأدبية ذهبية تزعّمت بها هذه العوالم وتمخضت عن كنوز من التآليف والتصانيف وقدمت للعالم الإسلامي حضارة فكرية شاملة منذ أن مصرّها المزيديون (402 هـ ــ 1012 م / 545 هـ / 1150 م) حيث عاشت في عهدهم حركة علمية وفكرية وأدبية كبيرة لم يشهد تاريخها مثلها.

فصارت الحلة في عهدهم عبارة عن جامعة علمية كبيرة استقطبت العلماء والفقهاء والأدباء من البلاد الإسلامية، فأحيت تلك النهضة العلمية التي تُعد من أهم مراحل تطور الفكر الشيعي التراث الإسلامي وكانت عاملاً مهماً من عوامل التجديد فيه.

كما تركت آثارها على مراحل عديدة بعدها، وتركت آثارها أيضاً على بعض المدارس الشيعية الأخرى وخصوصاً المدرسة العلمية في كربلاء التي أسسها العلامة الشيخ أبو الفهد الحلي والمدرسة العاملية في لبنان

ولا زال صدى تلك المدرسة مؤثّراً في الحياة العلمية، إذ أنتجت تلك النهضة كمّاً ثقافياً هائلاً من المؤلفات والمصنفات في شتى موارد العلم ومصادره والذي لا يزال بعضه مُتداولاً إلى الآن سوى ما ضاع أو أضيع وأتلف بأيد السياسات المعادية، وما ضيعته الأهواء العصبية.

ولم تقتصر هذه الحركة على الرجال فقد أنجبت الحلة أعلام الأدب الملتزم من النساء اللاتي بقيت آثارهن ترفد الأجيال بروائع الأدب، ومن هؤلاء النساء الأعلام الأديبة العلوية أسماء بنت العلامة السيد الميرزا صالح ابن العلامة الفقيه الحجة السيد مهدي القزويني.

ولدت السيدة أسماء في الحلة سنة (١٢٨٣ه‍ـ) ونشأت بين ينابيع العلم وموارد الأدب ومصادر الشعر حتى تبرعم فكرها وتصلب عودها على العقيدة الصلبة والأدب العالي والفكر الثر. ولم يقتصر نشاط هذه السيدة العلوية على ميداني العلم والأدب وإقامة المجالس النسائية بل تعداه إلى الجانب الاجتماعي فكان لها منزلة كبيرة في أوساط النساء والمجالس النسوية فكانت تسعى جاهدة لحل التنازع والتنافر بين العوائل والأسر وتنزع عن القلوب أغلال الكره والبغضاء وتخلق لها أجواء الصفاء والتسامح والحب والوئام.

تزوجت العلوية أسماء القزويني من ابن عمها الميرزا موسى ابن الميرزا جعفر القزويني وكان ثمرة زواجها ابنتها (ملوك) التي كانت تروي شعر أمها وأخذت هي أيضاً مكان أمها في قلوب الناس بعد أن ورثت عنها حب الناس وإصلاح ذات البين إلى جانب وراثتها عنها الأدب والشعر.

ولم تخرج (ملوك) عن أجواء الأسرة المفعمة بالعلم والأدب فقد تزوجت من ابن خالها السيد باقر السيد هادي القزويني المتوفى سنة ١٣٣٣ ه‍.

أما شعرها فلم يصل إلينا منه سوى النزر اليسير نقل منه في ترجمتها السيد جواد شبر (1) ومنه قولها من قصيدة في رثاء جدها الإمام أبي عبد الله الحسين:

وإنَّ قتيلاً قد قضى حقَّ دينهِ     وزاحمَ فـي شمَّـاءِ هـمَّـتـهِ نِـسـرا

فذاكَ لعمري لا توفّيهِ أعيني     وإن أصبحتْ للرزءِ باكيةَ عبرى

أما نثرها فكانت على مستوى عالٍ من الفن والأسلوب وقد صدرته ببيتين أو أكثر كما كان متعارفاً عليه في ذلك الوقت، واستكمالا للفكرة عن أدبها نعرض هذا النموذج، تقول السيدة أسماء في إحدى رسائلها تعزي صديقة لها بوفاة والدتها: 

صبراً عـلى نِوَبِ الزمانِ وإنّما     شيمُ الكرامِ الصبرُ عندَ المُعضلِ

لا تجزعي مّما رُزِيتِ بفادحٍ     فالله عوّدَكِ الجـــــــــــميلَ فأجملي

خطبٌ نازل، ومصابٌ هائل، ورزية ترعد منها المفاصل، وتذرف منها الدموع الهوامل، وينفطر منها الصخر، ولا يحمد عندها الصبر، ويشيب منها الوليد، ولا يفتدى فيها بالطارف والتليد، وعمّت كل قريب وبعيد، غير أن الذي أطفى لهيبَها، وسكّن وجيبَها التسليم للقدر والقضاء، وأنك الخلف عمن مضى، فلم تفتقد مَن أنت البقية، ولم تذهب مَن فيك شمائلها والسجية، فذكراها بك لم تزل مذكورة، وكأنها حيةٌ غير مقبورة، فلا طرقت بيتك الطوارق ولا حلّت بساحة ربعك البوائق، ودُمتِ برغم أنف كل حقود، لا نرى فيك إلا ما يغيظ الحسود.

١ رجب المرجب ١٣٢٢ هجرية    الداعية العلوية أسماء

ويبدو من خلال الرسالة أن صديقتها كانت لها مكانة قريبة عندها وكذلك لها مكانة اجتماعية وعلمية لكن التاريخ لم يسجل لنا من هي هذه المرأة

وهناك رسالة ثانية أرسلتها إلى أخيها السيد هادي بعد أن نجا من حادثة كاد أن يقتل فيها في قضاء (الهندية) عندما دعاه أحد شيوخ العشائر إلى وليمة ليلاً، فلبى الدعوة مع ولده السيد باقر وأخوه السيد حسن وجماعة من أصحابه.

وقد جلس الجميع في الفضاء قرب المضيف بسبب حرارة الجو وفجأة تعالت أصوات الرصاص من كل جانب وكان يقف قرب السيد هادي رجل أصابته بعض الرصاصات فقتل وسقط ميتاً قربه كما قتل رجل كان يسقي الماء للضيوف وسقط بعضهم جريحا أما السيد هادي فبقي محافظا على هدوئه ولم يتحرك من جلسته..

وكان سبب هذا الهجوم المباغت حسب ما رواه السيد محمد رضا بن هاشم الموسوي: هو إن بعض العشائر كانت عندها ثأر مع شيخ العشيرة الذي أقام الوليمة وقد وقعت هذه الحادثة سنة (١٣٢٨هـ‍). (2)

فكتبت السيدة أسماء إلى أخيها رسالة تهنئه فيها على سلامته وهي ما نصه

أ (هادي) دجى الظلما بنورِ جبينهِ     وأحــــسا به يجلوه إن أظلمَ الخطبُ

لقد أضـــــرمَ الأعداءُ نارَ حقودِهم     وما علموا في رشحِ جودِكَ قد يخبو

غمام جود الواقدين إذا أمحل النادي، وشمس صباح السارين وبدرها (الهادي)

حفظك الرحمن من طوارق الأسواء بمحمد وآله النجباء.

أما بعد.. فنحن بحمد الله المتعال، وما زلنا في السرور ولا نزال، سيما بورود حديث فرح من ذوي شرف قديم، وخصوص مسرود من ذوي فضل عميم، يشعر أن الله قد حياك بنعمته الوافية، وخصّك بسلامته الكافية، ونجاك من هذه الرائعة، فيا لها من قارعة، فحمدنا الله على ذلك، وشكرناه على ما هنالك، وإلا لتركت مقلة المجد عبرى، ومهجة الفخر حَرّى، وأحنيت على وجد منا الضلوع، ومنعت من عيوننا طيب الهجود والهجوع.

توفيت السيدة أسماء القزويني في مسقط رأسها الحلة سنة (1342هـ) بعد معاناة مع مرض لازمها شهورا عديدة وحمل جثمانها الطاهر إلى النجف الأشرف حيث رقدتها الأخيرة.

...................................................

1 ــ أدب الطف ج 9 ص 86

2 ــ الخبر والعيان في أحوال الأفاضل والأعيان ص ٦٤ ترجمة السيد باقر ابن السيد هادي

المرفقات

كاتب : محمد طاهر الصفار