صوت الحق..

لا اختلاف على أن الرسوم الشعبية لمجريات واقعة الطف تنحى منحاً تسجيلياً في اغلب الاحيان، فهي محاولة لترجمة النصوص والمرويات التاريخية التي يتم من خلالها الاتحاد الوجداني للمتلقي مع الحدث، فهي تعد تمثيل لفكرة جوهرية تصاغ بأشكال متعددة قد تكون في بعض الاحيان ظاهرية وفي احيان اخرى رمزية ، ولذلك فأن أصولها لا تحمل تصويراً لنموذج محدد، فهي وأن حاولت الاقتراب من الواقع فأن واقعيتها تكمن في جغرافية أماكنها وزمانها، بيد أن أشكالها تحتمل التحوير والتطوير تبعاً للأفكار والقيم التي تتضمنها أضافات الرسام بفعل ما يحمله من العادات والتقاليد والضواغط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقائدية والتي تدفعه أحياناً الى محاكاة الأخرين بفعل التأثر والتأثير وبما يتطابق مع مقاصده.

 اللوحة اعلاه احدى الروائع الابداعية التي انتجها الاستاذ محمود فرشجيان ضمن سلسلة اعماله الخاصة بنشر ثقافة الطف و اهل بيت النبوة صلوات الله عليهم اجمعين، وقد نفذت بأسلوب تعبيري وعلى الورق المقوى بالوان الاكريلك وقد اختصت عن غيرها من لوحات هذه الفئة بقلة استخدام الالوان وقلة الاشكال المكونة لبنية العمل الفني .

استمد الفنان موضوع ومضمون هذا الأثر الفني ذي اللكنة الروحانية من استشهاد علي الاصغر بن الامام الحسين عليهما السلام الذي جسد مظلومية سيد الشهداء عليه السلام بذبح رضيعه بين يديه حينما خرج عليه السلام مبتعدا عن الخيام حاملا طفله الرضيع يستسقي له بعدما اخذ العطش منه مأخذه واخذ يتلوى بعد جفاف حليب امه ولم تستطع ارضاعه ، ذهب عليه السلام باتجاه جيش ابن سعد لعنة الله عليهم وطلب منهم الماء لصغيره الذي ليس له ذنب فيما اخذوا عليه اباه فكثر اللغط بين جيش بن سعد بين مؤيد ومعارض لإعطائه الماء كونه رضيع لكن اللعين اطلق امره بـقوله اقطعوا نزاع القوم . . فانبرى حرملة بن كاهل الاسدي لعنة الله عليه وقطع نزاع القوم بسهم اصاب نحر الرضيع وهو بين يدي ابيه فذبحه من الوريد الى الوريد .

نلمس في هذه اللوحة نوع من التمازج بين الواقع ومخيلة الفنان في فعل أدائي مزدوج باستجابة معرفية ووجدانية تتمثل باستلهام التعبير الديني لمشهد ذبح الرضيع سلام الله عليه للكشف عن بناءات شكلية ولونية في مستوى معرفي يظهر سلطة العقل التي فرضتها طبيعة الرؤية التخيلية للفنان ،وفي الوقت نفسه نلمس وجود تدخل عقلي في صميم اللوحة متمثل بالوعي في إدارة تشكيل وتصميم أجزاء اللوحة رغم بساطتها وقلة عناصرها ،كاشفاً بذلك عن عالم مستقل فيه تأمل لذات الرسام والاستغراق في التمعن في الخيال الكامن في نفسه وثقافته والواقع الذي يمثله هذا الحدث التاريخي الديني المؤلم .

اعتمد الفنان في تنفيذ هذا السطح التصويري على مبدأ البساطة في التكوين مجسدا ذلك من خلال حركة الألوان ،فقدعمد إلى تقسيم المشهد إلى مساحتين الاولى منها في وسط اللوحة تتمثل بالطفل الرضيع على يدي ابيه الحسين عليه السلام في لفافته الطاهرة وقد استقر سهم الشر في نحره الشريف مقطعا اوداجه ،ويده الناعمة متدلية من تلك اللفافة اللبيضاء موحية بمغادرةالروح للجسد الشريف ، اما المساحة الثانية فهي فضاء اللوحة الخالي من التفاصيل ،سوى تكوين لوني بدرجات متفاوتة من الاصفر بشكل اساسي وبعض من البني والاخضر فضلا عن اللون الابيض ، ويعزى سبب ذلك الى محاولة الفنان شد انتباه وتركيز الناظر إلى الموضوع الأساسي بعيدا عن خلفية الشكل .

 أبدع الفنان في اختزال عناصر الإيهام بالمكان بأبسط صورة وعمد إلى كسرها بذات الوقت ، فبأسـتخدامه للون الاصفر المائل إلى الدفء أكثر من البرودة اكسب اللوحة طاقة ميل إلى الإيجابية أكثر من السلبية والتي من خلالها (الطاقة الايجابية للون الاصفر) قام بجذبنا بشدة لدخول اللوحة والاستعانة بالفراغ لتمييز واستيعاب القيمة التعبيرية للمشهد لاشعوريا مما يخلق تفاعلا وجدانيا معه .

وبذلك يكون الفنان قد حقق توازنا في هذا التشكيل الفني من خلال الخصائص التي يتمتع بها اللون الاصفروتدرجاته والمهارة في استخدامه التي اندمجت مع الشكل المرسوم والوانه كقيمتين لونيتين متساويتين في التأثير وايصال الرسالة التي يحملها العمل الفني الى المشاهد .

المرفقات

كاتب : سامر قحطان القيسي