حسب الشيخ جعفر (1361 ــ 1444 هـ / 1942 ــ 2022 م)
قال من قصيدة (أبي):
ماتَ أبي
فانتحبي أيّتها النخيلُ والرياح
وابكي كما تبكي النسا
أيّتها الجروفُ في المسا
كان لنا في الصيفِ ظلّا وندى
وفي الشتا دفئاً أنيسا مُؤنِسا
كانت له في مكّة المكرمة
عباءةٌ،
ومن ترابِ (كربلاء)
مسبحة،
حجرٌ نشمُّ مِن عبيرِه
شذى الإمامِ الطاهرِ الحسين
ونرتدي أجنحةً بيضاءَ كالملائكة
تعلو بنا، تطير
لكننا ونحنُ في السما
نحسُّ بالظما
كما أحسَّ الطاهرُ الحسين (1)
................................................
الشاعر
حسب الشيخ جعفر، شاعر وكاتب ومترجم وروائي، يعد من أعمدة الشعر الحر في العراق والوطن العربي، ولد في العمارة، وهو حاصل على شهادة الماجستير في الآداب من معهد غوركي للآداب عام 1959 ــ 1966 وعمل في الصحافة، ثم عُيّن رئيساً للقسم الثقافي في إذاعة بغداد 1970 ــ 1974 وهو عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وشارك في العديد من المؤتمرات الأدبية في العراق والدول العربية والاتحاد السوفيتي (سابقاً)
له العديد من الدواوين منها:
نخلة الله ــ 1969
الطائر الخشبي ــ 1972
زيارة السيدة السومرية ــ 1974
عبر الحائط في المرأة ــ 1977
في مثل حنو الزوبعة
وجيء بالنبيين والشهداء
أعمدة سمرقند
كران البور
الفراشة والعكاز
تواطؤاً مع الزرقة
رباعيات العزلة الطيبة
وله من المؤلفات:
رماد الدرويش ــ مذكراته عن رحلته الدراسية إلى موسكو ــ 1986
الريح تمحو والرمال تتذكر ــ رواية ــ 1996
مختارات من الشعر الروسي
وترجم العديد من أعمال الشعراء الروس إلى العربية منهم: غابرييلا ميسترال، بوشكين، ليسينين، اخماتوفا، بلوك، ماياكوفسكي، بوشكين، مارينا تسفيتايفا، رسول حمزاتوف، باسترناك، باشو.
حصل خلال مسيرته الأدبية على العديد من الجوائز منها:
جائزة السلام السوفيتية ــ 1983
جائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية للشعر ــ الدورة الثامنة ــ 2002 ــ 2003
ترجمت بعض أعماله إلى اللغة الايطالية
توفي في بغداد ودفن في النجف الأشرف. (2)
كتب عنه الدكتور علي حسين يوسف مقالاً عن تجربة الشاعر (3) قال فيه: (يستوحي الشاعر حسب الشيخ جعفر من حادثة الطف مادة إلهامه وطاقة عاطفته فيصوغ منها صوراً جديدة على نسق المناخ الشعري التجديدي الذي مثل ثمرة الشعر العربي الموروث. ويمثل هذا اللون في شعره صدىً لاستجابة الشاعر لمؤثرات البيئة من حوله فهو يعبر بأقصى عاطفة ما تلقاه ذهنه وهو صغير من قصص الطف، فقد حملت قصيدته (الصخر والندى) إحساساً مشبعاً بمؤثرات البيئة الشيعية وعبرت عن مدى تأثره بها، إذ اختزن الشاعر الذي ولد ونشأ في مدينة العمارة، في وجدانه تلك المؤثرات للموروث الشيعي الراسخ والممتد والذي تبلورت حوله في الضمير الشعبي كافة مشاعر التظلّم والبطولة والوفاء والثبات والفداء وقد انعكست هذه المشاعر وامتدادات هذا التأثر في قصيدته بما توارثه من لوعة وحزن واجلال. فعاش الشاعر هذه الحادثة على مستوى الفكر والواقع ووجد فيها صوراً أخرى للتضحية فهي ينبوع لكل الدروس العظيمة فصور هذه الدروس بهالات القداسة والاصرار البطولي المضمخ بالأشلاء والدماء والرؤوس المقطوعة:
الجسدُ المنطفئُ المطحونُ بالحوافر
باقٍ على الطفوف
والرأسُ من بابٍ إلى بابٍ على رماحِهم يطوف
فمن يلمُّ لحمي العالقَ بالخناجر؟
وينزعُ السهمَ الذي يخترقُ الخواصر؟
وراءَ هذا الرأسِ مثلَ طائر
... وحينما استقرّ بي المطاف
رأساً وحيداً، مترباً، مقطوع
في طبقٍ من ذهبٍ يضوع
بالمسكِ والحناء
رأيتُ وجهَ أمّيَ الزهراء
مبلّلاً، طوالَ ليلِ الموتِ، بالدموع
ورفرفتْ حمائمٌ
تؤنسني، طوالَ ليلِ الموتِ، كالشموع (4)
يتعاظم تشبث الشاعر بالصورة على قدر تعاظم ضغط المأساة على وجدانه وإحساسه ليمنحها بعداً أعمق من أبعادها التراجيدية فيرسم صورة الحزن المقدس ويوحد نفسه مع الصورة ليلبي نزوعه النفسي الملح إلى أن يكون حاضراً ويتحول صوت الشاعر إلى أنين هادر وسط الصحراء، وسط النبال والسيوف ليمتد إلى أعماق الوجدان الشعبي المقهور الناقم الظامئ للعدل:
أُثخِنتُ في مشتجرِ النبالِ
فأدركوني، قطعوا أوصالي
وعلّقوا رأسي على أسنةِ العوالي
يا صيحةَ البحرِ، ويا عواصفَ الرمالِ
غطّي جبينَ الشرقِ بالسحائبِ الثقالِ
وأغرقي جوعَ الثرى ولوعةَ التلالِ
وانبتي قواطعَ النصالِ
يقطفُ منها غايةَ الآمالِ
فتىً بنيرانِ الحروبِ صالِ (5)
إن الشاعر يدعو الى تأمل تلك الروح العظيمة... روح الحسين عليه السلام البطولية، فالإحساس بالظلم والاحباط نتيجة التسلّط والقهر، دفع الشاعر إلى التوجه إلى روح أبي الأحرار الذي فضّل الموت والخلود على حياة الخنوع والفناء. وتتعدد صور الشاعر حول مأساة الطف ويندمج في وقائعها ليعطي سمة الحزن قيمة سامية:
أيّتها الريحُ التي تحملني
فوقَ امتدادِ القننِ
تغسلُ وجهي بالندى أصابعُ السحرِ
تلمسه أكفُّ طفلٍ مهملِ الشعرِ
عيونُه النهرُ الذي أرضعني
واحتضنتْ ضفافَه طفولتي الشريدة (6)
فالصورة تغشاه فيتذكر نفسه جالساً يصغي بألم وخشوع إلى قصص مقتل الحسين عليه السلام فتغرورق عيناه لمصرع الحسين مع أهل بيته واصحابه:
أيّتها الريحُ التي تحملني
أوقدتُ في ليلِ الخيامِ شمعة
تضيء وجهَ طفلةٍ ودمعة (7)
ويؤكد الشعر تفاعل قضية الحسين عليه السلام على مر الدهور مع الوجدان الشعبي والضمير الانساني:
أيّتها الشمسُ
طاف على الرمحِ، وها عاد إلى منبتهِ.. الرأسُ
حياً، مكرِّاً، بيرقاً مغبرّ (8)
وتنبض روح الوفاء في موقف العباس في قصيدة الشاعر (الغيمة العاشقة) حيث يبدؤها بمقطع (صوت في الريح) وهو صوت الأم الرؤوم أم البنين وهي تناجي ابنها العباس كما تناغي الأم طفلها:
وشممتُ ثوبَكَ في غبارِ الريحِ راية
يا وردةَ البستانِ، يا طفلي المدلّل
لو أضمّكَ في ضلوعي
وأشدّ أذيالَ النهايةِ وهيَ تفلتُ بالبداية
وتعودُ طفلاً، تاجُكَ الأشواكُ تزهر في دموعي
أترى أصدّق أنهم قتلوكَ؟
كيف كبرتَ في ليلِ الخيامِ؟
وشببتَ غصناً فارعاً، وفماً تقلّبه الأزاهرُ باشتهاءِ
ورجولة تتأوّه النسماتُ لو مرّت يسربلها الإباءُ
وتحملُ الموتَ المكبَّلَ كالنمورِ على يديك
وتجوسُ في أدغالِ ليلِ اللاجئينَ وحيدةً في مقلتيك
كضياءِ قنديلٍ وحيدٍ في غبارِ الريحِ راية
أكبرتَ؟ ياغصناً تفتّحَ في الملاجئِ والصحارى
أطعمته قلبي وأدمعيَ الغزارا
فزها ومادَ، كبرتَ في ليلِ الخيام؟
وشببتَ واشتدّتْ يداكَ
والريحُ وهيَ ثقيلةٌ تسفي الغبارا؟
أترى رحلتَ فلا أراك
ولا يحط على فؤادي ساعداك
كحمامتينِ صديقتينِ
كما أتيتَ إليَّ يوماً مقلتاك:
((أمّاه جوعان))...!
كأنْ عادَ الزمانُ إلى الوراء
وما تلمَّستِ الأصابعُ غيرَ ثوبِكَ في غبارِ الريحِ راية (9)
وتتصاعد هذه الأصوات الثاكلة فيرسم بها الشاعر صوراً بكائية، فالفقيد ليس ككل الناس وقد تنوّعت جوانب عظمته فيعددها الشاعر من خلال أصوات أمّه الثاكلة يقول تحت عنوان الحافر والنبض:
تلتفُّ في الروحِ الغصونُ ثقيلة، ويسفُّ طائرْ
يطوي البراري الموحشاتِ بلا مسامرْ
ويشمُّ رائحةَ البحارِ ولمعةَ الماءِ المسافر
يا دقّةً في الصدرِ، يا صخراً ترنُّ به الحوافر
مِن أينَ...؟ واخضرّتْ فلاةُ الروحِ مزهرةَ المنائر
لا تسبلُ الهدبَ الطويل
يا مَن يجودُ معَ الأصيل
ببقيةٍ في الصدرِ عالقةٍ كآخرِ ما يسيل
مِن ماءِ قربتِكَ التي ثُقبت
... أتسمعُ كيفَ يطوي البيدَ حافر؟
تلوي عباءته الرياحُ وتشرئبُ له النخيل
لا تسبلُ الهدبَ الطويل
يأتي إليكَ مُحمَّلاً بالماءِ، نجديَّ البشائر
يأتي فتشرقُ بالقنا هذي البوادي والحواضر
يا دقَّة ًفي الصدرِ تصمتُ مرّةً، فيفرُ طائر) (10)
وقال عنه الكاتب السوري أنس الأسعد: (ظلّ الشّعر فضاءَ الشيخ جعفر الأثيرَ، فيه انصبّت هموم الاجتراح والتّجديد الشّعري، لتشفَّ عن أسلوبيّة قوامها "القصيدة المدوّرة" التي توازي في فرادتها ما ذهب إليه الجيل الأسبق من روّاد التفعيلة، كالسّياب والملائكة وبلند الحيدري. مع أنّ عدم إيلاء الأوساط النّقدية تجربة الشيخ جعفر الشّعرية ما تستحقّ من إحاطة لَشيءٌ يثير الشجى، عزّز ذلك إيمان الشّاعر بعزلة الإنسان النّبيل وابتعاده عن ضجيج الجوائز....) (11)
وقال عنه الشاعر والناقد علي حسن الفواز: (قراءة تجربة حسب الشيخ جعفر، تعني قراءة مؤثراتها، فبقدر ما يحضر التاريخ القريب فيها، لاسيما الشاعر الرصافي الذي قرأه مبكرا، والشعراء الرعويين، فإنّ ملامح التجربة الحقيقية بدأت مع ظلال بدر شاكر السياب في غنائيته، وفي لغته المشبوكة بالجزالة، والنزوع إلى قصيدة النشيد....) (12)
وقال عنه الناقد محمد الغزي: (إنه خاض مغامرة القصيدة المدورة منذ ديوانه "الطائر الخشبي"، فقد كان التدوير حيلة الشاعر حتى يكسر رتابة الإيقاع في قصيدة التفعيلة...) (13)
وقالت عنه الدكتورة نادية هناوي: (المتفحص في قصائد حسب الشيخ جعفر لا سيما تلك التي كتبها أبان العقدين الستيني والسبعيني سيجد أنها تشكلت من مجموعة مرجعيات، حتى أن كل قصيدة لها مرجعية ما من مجموع مرجعيات ثقافية وشعرية، بها تمرق عن الخط السائد في بناء قصيدة التفعيلة. وهو ما يجعل (القصيدة الحسبية) محطة مهمة في تاريخ القصيدة العربية. التدوير الإيقاعي هو أهم سمة كسمة أسلوبية طغت على القصيدة الحسبية إلى جانب سمات أخرى أسطورية واشتغالات تناصية ومسائل ثيماتية تتنوع معطياتها وبأبعاد جمالية كثيرة. وعلى الرغم من هذا الاهتمام بالقصيدة الحسبية؛ فإن هناك تموضعات لا تزال متدارية وغير منقب عنها نقديا لاسيما تلك التي تتعلق بالمرجعيات، وهي بمثابة مراهنة نقدية تتحدى القراء قبل أن تكون هي مراهنة الشاعر نفسه مع قصيدته على التفوق الإبداعي) (14)
وقال عنه الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري: (فقد الشعر العربي المعاصر أحد أبرز أصواته.. العراقي حسب الشيخ جعفر، الذي سيشكل مع مواطنه فاضل العزاوي، والفلسطيني محمود درويش، والسوري فايز خضور، والمصري محمد عفيفي مطر، والسوداني محمد عبد الحي؛ الموجة الحداثية الثانية التي ستخلف موجة الريادة وترخي آثارها ومفاعيلها الضاربة على الأجيال الشعرية العربية اللاحقة.. قضى فترة من حياته في موسكو طالبا في معهد غوركي للآداب، وحيث سيحصل على ماجستير في الأدب الروسي، قبل أن يعود إلى بلده ويشتغل في الإعلام الثقافي.. وبقدر ما كان متضلعا في التراث الأدبي العربي سيتشبع، وإلى أقصى الحدود، بمقروءاته الواسعة والنابهة في الآداب العالمية.. وأيضا بقدر ما سيبصم على اجتراحات جمالية فريدة وجسارات رؤياوية عميقة سيغني بها الشعرية العربية المعاصرة سيفتح لها، بالموازاة من هذا، قنوات مع المتن الشعري الروسي من خلال ترجماته الباذخة التي لا تضاهى.
لكم كان اغتنائي وأنا أخوض، لسنوات، في مقاربة عالمه الشعري، مرتحلا، في مزيج من مشقة واستمتاع، بين تاريخ العراق السومري والأكدي والبابلي والآشوري، وتاريخه الحديث.. بين أرصدته من الشعر العربي القديم والشعر العربي المعاصر، وتلك التي اكتنزها من الشعريات العالمية، وفي صدارتها الروسية.. بين قطوفه من حقول الرواية والقصة القصيرة والمسرح، وما اجتنته عيناه من مشاهدات سينمائية وكوريغرافية فذة وأدمنته أذنه من مسموعات موسيقية راقية..
كنت التقيتك، لمرتين، في بغداد العامرة، وأنت ترفل في حزنك السومري المعتق، يدثرك يتم السلالة التي تحدرت منها أنت وأندادك النادرون، عساني أغنم منك، من صمتك الهائل، سبيلا ما إلى لب مجرتك وإلى تخومها اللاترى.. عساك تخفر ممشانا، أنا وصديقك أبو نواس، مثلما فرجيليوس مع دانتي بحثا عن بياتريس، نحو جنان العباسية.. الشقيقة الصغرى ليوريديس السومرية.. سدرة منتهى الروح والقصيدة كلتيهما.. فشكرا لروحك البهية على كرم مرورك الشعري المبجل في أخاديد اليباس والشدة.. في كلوحة الوجود وانحطاطه.. أنت السومري القح، الموعود، في حياتك كما في مماتك، بـ "زيارة السيدة السومرية" هناك "عبر الحائط.. في المرآة") (15)
وقالت الدكتورة نادية هناوي: (يعد الشاعر حسب الشيخ جعفر أول شاعر عربي راهن على تجريب السونيت، مجارياً ما كتبه شكسبير من سونيتات وعددها مئة وأربعة وخمسون، فكتب هو مئة وتسعة عشر سونيتا في ديوانه «كران البور».
ولا شك في أن حسب الشيخ جعفر ليس أول شاعر كتب السونيت الشكسبيري، لكنه أول شاعر ـ على حد علمنا ـ وضع ديوانا كاملا بهذا العدد من السونيتات في الشعر العربي، مُنهياً بذلك مشوارا طويلا قطعه في التجريب مستجيبا لتطلع ذاتي، أو لعله كان تحديا راهن على إنجازه وبغض النظر عن جدوى هذا الإنجاز بالنسبة إلى تجربته الشعرية كلها أعني أهمية ما أضافه ديوانه «كران البور» إلى دواوينه السابقة. علما أن الشاعر لم يسم نصوص هذا الديوان سونيتات، بل هو لم يستعمل كلمة السونيت ولا كلمة القصيدة إطلاقا، تاركا للقارئ استجلاء الأمر بنفسه.
ولعل أهم سمة مأخوذة عن السونيت الشكسبيري هي الاحتفاء بالطبيعة، وهو ما يتضح من كثرة ما وظفه حسب الشيخ جعفر من نباتات البيئة الجنوبية للعراق كالنخل والقصب وحيواناتها وطيورها واتبعّه في «كران البور» الذي ابتدأ باستهلال تراثي من ثلاث مقولات للجنيد وابن مبارك ويزيد الرقاشي كعتبة غايتها لفت نظر القارئ إلى أن السمة التراثية هي الغالبة على قصائد الديوان، أو كتهيئة استباقية للذخيرة المرجعية التي ينبغي أن يتزود بها القارئ وهو يعاين نصوص الديوان كمتون وحواش) (16)
وقال عنه الناقد محمد ناصر الدين: (قصيدة حسب الشيخ تنتمي إلى تلك الغربة حيث «يلتبس الإنسان على الإنسان» على حدّ قول أبي حيان التوحيدي، فينصرف الشاعر إلى الحوار الداخلي بعد أن يتعذّر الحوار مع الحياة التي تخبّئ الصادم والمزعج دائماً ويطيب له الإقامة في الساحة الخلفية مع الغائبين أكثر من حضوره في المقدمة مع الأحياء، كأن العالم قُلبَ رأساً على عقب. أسلوبياً، كان إحساس جيل حسب الشيخ جعفر يدفع بضرورة التفرّد عمن سبقه والتميّز بشيء عن جيل الروّاد، ما دفعه إلى التجريب المستمر في بنية القصيدة وشكلها، فكان أن ظهرَ مفهوم «التدوير» أو «القصيدة المدورة»...) (17)
وقال عنه الروائي السوري خليل صويلح: (الشاعر الذي لطالما اختار الانزواء والزّهد والعزلة، بعيداً عن النيونات البرّاقة التي جذبت أبناء جيله من شعراء الستينيات إلى الواجهة. إذ بقي اسمه خارج التداول العمومي، رغم أهمية تجربته وفرادتها التي تُضاهي تجارب مجايليه....) (18)
وقال فيه الباحث والشاعر الفلسطيني زكريا محمد: (أمس رحل حسب الشيخ جعفر. فلتبقَ ذكرى حسب الذي صار جزءاً منا، ومن تكويننا) (19)
وقال عنه الناقد والشاعر حسين علي يونس: (عاش في بغداد التي تدعى دار السلام، ودفن في مقبرة وادي السلام حيث الراحة الأبدية. كان مجاوراً لـ «نخلة الله» واليوم أصبح مجاوراً لقبب الذهب، يظلله حنوّ علي ومنارته الشامخة. ثمة حياة طويلة عاشها حسب المكرود، حسب كلام طهمازي «بين النفاهة والفاقة»، بين البعثية الذين ناصبوه العداء لسنوات طويلة بسبب عدم اختلاطه بهم. حتى انهم منعوا دراسة منجزه لطلبة الماجستير لسنوات طويلة. اتذكر أنّ طالب دكتوراه كان يرغب بدراسة شعره والقصيدة المدورة في نهاية الثمانينات، لكن أحدهم منعه وفرض عليه دراسة شعر حميد سعيد بالغ الضحالة. وحين اقترحوا مسابقة للشعر تحمل اسمه بسبب مصداقيته وقربه من الآخرين، لم يقبل الرفاق وعملوا على طمس تلك المسابقة رغم إقرارها تعرض حسب إلى الكثير من التهميش والتهديد أحياناً...) (20)
وقال عنه الشاعر والناقد الفلسطيني فراس حج محمد: (خسارة كبيرة أن لا يذكر هذا الشاعر في الصحف وفي المجلات قبل رحيله ــ فيما اطلعت عليه ــ ولم يكن له ذكر أيضا في مقرراتنا الدراسية الفلسطينية في اللغة العربية...) (21)
وقال عنه الناقد خالد المعالي: (مجموعته الأولى «نخلة الله» (1969) اطلعت عليها متأخراً جداً، فيها يبدو تأثير السيّاب والبياتي بشكل واضح، ولو أن قصائده تميّزت بالكثافة والمعرفة التامة بصنعة الشعر، على عكس الإسراف الذي ميّز الكثير من قصائد السيّاب والبياتي) (22)
وقال أيضاً: (وجميع قصائد مجموعته «زيارة السيدة السومرية». بقيت أبيات هذه القصائد تطفو في خيالي، كأنها ثمالة لا تنتهي...) (23)
وقال عنه الكاتب هادي الحسيني: (شاعر التزم الصمت، وابتعد عن الأضواء، إلا ان نصوصه ظلت تجوب الفضاءات وتخترقها وهي متوقدة بجمرة الشعر... لقد مّر هذا الشاعر بآلام صعبة حقاً، إلا أنه كان أقوى منها، واستطاع أن يتغلب عليها بالرغم من ظروفه المادية السيئة). (24)
وقال الشاعر الأردني يوسف أبو الوز: (إن من المخجل على وزارة الثقافة الأردنية أن يكون في ضيافتها شاعر بحجم حسب الشيخ جعفر يسكن في غرفة بائسة في جبل الحسين) (25)
وقال الشاعر والناقد علي وجيه في تأبينه: (أخلص حسب الشيخ جعفر للشعر، وما ترك كتابته إلا ليترجمه. ما تركه حسب لا شبيه له في الشعرية العربية، أبداً). (26)
وقال عنه الكاتب حمدي الساعدي: (الشاعر حسب الشيخ جعفر، شاعر أمَدَّ تجربة الشعر العربي عموماً والعراقي خصوصا” بالكثير من سمات التطور والتجديد، ورغم الجهد الأدبي الذي درس جوانب عديدة من أشعاره، إلا أن هناك جوانب كثيرة ما زالت تستحق التأمل والدراسة ولو على جزئيات متباعدة). (27)
وقالت عنه الناقدة الدكتورة نادية هناوي: (من الشعراء العرب الذين عرفوا بالتجريب فكانوا كبارا وفريدين حقاً الشاعر حسب الشيخ جعفر،...... وإذ يغادرنا هذا الشاعر الكبير مترجلاً عن صهوة الشعر التي عشقها، فإن قصيدته ستظل تشهد له أنه أبدع فيها شعراً سيظل خالداً بيننا، ومثالاً ناصعاً لا يتكرر للجمال الذي يتوهج ألقاً بلا رياء، والإبداع الذي ينساب غزيراً بلا ادعاء). (28)
وقال عنه الكاتب محمد الغزي: (القصيدة عنده حالة احتشاد، احتشاد لكل العصور والأماكن. وبسبب من هذا تحدث عدد من النقاد عن الأبعاد الدرامية في شعر حسب. فقراءة قصائد الشاعر مثل قراءة الأساطير، دخول في عالم ملتبس، غامض، صامت ومعتم. الإيماءة تعوض اللغة، والتأتأة تقوم مقام الفصاحة وقوة التعبير) (29)
شعره
قال من قصيدة (الصخرة والندى)
رأساً وحيداً مترباً مقطوع
في طبق من ذهب يضوع
بالمسك والحنّاء
رأى وجه أُمّه الزهراء
مبللاً طوال ليل الموت بالدموعْ
ورفرفتْ حمائم بيضاء
تؤنسه طوال ليل الموت كالشموعْ
أيّتها الشمس طاف على الرمح،
وها عاد إلى منبته الرأس حياً،
مكرّاً،
بيرقاً مغير
أغفى الصبيُّ مُعَذَّباً، متوجِّعا
قد مرَّ أُسبوعٌ عليهْ
عيناهُ حمراوانِ، مغلقتانِ بالرمَدِ الأليمْ
(هذا العدوُّ يزورُهُ في كلِّ صيفْ).
فإذا الإمامُ المرتضى
(أو نجلُهُ السِبطُ الحُسين)
يبدو لهُ
وجهاً وضيئاً، نيِّرا
وبِلحيةٍ سوداءَ قاتمةٍ، قصيرةْ.
بعِمامةٍ خضراءَ زاهيةٍ سنيّةْ
وعَباءةٍ سوداءَ ضافيةٍ عليه.
وبدَت لهُ قدما الإمام
وقوائمُ الكرسيِّ لا تطَأُ البساطْ
بل في عُلوٍّ عنهُ، عن وجهِ الثَرى.
وأفاقَ فجرا
فإذا الرَمدْ
قدْ فَرَّ منهزِماً، ذلولا.
بل لم يعُدْ مُذْ ذاكَ يوما. (30)
...........................................................
1 ــ قصيدة أبي ــ قصائد جديدة حسب الشيخ جعفر / جريدة الزمان بتاريخ 20 / 8 / 2021 كتبها الشاعر ببغداد في 15 / 8 / 2021
2 ــ من هو الشاعر العراقي الراحل حسب الشيخ جعفر؟ / موقع ناس نيوز بتاريخ 11 / 4 / 2022 / موقع مؤسسة سلطان علي العويس الثقافية / موقع قصائد للحياة / موقع ويكيبيديا
3 ــ ملامح كربلاء في شعر حسب الشيخ جعفر ــ مجلة الموسم / المجلد 104 لسنة 2014 ص 289
4 ــ الأعمال الشعرية 1964 ــ 1975 حسب الشيخ جعفر منشورات وزارة الثقافة والإعلام ديوان الشعر العربي الحديث قصيدة الصخر والندى ص 15 ــ 16
5 ــ نفس المصدر ص 12 ــ 13
6 ــ نفس المصدر ص 17
7 ــ نفس المصدر والصفحة
8 ــ نفس المصدر ص 19
9 ــ نفس المصدر ص 21 ــ 23
10 ــ نفس المصدر ص 27 ــ 28
11 ــ حسب الشيخ جعفر.. أورفيوس العراقي ووعد القصيدة المدوّرة / صحيفة العربي الجديد بتاريخ 15 / 4 / 2022
12 ــ جريدة المدى / العدد 5165 بتاريخ 12 / 4 / 2022
13 ــ صحيفة اندبندنت العربية بتاريخ 12 / 4 / 2022
14 ــ مرجعه النخلة ومرتعه التجريب ــ شبكة أخبار العراق بتاريخ 14 / 4 / 2022
15 ــ حسب الشيخ جعفر في التلقي المغربي: شاعر متفرد في جيله ووريث الأساطير السومرية / صحيفة القدس العربي بتاريخ 15 / 4 / 2022
16 ــ حسب الشيخ جعفر: التجريب بلا هوادة / صحيفة القدس العربي بتاريخ 14 / 4 / 2022
17 ــ أحد أبرز وجوه الحداثة الثانية بعد السيّاب: قصيدة الغربة الداخلية / ملاحق المدى بتاريخ 14 / 4 / 2022
18 ــ ولكن لمَ كلّ هذه المراثي؟ / ملاحق المدى بتاريخ 14 / 4 / 2022
19 ــ جزء منا / جريدة الأخبار اللبنانية بتاريخ 13 / 4 / 2022
20 ــ ظلمه الرفاق / جريدة الأخبار اللبنانية بتاريخ 13 / 4 / 2022
21 ــ لماذا لم نكن نعرف الشاعر حسب الشيخ جعفر؟ / موقع ديوان العرب بتاريخ 16 / 4 / 2022
22 ــ يوم حدّثني كمال سبتي عن قصائده المدورة / جريدة الأخبار اللبنانية بتاريخ 13 / 4 / 2022
23 ــ نفس المصدر السابق
24 ــ أيام حسب الشيخ جعفر العمّانية: نتاجٌ غزير ووحشة تتخللها لفتةٌ رسمية / صحيفة قاب قوسين بتاريخ 29 / 1 / 2013
25 ــ نفس المصدر السابق عن صحيفة "الدستور" الأردنية
26 ــ موقع آر تي بتاريخ 11 / 4 / 2022
27 ــ حسب الشيخ جعفر يتشكل روحياً / صحيفة الزمان بتاريخ 3 / 9 / 2016
28 ــ حسب الشيخ جعفر... أبدع في قصيدة التجريب حتى صارت تنتسب إليه / صحيفة الشرق الأوسط العدد 15842 بتاريخ 13 / 4 / 2022
29 ــ حسب الشيخ جعفر”.. الشعر لديه كالسعادة أو كالتعب بعد عمل مضن / صحيفة الاندبندنت بتاريخ 12 / 4 / 2022
30 ــ الأعمال الشعرية 1964 ــ 1975 حسب الشيخ جعفر منشورات وزارة الثقافة والإعلام ديوان الشعر العربي الحديث قصيدة الصخر والندى ص 11 ــ 19
كما ترجم له وكتب عنه:
إميل يعقوب / معجم الشعراء منذ عصر منذ بدء عصر النهضة ج 1 ص 313
كامل سلمان الجبوري / معجم الأدباء من العصر الجاهلي حتى سنة 2002 ج 2 ص 131
كامل سلمان الجبوري / معجم الشعراء ج 2 ص 29 ــ 30
عبد العزيز البابطين / المعجم ج 2 ص 54
حميد المطبعي / أعلام العراق في القرن العشرين ج 1 ص 53
الناقد المغربي بنعيسى بوحمالة ــ أيتام سومر- في شعرية حسب الشيخ جعفر / بجزأين
علي هاشم طلاب الزريجاوي ــ المتعاليات النصية في شعر حسب الشيخ جعفر (نخلة الله اختياراً) / مجلة آداب ذي قار المجلد 2020، العدد 33 ج 2 (30 يونيو/حزيران 2020)، ص 143 ــ 171
حاتم الصكَر ــ دراسة في التدوير عن حسب الشيخ جعفر
سرى عباس علي عباس ــ حضور السيرة الذاتية في شعر حسب الشيخ جعفر ــ رسالة ماجستير / جامعة ديالى
فاضل ثامر ـــ قراءة نقدية لشعر حسب الشيخ جعفر
فاضل ثامر ــ حسب الشيخ جعفر... أخذ من آبائه الشعريين ثم اختطّ مساره الخاص / جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 17 / 4 / 2022
الدكتور حسن الخاقاني ــ نحو تأويل للرؤى والتقنيات ــ قراءة في ديوان (الفراشة والعكاز) لحسب الشيخ جعفر / مجلة الكوفة السنة 2 العدد 3 صيف 2013
ياسين النصير ــ حسب الشيخ جعفر .. ثورة البدائي في القصيدة صحيفة الرأي بتاريخ 2 / 11 / 2007
ناجي عباس مطر الركابي ــ دلالات المكان الشعري دراسة في شعر حسب الشيخ جعفر ــ دار الكتب والوثائق العراقية, 2005
هيثم سرحان ــ حسب الشيخ جعفر والحداثة الشعرية / صحيفة اللحظة الشعرية العدد 15 ــ 2015
حسام الياس عبد الله ــ مرجعيات القصيدة عند حسب الشيخ جعفر : الاعمال الشعرية (1964 - 1975) ــ أطروحة دكتوراه / جامعة الموصل كلية الاداب - قسم اللغة العربية ــ 2012
عباس يونس العنزي / الرمز الاسطوري عند حسب الشيخ جعفر ــ موقع الحوار المتمدن بتاريخ 25 / 7 / 2011
اترك تعليق