فنون الطف.. تعبير فني وترسيخ للعقيدة وقيمها السامية

ما من فعل أو إداء فني إلا ويراد به التعبير عن حدث ما.. والتعبير بشكل عام هو مفردة لصيقة بالفنون بكل مضامينها واشكالها منذ فنون الانسان الاول وحتى الاختزال والتجريد الشكلي اليوم، فالرسام الاول عندما كان يخفي رسوماته في عمق معين على جدران الكهف بعضها فوق بعض وعن قصد ، فهي انما محاولة منه التعبير عن رغبته باستباق نتيجة يبتغيها متخذاً من الفن أداة سحرية من خلال الاعتقاد بأن كل ما يصوره يصيب الشيء نفسه لأنها نسخة عنه ومترابطة معه.

 فساعدته مخيلته إلى تأسيس منظومة فكرية استمرت بالنمو فكانت نقلة كبيره بارتقاء وعيه وافكاره الروحية وبالتالي اصبحت تلك الفنون مؤثرة في المجتمع ككل، ليكون الفن جزءاً من إبداعات الانسان لبلوغ فهم اعمق للواقع الذي يعيشه، لم ينظر اليه على انه حاله مستقرة بل هو ضرب من المواجهه تحتاج الى نوع من التحايل واقناع النفس بالصيغ والممارسات الروحية والعقائدية وزخم كبير من الطقوس والشعائر الدينية المتوارثة، موجداً من خلال الفن عالماً يتوق اليه او ايجاد نقطة التقاء لما هو مادي محسوس وما هو غيبي روحي فأصبحت مهمة الفن هي محاول بلوغ فكرة الاشياء ومفهومها الجوهري الباطن.

 ولما كان بلوغ الفكره والمفهوم الجوهري لا يعتمدان على ما هو مرئي وما متفق عليه في العقل الجمعي، إذاً لا بُدّ ان يكون لعقل المنتج الصورة النهائية لتشكيل العمل الفني - كما هو الحال في رسوم مدرسة عاشوراء -، مما اسس للاعتقاد ان العمل الفني يقوم على التقاء ثلاثة مسوغات عالم الواقع المرئي الذي منه ينطلق ومنه يستعير مواده مهما يمكن التبدل الذي يفسرها عليه، وعالم الصيغة أي الضرورات التي تفرضها المادة التي يصنع منها العمل والطريقة التي يصنع بها، والعالم الروحي العقائدي المتمثل بالخواطر والمشاعر التي تدفع وتطبع الفنان الى تجسيدها .

 من هنا نجد ان الابداع الفني انما اعتمد على تجاوز الفنان للصورة البصرية بالاعتماد على مخيلته بتصور الموروث والمرويات الواردة اليه عبر الاجيال السابقة، مما دفعه لإيجاد تصور جديد للأحداث السابقة لعصره من خلال اندماج المنجز البصري مع الصورة الذهنية المتكونة لديه، وهنا تكمن اهم المميزات المؤسسة للتعبيرية الشكلية، فالفنان لا يظهر ما يدركه بصرياً وانما يقوم بخلق واقع جديد هو يعتقده.. عمد على تشفيره روحياً فكانت ارادته بالتعبير المتضايف لعلاقته بالعالم المحيط به، فالتعبير يجنح نحو الواقعية ويميل نحو تمثيل الناحية الاجتماعية.

ومن هذا المنطلق تنوعت النشاطات الانسانية التعبيرية ضمن نطاق التمثلات الشعبية وبالخصوص تمثلات فاجعة الطف و احياء ذكرى استشهاد الامام الحسين بن علي عليهما السلام، فمنها ما تمثل بالمواقف الشعرية، ومنها ما كان على شكل ادوار مسرحية تتمثل بالتشابيه، واخرى على شكل فنون تشكيلية متفاوتة بين رسوم شعبية واخرى اكاديمية حداثوية.

ويكون ذلك عبر مشاركة وجدانية تنتقل الذات _ ذات الفنان والمتلقي _ من خلالها لتتمثل في شخوصها الحرية والنبل والعظمة والخلاص من الظلم والجور، ويكمن جمال هذه التمثلات الفنية بصدقها وعفوية طرحها، ويعزى ذلك الى ان استذكار واقعة الطف والشعائر المرافقة لها.. هي الممارسة الوحيدة التي يجتمع فيها كل الناس بمختلف تنوعاتهم، وبتجرد كامل عن كل ما يلتصق بهم من ممارسات يومية قريبة أو بعيدة عن الدين، وأحياناً كثيرة تذوب كل المستويات الثقافية والعلمية لتشارك عامة الناس في أحياء ذكرى عاشوراء، وهذا ما نراه ممتدا وعلى مر العصور التي خلت وحتى اليوم في احياء ذكرى عاشوراء، اذ أن كل ما يحمله الموروث الشعبي من عادات وتقاليد تخص عاشوراء لا يمكن تغيرها أو استبدالها، حتى وأن تبدلت الأجيال وتغيرت طبائعها ومستويات تقدمها العلمي أو الثقافي، فهذا الموروث ينتقل عبر الأجيال محفوظاً في الشعور واللاشعور، وكل محاولات التطوير التي قد تطرأ عليها تبقى ضمن النكهة الشعبية الخالصة، فلا شك ان أسس قيامها هو ترسيخ للعقيدة وقيمها السامية، وهي بالتالي تؤدي وظائف تعليمية ونفعية تعمل على تثبيت العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية التي تتمسك بها الجماعة.

 وان دققنا عن كثب في ما ذكر انفاً من الناحية العلمية والاجتماعية، سنجد أن اغلب الموروثات الشعبية هي فنون محافظة تعبر عن طرائق عمل وتفكير وسلوك تقليدي.. من شأنه أن يحافظ على احياء ما تركه الأجداد، ولها أدوات ورموز وأغراض فكرية وعملية نفعية وفنون محافظة، اي بمعنى أنها فنون تراثية تحاكي ما قام به الآباء والأجداد وتحافظ عليه من التلف والضياع وتنقله نقلا مباشرا لا تبدل فيه او تغير أو تطوير واضح .. وان كان هناك تغييرا فيكون تغييرا بطيئا طفيفا وغير ملحوظ بما يتوافق ومتطلبات العصر وحداثويته.

المرفقات

كاتب : سامر قحطان القيسي