هناك رواياتُ حول بكاءِ الملائكةِ على الإمامِ الحسينِ (ع) مقطوعةُ الصّدورِ عنِ المعصومينَ (عليهم السّلام) ، وهيَ إمّا متواترةٌ أو قريبةٌ منها ، فقد نقلَ إبنُ قولويه في كاملِ الزّياراتِ أكثرَ مِن عشرينَ حديثاً في بابِ بكاءِ الملائكةِ على الإمامِ الحسينِ (عليه السّلام) ، وفي غيرِها من الأبواب .
الأمر الثاني : لا دليلَ أنّ الملائكةَ لا تملكُ عاطفةً ، أو أنّها عقلٌ محضٌ ، فالحديثُ المرويُّ في هذا البابِ هو ما رواهُ الصّدوقُ بسندِه عَن عبدِ اللهِ بن سنان قالَ : سألتُ أبا عبدِ اللهِ جعفراً بنَ محمّدٍ الصّادقِ عليهما السّلام فقلتُ الملائكةُ أفضلُ أم بنو آدم ؟ فقالَ : قالَ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ بنُ أبي طالب (ع) : إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ركّبَ في الملائكةِ عقلاً بلا شهوةٍ ، وركّبَ في البهائمِ شهوةً بلا عقلٍ . وركّبَ في بني آدمَ كليهما ، فمَن غلبَ عقلُه شهوتَه فهوَ خيرٌ منَ الملائكةِ ، ومَن غلبَت شهوتُه عقلَه فهوَ شرٌّ منَ البهائم . (عللُ الشّرائع : 1 / 4) .
فهذا الحديثُ الشّريفُ ينفي وجودَ الشّهوةِ في الملائكةِ ، ولا ينفي غيرَها ، فالإمامُ يقارنُ بينَ البشرِ والملائكةِ والحيواناتِ ، في تركّبِها منَ القوى العقليّةِ والشّهويّةِ فقَط ، وليسَ الإمامُ بصددِ نفي أو إثباتِ سائرِ القوى ، فيثبتُ العقل للملائكةِ وينفي عنها الشّهوةَ ، ويثبتُ الشّهوةَ للحيواناتِ وينفي عنها العقلَ ، ويثبتُ كليهما للبشر .
وإثباتُ العقلِ ونفيُ الشّهوةِ لا يعني نفيَ كلِّ قوّةٍ إلّا العقلَ ، فهذا غيرُ ظاهرٍ منَ الحديث .
والكلامُ في الحيواناتِ كذلكَ ، فإثباتُ الشّهوةِ لها ، ونفيُ العقلِ والتي هيَ القوّةُ الدّرّاكةُ للكليّاتِ ، لا يعني نفيَ كلِّ قوّةٍ عنها غيرَ الشّهوةِ ، فللحيواناتِ إدراكٌ للجزئياتِ ، والمشاعرِ والعواطف .
وكذلكَ الكلامُ في البشرِ عندَما أثبتَ لهُ العقلَ والشّهوةَ ، فهل يعني تركّبَ الإنسانِ منهُما فقط ؟! وإنسلاخَه منَ العاطفةِ والمشاعر ؟! كلّا .
وعليهِ : فلا دليلَ أنّ الملائكةَ لا تملكُ عاطفةً ، فيمكنُ أن تبكي على الإمامِ الحُسينِ (ع) بكاءً منشؤهُ العاطفة .
الأمر الثالث : إنّ أسبابَ البكاءِ كثيرةٌ ، كالخوفِ والرّحمةِ والحسرةِ والشّعورِ بالتّقصيرِ أمامَ اللهِ تعالى ، وغيرها ، ولا مانعَ مِن عروضِ هذه الأسبابِ على الملائكة .
فالملائكةُ التي بكَت على الإمامِ الحسينِ عليه السّلام ، ولا زالوا يبكونَه إلى يومِ القيامةِ ، تتفاوتُ حالاتُهم وأسبابُ بكائهم ، فبعضُهم يبكيهِ رحمةً لهُ وحسرةً على فواتِ نُصرتِه : كما وردَ في أحاديثَ كثيرةٍ عَن أبي عبدِ اللهِ الصّادق (عليه السّلام) قالَ : إنَّ أربعةَ آلافِ ملكٍ هبطوا يريدونَ القتالَ معَ الحسينِ بنِ عليّ ( عليهما السّلام ) ، لم يُؤذَن لهُم في القتالِ ، فرجعوا في الإستيذانِ فهبطوا وقَد قُتلَ الحسينُ ( عليه السّلام ) ، فهُم عندَ قبرِه شعثٌ غبرٌ يبكونَه إلى يومِ القيامة... (كاملُ الزّيارات ص172) .
وفي بعضِ طرقِ الحديثِ : فأوحى اللهُ تباركَ وتعالى إليهم : أن إلزموا قبرَه حتّى تروهُ وقد خرجَ ، فانصروهُ ، وأبكوا عليه وعلى ما فاتَكم مِن نُصرتِه ، وإنّكم خُصصتِم بنُصرتِه والبكاءِ عليه ، فبكَت الملائكةُ حُزناً وجزعاً على ما فاتَهم مِن نُصرةِ الحسينِ (عليه السّلام) ، فإذا خرجَ (عليه السّلام) يكونونَ أنصارَه . (الكافي للكُلينيّ : 1 / 283) .
وبعضُهم يبكيهِ مواساةً للزّهراءِ (ع) ، وبعضُهم رحمةً لبكاءِ الزّهراءِ (ع) على ولدِها : كما وردَ في الحديثِ عنِ الصّادقِ (ع) : ولو يعلموا ما في زيارتِه منَ الخيرِ ويعلمُ ذلكَ النّاسُ لاقتتلوا على زيارتِه بالسّيوفِ ، ولباعوا أموالَهم في إتيانِه ، وإنَّ فاطمةَ ( عليها السّلام ) إذا نظرَت إليهم ومعها ألفُ نبيٍّ وألفُ صدّيقٍ وألفُ شهيدٍ ومنَ الكروبيّينَ ألفُ ألفٍ يساعدونَها على البكاءِ ، وإنّها لتشهقُ شهقةً ، فلا تبقى في السّماواتِ ملكٌ إلّا بكى رحمةً لصوتِها ، وما تسكنُ حتّى يأتيها النّبيُّ ( صلّى اللهُ عليه وآله ) فيقولُ : يا بُنيّة قَد أبكيتِ أهلَ السّماوات . (كاملُ الزّيارات ص178) .
وبعضُهم يبكي على المؤمنِ رحمةً له كما روي في الجعفريّاتِ بالإسنادِ عَن رسولِ اللهِ ( صلّى اللهُ عليهِ وآله ) قالَ : ما مِن مؤمنٍ يموتُ في غُربةٍ إلّا بكَت الملائكةُ رحمةً له حيثُ قلَّت بواكيه ، وإلّا فُسحَ لهُ في قبرِه بنورٍ يتلألأ مِن حيثُ دُفنَ إلى مسقطِ رأسِه . (مُستدركُ الوسائلِ : 8 / 115)
وجبرئيلُ يبكي خوفاً منَ النّار: روى القمّيُّ بسندٍ صحيحٍ عَن أبي بصيرٍ عَن أبي عبدِ اللهِ عليه السّلام قالَ قلتُ له يا بنَ رسولِ اللهِ خوّفني فإنَّ قلبي قَد قسا فقالَ : يا أبا محمّدٍ إستعدَّ للحياةِ الطّويلةِ فإنَّ جبرائيلَ جاءَ إلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وهوَ قاطبٌ وقَد كانَ قبلَ ذلكَ يجيئُ وهوَ مُبتسمٌ فقالَ رسول اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله : يا جبرئيلُ جئتَني اليومَ قاطباً ؟ فقالَ : يا محمّدُ قَد وُضعَت منافخُ النّار ، فقالَ : وما منافخُ النّارِ يا جبرئيل ؟ فقالَ : يا محمّدُ إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أمرَ بالنّار فنُفخَ عليها ألفَ عامٍ حتّى إبيضَّت ونُفخَ عليها ألفُ عام حتّى إحمرَّت ثمَّ نُفخَ عليها ألفُ عامٍ حتّى إسودَّت ، فهيَ سوداءُ مظلمةٌ لو أنَّ قطرةً منَ الضّريعِ قطرَت في شرابِ أهلِ الدّنيا لماتَ أهلها مِن نتنِها ولو أنَّ حلقةً منَ السّلسلةِ التي طولها سبعونَ ذراعاً وُضعَت على الدّنيا لذابَت الدّنيا مِن حرّها ، ولو أنَّ سربالاً مِن سرابيلِ أهلِ النّارِ عُلّقَ بينَ السّماءِ والأرضِ لماتَ أهلُ الأرضِ مِن ريحِه ووهجِه ، فبكى رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وبكى جبرئيلُ فبعثَ اللهُ اليهما ملكاً فقالَ لهُما : إنَّ ربّكُما يقرؤكما السّلامَ ويقولُ قد آمنتُكما أن تُذنِبا ذنباً أعذّبكُما عليه ، فقالَ أبو عبدِ اللهِ عليهِ السّلام : فما رأى رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآلِه جبرئيلَ مبتسماً بعدَ ذلكَ ثمَّ قالَ : إنَّ أهلَ النّارِ يُعظّمونَ النّارَ وإنَّ أهلَ الجنّةِ يُعظّمونَ الجنّةَ والنّعيمَ وإنَّ أهلَ جهنّمَ إذا دخلوها هووا فيها مسيرةَ سبعينَ عاماً فإذا بلغوا أعلاها قُمعوا بمقامعِ الحديدِ وأعيدوا في دركِها هذهِ حالهم وهوَ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ : " كُلّما أرادوا أن يخرجُوا منها . . إلخ " ثمَّ تُبدّلُ جلودُهم جلوداً غيرَ الجلودِ التي كانَت عليهم فقالَ أبو عبدِ اللهِ عليه السّلام حسبُك يا أبا محمّد ؟ قلتُ حسبي حسبي .
ثمَّ ذكرَ اللهُ ما أعدَّهُ للمؤمنينَ فقالَ : ( إنَّ اللهَ يُدخلُ الذينَ آمنوا وعملوا الصّالحاتِ - إلى قولِه - ولباسُهم فيها حرير ) (تفسيرُ القمّي : 2 / 81) .
اترك تعليق