هناكَ روايتانِ إحداهُما يرويها البُخاريّ وغيرُه عنِ الزّهريّ عنِ الإمامِ زينِ العابدينَ (ع)، والثانيةُ يرويها العيّاشي مرسلةً عَن هشامٍ بن سالم عنِ الإمامِ الصّادق (ع) ، والرّوايةُ الأولى موضوعةٌ، والثّانيةُ مُرسلةٌ لا حُجّيّةَ فيها.
وإليكَ التّفصيل :
قالَ السّيّدُ جعفر مرتضى العاملي:
(( ويروونَ (البُخاريّ ومُسلم وغيرُهما بسندِهم ) عَن عليٍّ بنِ الحُسين « عليهما السّلام » ، عَن أبيهِ ، عَن عليٍّ « عليهِ السّلام » : أنّهُ بينَما كانَ يستعدُّ لنقلِ فاطمةَ « عليها السّلام » وعندَه شارفانِ منَ الإبلِ ، كانَ أخذَهما مِن خُمسِ غنائم بدر ، قد أناخَهُما إلى جانبِ حجرةٍ لبعضِ الأنصارِ ، وإذا بحمزةَ بنِ عبدِ المُطّلبِ قد خرجَ عليهما مِن بيتٍ كانَ يشربُ فيه ، وعندَه قينةٌ تُغنّيه : « ألا يا حمزة للشّرفِ النّواء »
خرجَ عليهما وهوَ سكرانٌ ؛ فجبَّ أسنمتَهما ، وبقرَ خاصرتيهما ، وأخرجَ كبدَهما ، ومضى لسبيلِه .
فشكاهُ عليٌّ « عليه السّلام » إلى رسولِ اللهِ « صلّى اللهُ عليهِ وآله » ؛ فجاءَ معه الرّسولُ ورأى ما رأى ، فنظرَ إليهِ حمزة ، وصعدَ النّظرَ إليه ، وقالَ : وهل أنتم إلّا عبيدٌ لأبي ؟
فتركَه « صلّى اللهُ عليه وآله » وانصرفَ ، وذلكَ قبلَ تحريمِ الخمر ( 1 ) .
وفي روايةٍ : أنَّ حمزةَ قد فعلَ ذلكَ في واقعةِ أحد ، حتّى أنَّ الرّسولَ إنّما رضيَ عنهُ في وسطِ المعركةِ ، وبعدَ أن حملَ عدّةَ حملاتٍ صاعقة على العدو ( 2 ) .
وذلكَ لا يصحُّ ، أمّا :
أوّلاً : فلأنَّ مُختلفَ الرّواياتِ الواردةِ في زواجِ أميرِ المؤمنينَ تقولُ : أنّه « عليه السّلام » لم يكُن يملكُ إلّا درعَه الحطميّةَ ، التي باعَها وأنفقَ ثمنَها على الزّفافِ ، وتضيفُ بعضُ الرّواياتِ فرسَه أيضاً .
ولو كانَ عندَه شارفانِ منَ الإبلِ ، لكانَ الأولى أن يذكرَهما للنّبيّ « صلّى اللهُ عليهِ وآله » حينَما سألَه عمّا يملكُ ، ممّا يريدُ أن يُقدّمَه مهراً ، فلم يذكُر لهُ إلّا درعَه الحطميّةَ ؛ فلتراجِع الرّواياتِ المُتقدّمة .
وثانياً : إنَّ منَ المعلومِ : أنَّ زفافَ فاطمة قَد كانَ قبلَ أحد بعدّةِ أشهرٍ ، فكيفَ تقولُ الرّوايةُ الثّانية : إنَّ ذلكَ قد كانَ في أحد ؟ .
كما أنّهم قد قرّروا : أنَّ حمزة كانَ يومَ أحد وقبلَه صائِماً ( 3 ) .
فكيفَ يكونُ قد شربَ الخمرَ ، وفعلَ ما فعلَ في ذلكَ اليومِ ، أو في الذي قبلَه ؟ ! .
وثالثاً : إنَّ الخمرَ لم تكُن سمعتُها حسنةً عندَ العربِ ، وكانوا يُدركونَ سوءها ، وقد حرّمها عددٌ منهُم على نفسِه قبلَ مجيءِ الإسلامِ ، مثل : أبي طالبٍ ( 4 ) وعبد المُطّلبِ ( 5 ) ، وتقدّمَ ذلكَ عَن جعفرٍ بنِ أبي طالب أيضاً كما رواهُ في الأمالي .
وذكرَ إبنُ الأثير : أنَّ ممَّن حرّمها على نفسِه عثمانُ بنُ مظعون ، وعبّاسٌ بنُ مرداس ، وعبدُ المُطّلب ، وجعفرٌ ، وقيسٌ بنُ عاصم ، وعفيفٌ بنُ معد يكرب العبدي ، وعامرٌ بنُ الظرب ، وصفوانُ بنُ أميّة ، وأبو بكر ، وعثمانُ بن عفان ، وعبدُ الرّحمنِ بنُ عوف ، وعبدُ اللهِ بنُ جدعان ( 6 ) .
وإن كنّا نشكُّ في ذلكَ بالنّسبةِ إلى بعضِ مَن ذكرَهم ، مثلَ أبي بكرٍ ، وعبدِ الرّحمنِ بنِ عوف ، كما سنرى .
وأمّا ذكرُ عُمرَ بنِ الخطّاب معَ هؤلاءِ ، فلا شكَّ في أنّه مِن إضافاتِ
النّسّاخِ ، جرياً على العادةِ في ذكرِ هذهِ الأسماءِ ، لأنّهُ كانَ مِن أشربِ النّاسِ للخمرِ في الجاهليّةِ ، بل لقد إستمرَّ على ذلكَ حتّى بعدَ أن أسلمَ كما أوضحَه العلّامةُ الأمينيّ ( 7 ) . وسيأتي إن شاءَ اللهُ بعضٌ مِن ذلكَ أيضاً .
ومهما يكُن مِن أمرٍ ، فقد عدَّ إبنُ حبيبٍ ممَّن حرّمَ الخمرَ على نفسِه أيضاً : ورقةَ بنَ نوفل ، وأبا أمية بنَ المغيرةِ ، والحارثَ بنَ عبيدِ المخزوميّين ، وزيداً بنَ عمرو بنِ نفيل ، وعامراً بنَ حذيم ، وعبدَ اللهِ بنَ جدعان ، ومقيساً بنَ قيس ، وعثمانَ بنَ عفان ، والوليدَ بنَ المُغيرةِ ، وشيبةَ بنَ ربيعة ، وعبدَ المُطّلبِ بنَ هاشم ( 8 ) .
وإنّما حرّمها هؤلاءِ على أنفسِهم ، لأنّهم رأوها لا تناسبُ كرامتَهم وسؤددَهم ، كما يظهرُ مِن روايةٍ تُنسبُ إلى أبي بكرٍ ؛ فقد روى إبنُ عساكر - وإن كانَ سيأتي عدمُ صحّةِ هذه الرّوايةِ ، لكنّنا نذكرُها لدلالتِها على سوءِ سُمعةِ الخمرِ عندَ العربِ - : أنّه قيلَ لأبي بكرٍ في مجمعٍ منَ الصّحابةِ : هل شربتَ الخمرَ في الجاهليّة ؟ !
فقالَ : أعوذُ باللهِ . فقلتُ : ولمَ ؟ قالَ : كنتُ أصونُ عرضي ، وأحفظُ مروءتي ، فإنَّ مَن شربَ الخمرَ كانَ متضيّعاً في عرضِه ومروءته إلخ . . ( 9 ) .
وقالَ إبنُ الأثير : « وكانَ العبّاسُ بنُ مرداس ممَّن حرّمَ الخمرَ في الجاهليّةِ ، فإنّه قيلَ له : ألا تأخذُ منَ الشّرابِ ، فإنّه يزيدُ في قوّتِك ؛ وجراءتِك ؟
فقالَ : لا أصبحُ سيّدَ قومي ، وأمسي سفيهاً ، لا واللهِ لا يدخلُ جوفي شيءٌ يحولُ بيني وبينَ عقلي أبداً » ( 10 ) .
ومَن عرفَ حمزة ، وإطّلعَ على سموِّ نفسِه ، وعزّتِه ، وأنفتِه ، وسجاياه ، فإنّه يرى : أنّهُ لا يقصرُ عَن هؤلاءِ ، ولا عَن غيرِهم ممَّن حرّمها على نفسِه ، إن لم يكُن يزيدُ عليهم في كثيرٍ منَ الخصالِ والسّجايا ، التي تجعله يربأ بنفسِه عَن أمرٍ كهذا .
ولعلَّ حشرَ حمزة ، بل وحتّى أميرَ المؤمنينَ « عليه السّلام » ، الذي ربّيَ في حجرِ النّبوّةِ ، ليسَ إلّا مِن أولئكَ الحاقدينَ على الإسلامِ وحُماتِه ، ممَّن يهمُّهم الطعنُ في كرامةِ كلِّ هاشميٍّ ، كما هوَ ظاهرُ سيرةِ الأمويّينَ والزّبيريّينَ ، وأذنابِهم ومَن يتزلّفُ لهم ، ولو بالكذبِ والدّجلِ والإفتراءِ .
ورابعاً : إنَّ الأقوالَ والرّواياتِ تكادُ تكونُ مُتّفقةً على مخالفةِ روايةِ الشّارفَينِ المذكورةِ ، لأنَّ روايةَ الشارفينِ تقولُ : إنَّ تحريمَ الخمرِ كانَ حينَ زفافِ فاطمةَ « عليها السّلام » .
والأقوالُ في تحريمِ الخمرِ نشيرُ إليها فيما يلي :
أقوالٌ في تحريمِ الخمر :
هذا . . وقد ذكرَ أبو إسحاق السّبيعي ، وإبنُ إسحاق ، وغيرُهما : أنَّ الخمرَ قد حُرّمَت سنةَ أربعٍ منَ الهجرة ( 11 ) .
وقالَ آخرونَ : إنّها قد حُرّمَت سنةَ ستٍّ ، جزمَ بهِ الحافظُ الدّمياطي ، ورجّحَهُ القسطلاني ( 12 ) .
وقالَ آخروَن : إنّها قد حُرّمَت سنةَ ثلاثٍ ( 13 ) ، وآخرونَ : إنّها حُرّمَت سنةَ ثمانٍ ( 14 ) .
قالَ أبو هريرةَ : لمّا نزلَ تحريمُ الخمرِ ، كنّا نعمدُ إلى الخلقانة إلخ . . ( 15 ) .
ومنَ المعلومِ : أنَّ أبا هريرةَ إنّما أسلمَ عامَ خيبر .
ورأى آخرونَ : أنَّ تحريمَها كانَ في أوّلِ الهجرةِ ، لقولِه تعالى في سورةِ البقرةِ : ( يَسأَلُونَكَ عَنِ الخَمرِ وَالمَيسِرِ قُل فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَّفعِهِمَا ) ( 16 ) .
قالَت عائشةُ: لمّا نزلَت سورةُ البقرةِ نزلَ فيها تحريمُ الخمرِ، فنهى رسولُ اللهِ «صلّى اللهُ عليه وآله» عَن ذلكَ ( 17 ) إنتهى النّقلُ عنِ السّيّدِ جعفر مرتضى العاملي.
وخامساً : إنّ راوي الحادثةِ التي نقلها البُخاريّ هوَ الزّهريّ، وهوَ مُتّهمٌ، لأنّهُ كانَ مِن عُمّالِ البلاطِ الأمويّ، وهوَ الذي أوكلَت إليهِ السّلطةُ الأمويّةُ كتابةَ السّيرةِ والسّنّةِ النّبويّةِ، فليسَ منَ البعيدِ أنّهُ كتبَ ذلكَ مغازلةً لبني أميّة، أو بأمرِهم، وألصقَها بالإمامِ السّجّادِ (ع) لأنّها ستكونُ أكثرَ مقبوليّة عندَ عامّةِ النّاس.
وأمّا الرّوايةُ الأخرى عَن هشامٍ بنِ سالمٍ فهيَ مُرسلة.
سادساً: قالَ التيجانيّ : وأنا مُتيقّنٌ أنَّ هذهِ الرّوايةَ لو كانَت ( على سبيلِ الإفتراضِ طبعاً ) تذكرُ أبا بكرٍ أو عُمرَ أو عثمانَ أو معاويةَ مكانَ حمزة ، لما أخرجَها البُخاريّ لفظاعتِها ، ولو أخرجَها لهذّبَها على طريقتِه وأبترَها . ولكن ما الحيلةُ والبُخاريّ لا يحبُّ هؤلاءِ الذينَ رفضوا مدرسةَ الخُلفاءِ ، حتّى بعدَ واقعةِ كربلاءَ وقتلِهم عَن بكرةِ أبيهم ، فلم يبقَ إلّا عليٌّ بنُ الحسين الذي وضعوا الرّوايةَ على لسانِه . ( فاسألوا أهلَ الذّكر ص333).
سابعاً: قالَ السّيّدُ شرفُ الدّين: نعم رووا أباطيلَ مُختلقةً إفتراءً على الإمامِ زينِ العابدينَ وسيّدِ السّاجدينَ عَن أبيهِ سيّدِ الشّهداءِ وخامسِ أصحابِ الكساءِ وأنا أتلو عليكَ ما أخرجَه البُخاريّ مِن ذلكَ ... هذا هوَ العلمُ الذي يُؤثرُه البُخاريّ عَن عليٍّ بنِ الحُسينِ عن الحُسينِ بنِ عليٍّ عن عليٍّ بنِ أبي طالب ، وكأنّه ما صحَّ لديهِ عنهُم سوى ... وأنَّ سيّدَ الشّهداءِ أسدَ اللهِ وأسدَ رسولِه الذي خصَّهُ بسبعينَ تكبيرةً عندَ الصّلاةِ عليه كانَ يشربُ الخمرَ ، ويأكلُ الميتةَ مِن يدِ القينةِ ، ويقولُ الهجرَ والكُفرَ ، نعوذُ باللهِ مِن هذهِ الأضاليلِ ، واللهُ المُستعانُ على هذهِ الأباطيل . (أجوبةُ مسائلِ جار الله ص71).
اترك تعليق