العلقمي ... لهذا الاسم أهمية تاريخية وتأثير كبير على المخيال الشعبي فما أن يُذكر حتى تنثال صور البطولة والفداء والايثار التي جسدها بطل العلقمي وسيد الوفاء أبو الفضل العباس (عليه السلام) عند ضفافه، فخلدته دماء الشهادة منذ اصطبغت ذاكرته بنجوى سيد الماء وهو يرتل سورة الخلود:
يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني *** وبعده لا كنتِ أو تكوني
هـذا حسيـنٌ واردُ الـمـنـونِ *** وتـشـربـيـنَ بـاردَ الـمـعـينِ
إنها النجوى التي تبرعمت إلى مئذنتين وصرح ترفرف عليه راية الإباء المكللة بأروع معاني السمو
نهر العلقمي
جاء ذكر هذا النهر في كل المصادر التي تحدثت عن كربلاء وواقعتها وتاريخها وجغرافيتها قديماً وحديثاً، وتعدّدت أقوال المؤرخين والمؤلفين حول مكان هذا النهر وتاريخه ومن حفره وسبب تسميته وأين ذهب ؟؟
وبالرجوع إلى التواريخ نجد أن هذا النهر كان موجوداً بمسمَّيات عدّة وقد مرّ بمراحل عديدة، يقول السيد محمد حسن مصطفى الكليدار آل طعمة: (إن النهر قد اتجه اتجاهات متعددة في أدواره الغابرة، فلذا نجد للنهر أسماء عديدة كل منها يعود إلى عصر خاص يتبع التسمية التي عرف بها في ذلك العصر) (1)
وهذا يعني أن حاله كحال المدن والبلاد القديمة التي غُيِّرت أسماؤها في تقادم الزمن ويدلنا على ذلك ما ذكره العلامة المحقق الشيخ مجيد الهر من أن: (هذا النهر كان باقياً إلى أيام فناخسرو وهو عضد الدولة البويهي (325 ــ 373 هـ / 937 ــ 983 م) ثاني ملوك بني بويه والذي حكم من (339 ــ 373 هـ / 951 ــ 983 م)، غير أنه علته الرمال فأمر فناخسرو بكريه وتنظيفه من رواسبه فأعاده كما كان قديماً فقال له أحد حاشيته: غيِّر اسمه واجعله باسمك. فقال له فناخسرو: لا, يبقى باسم مؤسسه علقمة). (2)
وهذه الرواية تؤكد أن كل من قام بكريه وتنظيفه وإجراء أعمال الصيانة عليه كان يسمّيه باسمه أو يطلق الناس اسمه على النهر كما تدل على أن النهر كان معروفا بهذا الاسم.
أما علقمة هذا فقيل هو الذي حفر النهر بأمر فناخسرو وهو جد ابن العلقمي الوزير على أحد الأقوال في ذلك (3) وهو ما تبنّاه الشيخ محمد السماوي فقال في أرجوزته (4)
كانَ الفراتُ من على الأنبارِ ** يأتي إلى بابلَ وهو جارِ
وكل من يرومُ سقيَ أرضِه يشقّ نهراً جارياً من عرضه
فشق منه الغاضريون فما *** اعتم أن جرى لكربلا بما
ليزرعوا فيه ويدركوا السبب فعزي النهرُ إليهمْ وانتسبْ
وشقّ فناخسرو نهراً رسمه *** لـكـربـلا وناطه بعلقمه
الأسدي جـدّ آل العلقمي *** فـأصـبـحَ النهرُ إليه ينتمي
وقيل إن علقمة الذي سمِّيَ النهر باسمه هو رجل من بني بن دارم بطن من بني تميم جدهم علقمة بن دارم وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري (5)، ولا يخفى التعارض في الروايتين فالأول أسدي والثاني تميمي، إذن فلا يمكن الاعتماد على الروايتين خاصة وإن هناك روايات في مصادر كثيرة تاريخية وجغرافية ولغوية تشير إلى أن هذا النهر ــ العلقمي ــ كان موجوداً قبل القرن الأول الهجري (6). كما لا يمكن أيضاً الاعتماد عليهما لعدم توفر القرينة ومجرد تطابق الاسم لا يعني أنه حفره. ومن الأقوال الأخرى في سبب تسميته بالعلقمي أيضا كثرة وجود العلقم حوله.
ولا يعترف السيد عبد الرزاق المقرم بهذه الأقوال الثلاثة ويرد عليها بالقول: (نعم، لم يُعرف السبب في التسمية به، وما قيل في وجهها: (إنّ الحافر للنهر رجل من بني علقمة، بطن من تميم، ثُمّ من دارم جدّهم علقمة بن زرارة بن عدس لا يعتمد عليه، لعدم الشاهد الواضح.
ومثله في ذكر السبب كثرة العلقم حول حافتي النهر، وهو كالقول بأنّ عضد الدولة أمر بحفر النهر ووكله إلى رجل اسمه علقمة، فإنّها دعاوى لا تعضدها قرينة، على أنّك عرفت أنّ التسمية كانت قبل عضد الدولة). (7)
الفرات
من الروايات التي ذكرت هذا النهر وأشارت إلى بعض أسمائه وهو (الفرات) وسبب تسميته والتي يستشف منها وجوده تاريخيا ما جاء في خطبة الإمام زين العابدين (عليه السلام) (38 ــ 95 هـ / 685 ــ 713 م) في الكوفة قوله: (أنا ابن المذبوح بشط الفرات ..) (8)، ومنها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) (83 ــ 148 هـ / 699 ــ 765 م) قوله لصفوان الجمال: (من اغتسل بماء الفرات وزار قبر الحسين عليه السلام ..) (9)
وقوله (عليه السلام): (إذا أتيت قبر الحسين عليه السلام فأت الفرات واغتسل بحيال قبره، وتوجه إليه ..) (10)
وقوله (عليه السلام): (إذا اغتسل من ماء الفرات وهو يريده تساقطت عنه خطاياه كيوم ولدته أُمّه). (11)
وهذه الروايات وغيرها تدل بوضوح على وجود النهر وكان من أسمائه المعروفة الفرات لاشتقاقه من الفرات والعرب تطلق اسم الجزء على الكل والكل على الجزء، ومن الروايات التي ورد فيها هذا الاسم ــ الفرات ــ ما روي في التواريخ والمقاتل أن الحر بن يزيد الرياحي لما التقى بالإمام الحسين كان من بعض كلامه له قوله: (انزل بهذا المكان والفرات قريب منك). (12)
وقول زهير بن القين للإمام الحسين: (فسر بنا حتى نصير بكربلاء فإنها على شاطئ الفرات ...) (13)
ومنها لما سأل الإمام الحسين عن اسم هذه الأرض ــ أي كربلاء ــ فعدد المجيب أسماء عدة منها: (شاطئ الفرات) (14)
وهناك روايات كثيرة أكدت على أن هذا النهر كان يسمى بالفرات في وقت نزول الإمام الحسين (عليه السلام) كربلاء.
في الشعر
وقد سمّى هذا النهر بالفرات كثير من الشعراء الأقدمون منهم الكميت بن زيد الأسدي الذي ولد في السنة التي وقعت فيها واقعة كربلاء (60 ــ 126 هـ / 680 ــ 743 م) الذي يقول:
يُحلأنَ عن ماءِ (الفراتِ) وظلّه *** حسيناً ولم يُشهرْ عليهنَّ منصلُ
ومنهم دعبل بن علي الخزاعي (148 – 246 هـ / 766 ــ 860 م) الذي يقول:
أفاطمُ لو خلتِ الحسينَ مُجدّلاً *** وقد ماتَ عطشاناً بشطِ (فراتِ)
ويقول:
توفوا عطاشى بـ (الفراتِ) فليتني *** توفيتُ فيهم قبلَ حينِ وفاتي
ويقول:
قبورٌ بجنبِ النهرِ من أرضِ كربلا *** معرَّسهمْ فيها بشطِ (فراتِ)
ويقول:
يا جدّ قد منعوا (الفراتَ) وقتّلوا *** عطشاً فليس لهم هنالكَ موردُ
ويقول:
يا جدّ إن الكلبَ يشربُ آمناً *** ريَّاً ونحنُ عن (الفراتِ) نُطرَّدُ
ويقول ديك الجن الحمصي (161 ــ 236 هـ / 777 ــ 850 م):
وفي (الفراتِ) فداءُ السبطِ قد تركت *** أشلاؤنا في الوغى لحماً على وضمِ
وقال الصنوبري (270 ــ 334 هـ / 884 ــ 945 م)
ذِيدَ الحسينُ عن (الفراتِ) فيا بلية اثمرتْ بلياتِ
وقال:
لم يروِ من شربِ (الفراتِ) بحيث تشربُ بالروايا
وقال:
منعوهُ ماءَ (الفراتِ) وظلّوا *** يتعاطونه زلالاً نقاخا
وقال:
ناوشوهُ دون (الفراتِ) ولولا *** سابقَ الحكمِ ما أطاقوا النواشا
وقال:
يا من يذودُ حسيناً *** عن (الفراتِ) فجورا
وقال الشريف المرتضى (355 ــ 436 هـ / 966 ــ 1044 م)
تُذادونَ عن ماءِ (الفراتِ) وكارع *** به إبلٌ للغادرينَ وشاءُ
وقال:
مُنعوا (الفراتَ) وصُرِّعوا من حوله *** من تائقٍ للوردِ أو ظمآنِ
وقال:
واسأل عن القتلى الألى *** طرحوا على شطِ (الفرات)
وقال:
يُذادونَ عن ماءِ (الفراتِ) وقد سُقوا الشهادةَ من ماءِ (الفراتِ) بديلا
وقال الشريف الرضي (359 – 406 هـ / / 969 – 1015 م)
لم يخلفوها في الشهيدِ وقد رأى *** دفع (الفراتِ) يُذادُ عن أورادِها
ونكتفي بهذه الأمثلة الشعرية التي تدل على اسمه، ويلاحظ أن هذا النهر كان مشهوراً بالفرات ولم يذكر هذا النهر بالعلقمي في أشعار الشعراء الأمويين والعباسيين.
العلقمي
كما جاء في بعض الروايات في تسمية هذا النهر بالعلقمي منها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: ( إلى الآن تجري ـ يا علقمي ـ وقد حرم جدّي منك ؟! ) (15) ومنها رواية الشيخ المفيد في زيارة العباس (عليه السلام): (إذا وردت قنطرة العلقمي ...) (16) ومنها ما رواه السيد هاشم البحراني (توفي 1107 هــ) قوله في رواية تعود إلى وقت حادثة كربلاء عن رجل أسدي قوله: (كنت زارعا على نهر العلقمي ...) (17) ومنها ما رواه ابن شهرآشوب المازندراني (488 - 588 هـ): قوله: (لما أمر المتوكل بحرث قبر الحسين وأن يجري عليه الماء من العلقمي ...) (18)
ويعقب السيد عبد الرزاق المقرم على هذه الروايات بالقول: (والظاهر من ورود لفظ العلقمي في الرواية ليس من كلام العلماء وخصوصاً بعد العلم بأنّهم لا يذكرون إلا ما يعتمدون عليه في الروايات، ومنه نعرف أن نهر العلقمي كان معروفاً في الأزمنة السابقة على زمان ابن العلقمي الذي هو في القرن السابع). (19)
محدود
تعرض هذا النهر لكثير من حالات الترسب والطمي وشحّة المياه مما أدى إلى انحساره وتقليصه حتى وصل عرضه في بعض الأزمان إلى تسعة أذرع (20) ثم أجريت عليه أعمال الصيانة فكانت توضع عليه في بعض الأماكن جذوع النخيل كقناطر للعبور وقد أكري ونظف في زمن عضد الدولة البويهي فناخسرو كما ذكرنا، ولم تكن حالة الكري والتنظيف هذه هي الأولى فقد أكري قبلها وبعدها عدة مرات وفي كل مرة كان يتغير اسم النهر، فأكري ونظف في زمن الخليفة الناصر العباسي لما شح ماؤه لكثرة الرمال والتراب حوله فأوعز بكريه وتنظيفه وتعمير القناطر عليه وذلك عام 617 هـ يقول السيد محمد حسن مصطفى الكليدار آل طعمة: (إن هذا النهر كان قد طمي بعد مدة من الزمن بسبب الترسبات الغرينية التي كان يحملها الفرات في كل سنة أثناء موسم الفيضان) (21)
ويشير ياقوت الحموي إلى إحدى حالات الكري فيقول: (إن أم الخلفاء الخيزران قد أمرت بحفر نهر من موقع يقرب من الأنبار من الضفة اليمنى لعمود النهر الرئيسي، ووكلت عليه وكيلا، وقد قسم هذا الوكيل النهر إلى أقسام كلا يحفر قسم منه فيدعى هذا النهر باسم محدود) (22)
وقال أيضا: (المحدود هو اسم نهر بأرض العراق قرب الأنبار في جانب الديار الغربي منها أمرت بحفره الخيزران أم الخلفاء وسمته المربان وكان وكيلها قد جعله أقساما وحد كل قسم ووكل بحفره قوما فسمي المحدود لذلك) وسمته بعض المصادر بـ (المريان) (23)
ويعقب الدكتور أحمد سوسة على كلام الحموي حول اسم محدود بالقول: (والذي نراه في هذا الصدد هو أن نهر محدود هذا لم يكن إلا أحد الأنهر التي فتحت في زمن العرب على ضفتي نهر الفرات، ولعله كان يأخذ من الضفة اليمنى من الفرات أما نهر الملك حيث نجد آثاراً لسدّ قديم على نهر الفرات في ذلك المكان، ثم يتصل بنهر كري سعده القديم في القسم الذي يمتد بين كربلاء والكوفة، ويغلب على الظن أن نهر (محدود) هذا هو النهر نفسه الذي سمّي باسم العلقمي والذي ذكر قدامة (٨٨٠ م) أنه كان يأخذ من جنوب الأنبار ثم يجري في الاتجاه الجنوبي الغربي فيمر بكربلاء ويصب في الفرات في منطقة الكوفة، وقد جاء ذكر العلقمي أيضاً في كتاب تواريخ السلجوقيين للأصفهاني حيث أيّد في هذا المصدر أن جدول العلقمي كان يمرّ بالمشهدين أي كربلاء والنجف وقد أجري تطهيره و ترميمه .. و يرجح أن آثار النهر القديم التي نشاهدها غربي مدينة المسيب الحالية تمثل بقايا نهر العلقمي المذكور) (24).
الغزنوي
وبقي هذا النهر حتى القرن الخامس الهجري غير أنه امتلأ بالأوحال ونضب ماؤه فأرسل السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي (387 ــ 421 هــ / 997 ــ 1030 م) وزيره علي الجويني إلى كربلاء لكريه وتنظيفه وإزالة الرمال منه وأعاده إلى سابق عهده وسمي بنهر (الغزنوي)
القازاني
سمي بذلك نسبة إلى قازان بن أرغون بن أباقا بن هولاكو بن تولي بن جنكيز خان الملقب بمحمود ففي عام (650 هـ) انهار جرفه بسبب السيول وكثرة المياه وأوشك على الاندثار فبادر علي ابن الوزير ابن العلقمي بكريه وتنظيفه وبنى في بعض جهاته أماكن يسهل منها أخذ الماء والنزول لمن أراد الغسل وقام بتعمير القناطر كما أمر بنقش عبارات (اشرب الماء ولا تنس الحسين) و(هنا نهر العلقمي) وخشية من شحة المياه فقد أمر بعمل مخزن كبير يخزن فيه الماء في الشتاء لاستخدامه في الصيف عندما يقل ماء الفرات في الصيف وأوقف رجالا لكريه وتنظيفه
وكان ابن الوزير ابن العلقمي هذا كثير الزيارة لقبر الحسين وهو الذي حصل على موافقة قازان بكريه وسمي بـ (القازاني) ثم سمي بـ (النهر شاهي) أو (الصفوي) نسبة إلى الشاه إسماعيل الصفوي عندما أمر بتنظيفه عام (920 هـ)
البساسيري وساوتكين
ومن الذين أجروا عليه عمليات الكري والصيانة أيضا أبو الحارث ألب أرسلان البساسيري القائد البويهي الذي قتل سنة (451 هـ / 1059 م) يقول ابن الجوزي: (وفي بكرة الثلاثاء رابع هذا الشهر (صفر) خرج البساسيري إلى زيارة المشهد بالكوفة على أن ينحدر من هناك إلى واسط، و استصحب معه غلة في زورق ليرتب العمال في حفر النهر المعروف بالعلقمي و يجريه إلى المشهد بالحائر وفاءً بنذر كان عليه)، (25)
ومنهم أيضا وعماد الدولة سرهنك ساوتكين يقول الفتح بن محمد البنداري: (ووصل عماد الدولة سرهنك ساوتكين إلى واسط ومنها الى النيل في شهر رمضان وزار المشهدين الشريفين وأطلق بهما للأشراف مالا جزيلا وأسقط خفارة الحاج و حفر العلقميّ وكان خرابا دهرا) (26).
السليماني
بقي نهر القازاني يرفد كربلاء بالمياه على مدى قرون، ولكن الرمال والترسبات غمرته وشح ماؤه يقول السيد آل طعمة: (فلما تراكمت فيه الرمال والترسبات الغرينية أصبحت كربلاء مهددة بالعطش في الصيف وبالفيضان في الربيع، إذ كان الفرات الفائض في الربيع يغمر الوهاد التي حول البلد بأجمعها من دون أن تسلم منه العتبات نفسها. وعند هبوط النهر كان عشرات الألوف من الزوار يعتمدون على الري من آبار قذرة شحيحة ...) (27)
ثم يأتي من يكري النهر مرة أخرى ويسميه باسمه يقول آل طعمة بعد أن يذكر حالة النهر السيئة هذه: (الأمر الذي دعا السلطان سليمان القانوني العثماني الذي استولى على العراق في عام (940 هـ / 1533 م) إلى كري النهر وتنظيمه وتغيير مجرى مصدره، كما وقد أمر برفع مستوى مسناة السليمانية الواقعة في ذوابات هذا النهر على بعد (8) كم عن شرقي كربلاء في طريق كربلاء ــ طويريج، وتمتد هذه المسناة نحوا من (6) كم، ثم أمر السلطان بتوسيع هذه الترعة وزاد من عمقها لكي تأتي بالماء إلى كربلاء بصورة منتظمة ...) (28)
بالاكوباس
يلاحظ من كل ما تقدم أن هذا النهر قد مر بمراحل تاريخية عديدة ابتداءً من القرن الأول الهجري وانتهاء بعهود قريبة وإنه قد غيّر مجراه لأكثر من مرة وبالرجوع إلى أقدم ذكر له يتضح أنه من الأنهار القديمة في وادي الرافدين يقول الدكتور أحمد سوسة بالقول: (إن سابور ذا الأكتاف (309-379 م) عندما استولى على الديار العراقية وذلك في سنة (309 ــ 379 م) كان قد حفر خندقاً في برية الكوفة، وبنى عليه القناطر والجواسق، ونظمه كمسلحة يكون مانعاً لأهل البادية عن السواد، وكان مجرى هذا الخندق من موضع بالقرب من بلدة هيت سائراً في اتجاه الأراضي المنخفضة تاركاً هور أبي دبس في جنوبها الغربي فيمر بـ (طف) البادية حتى الكاظمة وهي تلي البصرة ويصب في الخليج بعد أن يقطع مسافة 900 كم) (29)
ونرى في التواريخ القديمة ملامح هذا النهر واضحة حيث ذكره أحمد بن سهل البلخي في كتابه الأقاليم الذي يعد من أهم الكتب الجغرافية عند العرب وقد اعتمد عليه الاصطخري اعتمادا كليا في كتابه المسالك والممالك يقول البلخي في تحديد موضع كربلاء:
(إنها بلدة تقع غربي الفرات على محاذاة قصر ابن هبيرة والكوفة، والفرع الثاني يجري في الجنوب الغربي ماراً بطف كربلاء غربا حتى الكوفة، ويصب في نهر (كوفي) القديم)
ويقول السيد آل طعمة: (وكان الفرات يتشعب من موقع بقرب الأنبار إلى شطرين: يجري الشطر الأول في استقامته وقد عرف بـ (كوثا القديم) والبعض عرَّفه بنهر (سورا) حتى أيام الفتح الإسلامي ...) ثم يقول عن نهر كوفي: (ويرجح على الأكثر كما يؤخذ من روايات المؤرخين أن مجراه كان من طف كربلاء ومحاذيا لأرض الغاضرية وكان يعرف قديما باسم (بالاكوباس) وسمي حينا باسم (مارساس) وهذا هو النهر الذي عرف عند مؤرخي العرب فيما بعد باسم (العلقمي) (30)
وتبنى هذا الرأي الدكتور أحمد سوسة فقال: (وهكذا أخذ النهر ينتظر فرصة ملائمة ليسير في ذلك الاتجاه حتى وجد تلك الفرصة في ظروف الانحلال الذي ساد البلاد في أواخر عهد الساسانيين ففر من حوضه الذي يمر ببابل واتجه نحو الغرب محتلا بالاكوباس القديم وبذلك أصبح هذا المصرف المجرى الرئيسي للفرات، وبقي على هذا الحال حتى جاء العرب فشيدوا على ضفافه مدينة الكوفة إحدى عواصمهم الكبرى وقد سمي الفرات من ذلك الوقت وقد سماه بعض مؤرخي العرب نهر العلقمي) (31) ثم يقول سوسة عن تحديد مكان العلقمي: (أن العلقمي قد أخذ مجرى نهر مارساس القديم الذي كان قد اضمحل فأعيد إحياؤه زمن العرب) (31) وقال بهذا القول أيضا الدكتور مصطفى جواد (32)
كما ويدل على ذلك أن ذكره جاء في تاريخ (سورا) وهي مدينة أثرية قديمة (القاسم حالياً) وقد سكنها السريانيون لخصوبة أرضها وعذوبة هوائها وكثرة الأنهار فيها والتي تتفرع من الفرات وكان أكبر الأنهار فيها نهر (سوراء) الدافق الذي ينقسم إلى نهري العلقمي وسورا فيمر الأول بالكوفة والثاني بمدينة سورا فالنيل والطفوف ثم يصل إلى واسط والبصرة وقد امتد فوق هذا النهر جسر سورا التاريخي الذي عرف أيام الفتوحات الإسلامية
لقب العلقمي
يتضح من كل ما سبق أن كل من نسب إليه حفر النهر بعد سابور إنما هو عملية كري وتنظيف وإزالة الرواسب وتجديد للنهر فأطلق المؤرخون على هذه العملية (حفر) لذلك حدث خلط كبير في الأسماء لكثرة من قام بهذه العملية.
أما بالنسبة لملازمة اسم العلقمي لهذا النهر وقد اتضح من خلال الروايات التاريخية أنه كان يسمى بـ (العلقمي) قبل ولادة ابن العلقمي بقرون فإن اللقب قد جاء لابن العلقمي نسبة إلى النهر وليس العكس كما يقول الشيخ محمد حسين الساعدي: (أن أسرته ــ أي ابن العلقمي ــ كانت تسكن في منطقة هذا النهر ثم نزحوا منه إلى النيل في الحلة، وإن المألوف لدى العرف العشائري أن النسبة إمّا أن تكون إلى الجد الأعلى للعشيرة، أو إلى المكان الذي تعرف به الأسرة ومن ذلك البغدادي، الدمشقي ، العكبري، النيلي .. الخ وعلى هذا الأساس فإن الوزير مؤيد الدين أسدي الأصل منسوب إلى نهر العلقمي لا غير) (33) وهذا ما لا يدع مجالا للشك إن لقبه جاء نسبة إلى هذا النهر.
أما بالنسبة للقول بأن أحد أجداد ابن العلقمي كان يدعى علقمة وهو من حفر النهر فهناك كثير من الأدلة التاريخية التي تنقضه فهو (من التهافت ما لا يسع الاعتداد به) و(ليس في أجداده من يسمى بعلقمة) (34)
العلقم
بعد أن اتضح تاريخ هذا النهر الذي يعود إلى سابور ذي الأكتاف (309-379 م) وهو سابور بن هرمز بن نرسي الذي ولد ملكا حيث تم تتويجه وهو في رحم أمه فوضع تاج الملك على بطن أمه، أما تسمية النهر بالعلقمي فقد ورد فيه قولان هما:
1 ــ لشدة حلاوة مائه وصفائه وهو من باب تسمية الشيء بضده وهو مشهور في كلام العرب وهو ما يعرف: (لفظة واحدة تحمل المعنى وعكسه) أو (اللفظ الدال على معنيين متقابلين)
2 ــ أنه أصبح في فترة من الفترات شحيحاً جداً فنبت فيه العلقم (الحنظل) فاطلق عليه اسم العلقمي (35)
ويرجح الأستاذ عبد الحسين الرحيم القول الثاني فيقول: (والرأي عندي إن أقرب الروايات إلى المعقول هي الرواية التي تقول بكثرة ثمار العلقم على حافتي النهر لأنها ثمار معروفة تكثر بالصحراء ولعل امتداد أراضي كربلاء واتصالها بالهضبة الغربية قد تسبب في ذلك من خلال انتقال بذور هذا النبات بطريق الرياح) (36)
محمد طاهر الصفار
الهوامش
........................................................................
1 ــ مدينة الحسين ج 2 ص 20
2 ــ مشهد الحسين وبيوتات كربلاء ج 1 ص 30 عن الكامل لابن الأثير ج 10 ص 398
3 ــ الفخري في الآداب السلطانية لابن الطقطقي ص 248
4 ــ مجالي اللطف بأرض الطف ص 48
5 ــ مدينة الحسين ج 2 ص 21
6 ــ مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي لأمير علي ص 354 / نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري ج 1 ص 256 / بلدان الخلافة الشرقية لـ كي لسترنج ص 101 / وادي الفرات لأحمد سوسة ج 1 ص 256 / دليل خارطة بغداد لمصطفى جواد ص 69 وغيرها.
7 ــ العباس ص 274
8 ــ الملهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس ص 156 / بحار الأنوار ج 112 ص 45
9 ــ بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٩٨ ص ١٤٣
10 ــ وسائل الشيعة للحر العاملي ج 14 ص 483
11 ــ نفس المصدر ص 486
12 ــ الأخبار الطوال ص 232
13 ــ تاريخ الطبري ج 3 ص 310
14 ــ مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ج 4 ص 105 / معالي السبطين ج 1 ص 285
15 ــ الخصائص العباسية / الكلباسي النجفي ص 145
16 ــ مناسك المزار ص 99
17 ــ مدينة المعاجز ج 1 ص 601
18 ــ مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 72
19 ــ العباس ص 257
20 ــ مشهد الحسين ج 1 ص 30
21 ــ مدينة الحسين ج 2 ص 21
22 ــ معجم البلدان ج 5 ص 61
23 ــ مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة البقاع لعبد المؤمن البغدادي / فتوح البلدان للبلاذري
24 ــ وادي الفرات ومشروع بحيرة الحبانية ص ٣٥
25 ــ المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ج 8 ص 202 في حوادث سنة ٤٥١
26 ــ زبدة النصرة ونخبة العصرة ص 71
27 ــ مدينة الحسين ج 2 ص 25
28 ــ نفس المصدر ص 26
29 ــ وادي الفرات ج 1 ص 2
30 ــ مدينة الحسين ج 2 ص 21
31 ــ وادي الفرات ج 1 ص 256
32 ــ دليل خارطة بغداد ص 69
33 ــ مؤيد الدين بن العلقمي وأسرار سقوط الدولة العباسية ص 20
34 ــ نفس المصدر ص 17
35 ــ بطل العلقمي لعبد الواحد المظفر ج 3 ص 379 / تحفة العالم في شرح خطبة المعالم للشيخ جعفر بحر العلوم ج 1 ص 193
36 ــ موسوعة كربلاء الحضارية ج 3 ص 38 ــ 39
اترك تعليق