صبيحة العيد.. هو عنوان هذا التكوين الفني الذي ابدعه رسام المدينة التشكيلي الراحل حافظ الدروبي 1914-1991.. والمتمثل بأحياء طقوس المحبة والافراح التي تعم اجواء ايام العيد في المجتمع العراقي، المميز بالأصالة و بساطة العيش الكريم التي تنبثق منها الحان الالفة والمواطنة الحقة التي حنت رؤوس ابناء المجتمع العراقي بمختلف اطيافه.. الذين لطالما عاشوا متحابين متآزرين في السراء والضراء على ارض الفراتين.
يعد رسام اللوحة احد اهم اقطاب الفن التشكيلي العراقي ومؤسسيه، وبه - كما هو حال رواد التشكيل العراقي الاخرين- تغير شكل الفن ولغته في العراق إلى الأبد، وقد اطلق عليه اقرانه لقب ( رسام المدينة ) لشدة ولعه وتعلقه ببلده العراق وبالخصوص مدينته المحببة بغداد، وهذا واضح في اغلب لوحاته التي أحب من خلالها نقل صورة جميلة وسعيدة عن المجتمع العراقي بجميع أطيافه وطبقاته، فلو اطلعنا على اللوحة لميزنا من الوهلة الاولى لرؤيتها انها لوحة تحاكي المجتمع والبيئة العراقية، فالمشهد يحوي عدداً كبيراً من شخصيات الرجال والنساء والاطفال اثناء احتفائهم بأحد ايام العيد، حيث الاطفال يلعبون في الاراجيح والمشهد يدلل على ازقة المحلات البغدادية القديمة، فوجود الشناشيل والعقود والشبابيك المقوسة والاسواق المسقفة، والقباب والمنائر المرتفعة في فضاء عمق اللوحة الافتراضي.. ما هي الا انعكاس لطبيعة المنطقة التي تحتضن هذا المشهد، الذي نفذ بطريقة قريبة الى اسلوب المدرسة التكعيبية في الفن، واراد الفنان من خلاله ان يعكس واقعية تكعيبية ولكنها بشيء من التشخيص، فالشخوص رسموا بطريقة الخطوط الخارجية وبنسب واقعية ولكن طريقة توزيع الالوان كانت تذهب باتجاه التكعيبية فاللون لا يجد صعوبة في التنقل بين الخلف والامام وبين الارضيات والشخوص في محاولة لخلق مناخ رياضي لتحقيق اجواء اللوحة.
ولو دققنا النظر في تفاصيل اللوحة لوجدنا ان البناء المنظوري هو الاخر قد دخل ضمن شبكة المساحات الهندسية التي تتكون منها اللوحة.. ولكن بإيحاءات قد تصل بالمشاهد المتأمل الى نتيجة، بأن هناك بناء مشخص ذهب اليه الفنان داخل التجريدات اللونية التي اعتمدها في بناء اللوحة.. مع الحفاظ المتعمد على الحد الفاصل بين لون واخر كخط خارجي، ويجد المشاهد ايضاً ان الشخصيات المنتشرة في اغلب مساحة اللوحة قد نفذت بطريقة اقرب للواقعية وتعكس طبيعة المنظور الهندسي داخل اللوحة، فالعيد في العراق والازقة القديمة ذات الشناشيل والاقواس والنوافذ الجميلة والملابس التي يرتديها الناس مثل العباءة والجلباب والزي العربي، تقع بمجملها ضمن الازياء الشعبية.. وكان الهدف من استخدامها في اللوحة للكشف عن طبيعة الحياة في المدن العراقية في ايام العيد، لتعكس بالمحصلة المدى المحلي الذي تجسده اللوحة، ولكن بواقع فني تبناه الفنان وفق معايير لها ارتباط بالحداثة.. فهو من الناحية التقنية قد بدا متأثرا بالمدرسة التكعيبية، لكن ليس بشكل تطابقي فهي تكعيبية التشكيل في وسط واقعي، وهذا المزج بين الواقعية والتكعيبية وبهذا التشكل الاسلوبي هو ما ميز اسلوب حافظ الدروبي، مع مراعاة انه بقي ضمن سياق الهوية العراقية التي تجمع بين التراث المحلي الاسلامي والحداثة.
ومن جانب تأملي آخر للوحة نستطيع ان نلاحظ ان الكشف عن المنظور - من خلال بناء غير منظوري - قد اعطى للوحة شكلا من اشكال الحداثة، فهذه التشكيلة الهندسية واللونية الرائعة قد شكلت بشكل او بآخر اصرة تربط بين ما هو واقعي وما هو مجرد، اضافة الى المناخ الخاص الذي شكلته لعكس بيئة اللوحة المحلية وانتمائها العربي الاسلامي، وبنفس الوقت لتشكيل روح الاسلوب الفني الذي اختطه الفنان لنفسه دون غيره من فناني العراق، فقد وظف الفنان الرمز الإسلامي المتمثل بالبوابات الإسلامية والقباب والاقواس المقترنة بمجموعة من الدلالات، فالمنجز بشكل عام يحمل مضموناً اجتماعياً دينياً وارثاً محلياً واضحاً للمشاهد، فالمضمون الاجتماعي للرموز الإسلامية المنفذة على سطح اللوحة تمثل واقع المدينة العراقية الإسلامي والمساحة التي يشغلها في المجتمع، كونها تعد البيئة الرئيسة للفرد في المجتمعات الاسلامية وهي تمثل جل اهتمامهم.
وقد اعتمد الفنان ايضاً مبدأ التكرار في مفردات المشهد، حيث عمد على تكرار رموز القبة والاقواس والبوابات والنوافذ وعلى شكل أزواج، وذلك بغية اكساب اشكال اللوحة ايقاعاً منتظماً يحقق مبداً الوحدة في الموضوع ويساهم في إيجاد قيمة تشكيلية اعلى للأشكال، فضلاً عن القيمة الجمالية المتحققة من خلال تناسق أجزاء عناصر اللوحة الاخرى وانسجامها وتوازنها، كما أكد الفنان على تكرار الأشكال المعينية ضمن مساحات هندسية تخللت البناء العام للمشهد، لكي يعطي تنظيماً لوحدات المشهد فاجتمعت الألوان والأشكال بدراية لتوحي بحالة بصرية وجمالية .
وعلى الرغم من ان الرسام يعد اول من شكل المرسم الحر في العراق كما هو معروف، الا انه بقي أمينا لتراث بلده من جهة وللحداثة التي طرأت على الفن من جهة اخرى، مما ادى الى خلق تمايز في فنه واسلوبه لكي يكون قامة فنية مؤثرة في سياق الحركة الفنية الحديثة في العراق والعالم بما جاء به من اسلوب فني متجدد، فالدراسة الجمالي في اغلب لوحاته هي دراسة في فرادة الاسلوب التي جعلت من لوحاته تمثل وبامتياز صورة من صور الحداثة العراقية، بدءا من النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر، فالدروبي يعد من اوائل المبدعين الذين ساهموا في تأسيس الحركة الفنية العراقية، الا ان تحولاته الاسلوبية جاءت في اعقاب ما جاء به الفنان جواد سليم في تجربته التي اغنت صورة الفن العراقي الحديث من خلال رسم هويته المحلية وجعل التراث العراقي هو مرتكز الحداثة الفنية، فالتكوين الفني اعلاه يعد عملا حداثيا بنفس الوقت الذي يوثق فيه البيئة المحلية في العراق، فقد طرح بشكل ذي خصوصية اسلوبية بالرغم من تأثر الفنان بحداثة الغرب بحكم دراسته، فالتوظيف الرمزي للأشكال ودلالاتها العاكسة للطابع المحلي العراقي قد البسها ثوب الحداثة وبمهنية عالية، وكل هذا جاء نتيجة العرض الخاص للأفكار التي راودت الدروبي التي اخرجها بتفاصيل العمل بحثاً عن موطئ قدم في سياق الحداثة العراقية وتشكيل البعد الريادي الذي تأسس وفق ثناية التراث والحداثة.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق