البوصيري (608 - 696 هـ / 1213 – 1295 م)
قال من قصيدته (الهمزية) في مدح النبي (صلى الله عليه وآله) وتبلغ (457) بيتاً:
يا أبا القاسمِ الــذي ضِمنَ إِقسا مِي عليه مَدْحٌ لــــــــــهُ وَثَنَاءُ
بالعلومِ الــــــتي عَليكَ مِن اللهِ بلا كــــــــــــــــاتِبٍ لها إِمْلاءُ
ومسير الصَّبا بنصْرِك شَهْـراً فكأَنَّ الصَّبا لَدَيــــــــــكَ رُخاءُ
وَعَلِيٍّ لمَّا تَفَلْتَ بِعَيْـــــــــــنَيْـ ـهِ وكلتـــــــــــاهما مَعاً رمْداءُ
فَغَدا ناظراً بِعَــــــــيْنَيْ عُقَابٍ في غَزاةٍ لها العُقَـــــــابُ لِواءُ
وَبِرَيْحانَتَيْنِ طـــــــــيبُهُما مِنـ ـكَ الذي أودعــــتهُما الزَّهْراءُ
كُنْتَ تُـــــــؤْوِيهِمَا إليك كما آ وَتْ مــــن الخَطِّ نُقْطَتَيْهَا اليَاءُ
من شهيدينِ لَيسَ يُنسينيَ الطَّـ ـفُّ مصابـيـهِما ولا (كربلاءُ)
ما رعى فيهما ذمامَـكَ مـرؤو سٌ وقَد خانَ عهـدَكَ الرُّؤَساءُ
أَبدلوا الودَّ والـحفِيظةَ في القر بـى وَأبـدت ضبــابَـها النافقَاءُ
وقستْ منـــهمُ قلوبٌ على من بكت الأَرضُ فَـقـدَهمْ والسماءُ
فابكهمْ ما استطـــعتَ إِنَّ قَلِيلاً في عظيمٍ منَ المُصَابِ البُكاءُ
كُلَّ يومٍ وَكلُّ أَرضٍ لـــكربِي منهمُ (كـــربلاَ) وعــــاشوراءُ
آلَ بيــــــــتِ النبِيِّ إنَّ فؤَادي ليسَ يُســليــــــهِ عنكمُ التَّأساءُ
غيرَ أنِّي فَوَّضتُ أَمــري إلى اللهِ وتفــويضِيَ الأُمــورَ براءُ
رُبَّ يومٍ بـ (كربلاَءَ) مُـسِيءٍ خفّفَت بعــضَ رُزئهِ الـزَّوراءُ (1)
الشاعر
أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن ملال الصنهاجي البوصيري، شاعر وأديب من أعلام مصر ولد في بوصير من قرى بني سويف ونسب إليها، أما لقبه الصنهاجي فيعود إلى قبيلته بني حيون الأمازيغية (صنهاجة) في المغرب (2) وكانت أمه من بوصير (3)
وقد صرح بمغربيته بقوله:
إن كانَ مثلي مغربياً فما في صحبةِ الأجناسِ مِن باسِ (4)
حفظ البوصيري القرآن الكريم في طفولته ثم سافر مع أبيه وهو صغير إلى القاهرة وفيها درس علوم العربية وغيرها، وكان من أبرز أساتذته أبو العباس المرسي، وعلي بن عبد الجبار الشريف الإدريسي الشاذلي.
وقد أخذ عنه أبو حيان الأندلسي، وأبي الفتح بن سيد الناس، وعز الدين بن جماعة، ولعل هؤلاء قد أخذوا عنه في الأدب فقط، حيث يقول الأستاذ أحمد بسج: (وما أخذوه عنه لا يتجاوز شعره ونوادره، لا سيما وأنه كان يجلس في جامع الظاهر وينشد مدائحه هناك، وليس بين أيدينا ما يدل على أن البوصيري قد جلس للتدريس وعلى ذلك فليس عنده تلاميذ بالمعنى الدقيق المعروف، ولو أنه كان قد فتح كتّابا لتحفيظ القرآن الكريم، لا يعد ذلك في المدارس التي نقصدها) (5)
وقد اهتم البوصيري بدراسة السيرة النبوية، وألم بتفاصيل حياة النبي (صلى الله عليه وآله) فنذر عمره وسخّر شعره في مدحه (ص)
اشتهر بقصيدة (البردة في مدح النبي صلى الله عليه وآله) والتي سميت باسمه وتسمى أيضا بـ (الكواكب الدرية في مدح خير البرية) و(المبرأة) وتبلغ (160) بيتاً وقد لاقت هذه القصيدة اهتماماً كبيراً، وكان لها صدى واسعاً بين الناس منذ عهد البوصيري إلى الآن ونسج عليها كثير من الشعراء، وترجمت إلى العديد من اللغات منها الفارسية، والألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، والأوردية، والتترية والتركية كما شرحها كثير من الأعلام. (6)
وقد روي عن البوصيري في قصة كتابته لهذه القصيدة قوله: (أصبت بالفالج ــ الشلل ــ في نصف أعضائي، وقد نظمت قصائد في مدح النبي (ص) من قبل، ففكرت أن أنظم قصيدة بالمناسبة، فعملت قصيدة في مدح الرسول (ص)، واستشفعت به إلى الله عز وجل في أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت، ودعوت، وتوسلت به، ونمت، فرأيت النبي (ص) في المنام، فمسح على وجهي بيده الكريمة، وألقى عليّ بردته، فاستيقظت من النوم، فوجدت أني قادر على القيام والنهوض، فقمت، وخرجت من بيتي). (7)
يقول من هذه القصيدة
مـــــــحمدٌ سيدُّ الكونينِ والثَّقَلَيْـ ـنِ والفريقينِ من عُربٍ ومن عجمِ
نبينَّا الآمــــــــرُ الناهي فلا أحدٌ أبَرَّ في قَوْلِ «لا» مِنْهُ وَلا «نَعَمِ»
هُوَ الحَبيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ لِكــــــــلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقْتَحَمِ (8)
كان البوصيري يعمل في كتابة الألواح التي توضع شواهد على القبور، ثم تقلد وظيفة كتابية في بلبيس تعتمد على الحساب (9) ولم ينقطع عن الشعر وإضافة إلى شعره في مدح النبي فللبوصيري قصائد يتذمر فيها من الواقع الفاسد الذي ساده النفاق والجهل، فترك عمله واتجه للدروس الدينية وطلب العلم.
توفي البوصيري في الإسكندرية ودفن بمسجده الذي سمي باسمه قرب قبر أستاذه المرسي، وقد ترك ديواناً شعرياً حققه محمد سيد كيلاني وطُبع بالقاهرة سنة 1955م وقد احتوى ديوانه على 3293 بيتاً (10)
شعره
اشتهر البوصيري بنفسه الطويل جداً والتوغّل في المعاني مع الحفاظ على قوة القصيدة وشاعريتها يقول من قصيدته (الهمزية) التي قدمناها في مدح النبي (صلى الله عليه وآله):
كيفَ ترقى رقيَّــــــكَ الأنبياءُ يا سماءً ما طاولتـها سماءُ
لم يساوِركَ في عُلاكَ وقد حا لَ سنىً منكَ دونهمْ وسناءُ
إنَّما مثلــوا صفاتَـــــــكَ للنـــا سِ كما مثلَ النجـومَ الماءُ
ومنها:
عظمتْ نعمـةُ الإلـــهِ عليهِ فاستقــــلّتْ لذكرِهِ العظماءُ
جهلتْ قومُه عليه فأغضى وأخو الحلمِ دأبُه الإغضاءُ
وسعَ العالمينَ علماً وحلماً فهوَ بحـرٌ لــم تعّيِهِ الأعباءُ
ومنها في أهل البيت (عليهم السلام):
آلَ بيتِ النبيِّ طبتمْ فطابَ الـ ـمدحُ فيـكـــمْ وطابَ الرثاءُ
أنا حسّـــــانُ مدحكمْ فإذا نحـ ـتُ عليكـــمْ فإنني الخنساءُ
سُدتمُ النــاسَ بالتقى وســواكمْ سوَّدته البيضاءُ والصفراءُ
ويقول من أخرى:
شهدَتْ لهُ الرُّسلُ الكرامُ وأشفقوا من فاضلٍ يستشهدُ المفضولا
قارنـــــــــتُ نورَ النيِّرينِ بنورهِ فـــرأيتُ نورَ النيــرينِ ضئيلا
ونسبتُ فضــــلَ العالمينَ لفضلِهِ فنسبــــتُ منهُ إلى الكثيرِ قليلا (11)
ومن أشهر قصائده النبوية التي تسمى (المحمدية) قوله:
مُحَمَّدٌ أَشْرَفُ الأعْـرَابِ والعَجَمِ مُــحَمَّدٌ خَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
محمدٌ بــاسطُ المَعْـرُوف جَامَعَةً محمدٌ صاحبُ الإحسانِ والـكرمِ
محــــمدٌ تاجُ رُسْـلِ الله قــاطِـبَةً محـــمدٌ صادقُ الأقــوالِ والـكلمِ
محمدٌ ثابِتُ المِـيــثــاقِ حــافِظُهُ محمــــــدٌ طيبُ الأخلاقِ والشيمِ
محمدٌ خبِيَتْ بـالنُّـــــورِ طِيــنَتُهُ محمــدٌ لم يزل نــوراً مــن القدمِ
محمدٌ حاكِـمٌ بالــعَدلِ ذُو شَرَفٍ محمــدٌ مـــعــدنُ الإنـعامِ والحكمِ
محمدٌ خَيـرُ خَلقِ الله مِن مُضَرٍ محـمَّدٌ خَيْرُ رُســــــــــلِ الله كُلِّهِمِ
محمدٌ دِينُهُ حَـــــقَّ النّـذِيــرُ بِهِ محمدٌ مجـمـــلٌ حقــــــاً على علمِ
محمدٌ ذكرهُ روحٌ لأنــــــفســنا محمدٌ شكــــرهُ فرضٌ على الأممِ
محمدٌ زينةُ الـــدنيا وبهجـتُـــها محمدٌ كـــــاشفُ الغُمَّـاتِ والظـلمِ
محمدٌ سيدٌ طـــــــابتْ منـــاقبهُ محمدٌ صـــــــاغهُ الرحمـنُ بالنعمِ
محمدٌ صـفوةُ البـاري وخيرتهُ محمد طــــــــاهرٌ مـن سائرِ التُهمِ
محمد ضاحكٌ للضيفِ مكرمةً محمَّدٌ جــــــــــارُهُ والله لـــمْ يُضَمِ
محمدٌ طـابتِ الدنيــا ببعــــثتهِ محمَّدٌ جــــــــاءَ بالآيـــاتِ والحِكَمِ
محمدٌ يومَ بعثِ الناسِ شافعنا محـمدٌ نورهُ الهـــــــادي من الظلمِ
محمدٌ قائــــمٌ للهِ ذو هـــمــــمٍ محمَّدٌ خــــــــاتمٌ للـــرُّسُلِ كُــــــلِّهمِ (12)
وله قصيدة في مدح السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد ابن الإمام الحسن (عليه السلام) المدفونة في مصر:
سَلِيلَةَ خَيْرِ العــــالِـــمَينَ (نَفيسَةٌ) سَمَتْ بِـكِ أعراقٌ وطــابَتْ مَحـاتِد
إذا جحدتْ شمسُ النهارِ ضياءها فَفَضْلُكِ لـم يَجْحَدُهُ في الناسِ جاحِدُ
بآبائِكِ الأطهارِ زُيِّنَــــتِ العُــــلاَ فحبَّــــــــاتُ عقدِ المجدِ منهم فرائدُ (13)
ومنها:
فقلْ لبني الزهراءِ والقولُ قربةٌ يَكِلُّ لسانٌ فيهِمُ أو حــــــصائدُ
أحَبَّكُمُ قلبي فــــأصبحَ مَنْطِــقِي يُجَادِلُ عنكم حِسْبَــــــةً ويُجالدُ
وَهل حُبُّكُمْ لِلنَّـــــاسِ إلاَّ عَقِيدةٌ عَلَى أُسِّهَا في الله تُبْنَى القَواعِدُ
وإِنَّ اعتقاداً خاليـــــاً منْ مَحَبَّةٍ وودٍّ لكـــم آلُ النبـــــــيِّ لفاسدُ
ومنها يستذكر مقتل الحسين وأهل بيته في كربلاء:
تعاظمَ رزءاً فالعيونُ شواخصٌ له دهشـةً والثـاكلاتُ سوامدُ
وطُفِّفَ يـومَ الطَّفِّ كَيْلُ دِمائكم إذ الدمُ جارٍ فيه والدمعُ جامدُ
فيا فِتْنَةً بَعدَ النــــبـــيِّ بهـا غَدَا يهدَّم إيـمــانٌ وتبنــى مساجدُ
ومنها:
وأنتم أناسٌ أذهبَ الرجسُ عنهمُ فليسَ لهم خَطْبٌ وإِنْ جَلَّ جاهِدُ
إِذا ما رَضُــوا لله أوْ غَضِبُوا لهُ تساوى الأداني عندهم والأباعدُ
وفي نهايتها:
إِلَى الله أَشْكُو يا ابــــنَةَ الحَسَنِ الذي لَقِيــــــــتُ وَإِني إنْ شكَوْتُ لَحامدُ
وَمَـــــــــــــــالِي لا أَشكُو لآلِ مُحمَّدٍ خطوباً بها ضاقت عليَّ المراصدُ
ومَنْ لصُرُوفِ الدَّهْرِ عَنِّيَ صارفٌ ومن لهمـــــــومِ القلبِ عني طاردُ
ويقول من قصيدة أخرى في مدح النبي (صلى الله عليه وآله) تبلغ (179) بيتاً
والمصطفَى خيرُ خَلْقِ الله كلِّهِمِ لهُ علــى الرسلِ ترجيحٌ وتفضيلُ
مُحَمَّدٌ حُجَّةُ الله الـــتي ظَهَــرَتْ بِسُـــنَّةِ مـالـــها في الخلقِ تحويلُ
نَجْلُ الأكارمِ والقــومِ الذين لهم عَلَى جَمِيعِ الأَنَامِ الطَّوْلُ والطُّولُ (14)
ومنها يتشوق لزيارة قبر النبي:
مَتَى تَجُوبُ رسولَ الله نَحْوَكَ بِي تِلْكَ الجِبالَ نَجِيبَـــــاتٌ مَراسِيلُ
فأَنْثنِي وَيَدي بالفَوْزِ ظـــــــــافِرَةٌ وثوبُ ذنبي من الآثــامِ مغسولُ
في مَعْشَرٍ أَخْلصـــــــوا للهِ دِينَهُمُ وفَوَّضُوا إنْ هُـمُ نالوا وإنْ نِيلُوا
وقال من نبوية أخرى تبلغ (115) بيتاً:
أَنَّى يَخِيبُ وقـــد تَعَطَّرَ مَشْرِقٌ بِمَدائِحِي خيـرَ الأنـامِ ومَغرِبُ
آلَ النبيِّ ومـن لهم بالمصطفى مجدٌ على السبعِ الطباقِ مطنبُ
حزتمْ عظيماً مـــن تراثِ نبوةٍ مـــا كان دونكُم لها مَن يَحجُبُ (15)
.................................................
1 ــ ديوان البوصيري منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت / شرح وتقديم الأستاذ أحمد حسن بسج ط 2 ، 1426 هـ / 2005 م ص 9 ــ 33
2 ــ مقدمة الديوان ص 5
3 ــ الأعلام ج 6 ص 139
4 ــ ديوانه ص 112
5 ــ مقدمة الديوان ص 6
6 ــ بوشلاق حكيمة بردة البوصيري دراسة أسلوبية رسالة ماجستير جامعة المسيلة 2010 ص 21
7 ــ فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي ج 3 ص 368
8 ــ ديوانه ص 165 ــ 173
9 ــ مقدمة الديوان ص 6
10 ــ بوشلاق حكيمة بردة البوصيري دراسة أسلوبية رسالة ماجستير جامعة المسيلة 2010 ص 20
11 ــ ديوانه ص 147
12 ــ ديوانه ص 173 ــ 174
13 ــ ديوانه ص 57 من قصيدة تبلغ (80) بيتاً
14 ــ ديوانه ص 151
15 ــ ديوانه ص 45
ترجم للبوصيري وكتب عنه:
الصفدي / الوافي بالوفيات ج 3 ص 105
ابن العماد / شذرات الذهب ج 5 ص 432
زكي مبارك ــ كتاب البوصيري
محمد رجب النجار ــ بردة البوصيري قراءة أدبية وفولكلورية
الزركلي / الأعلام ج 6 ص 139
الصفدي / الوافي بالوفيات ج 3 ص 93
محمد أحمد درنيقة / معجم أعلام المديح النبوي ص 354
فتحي محمد محمد عثمان ــ الإمام البوصيري
محمد أبو الحسين ــ قصيدة البردة للبوصيري: دراسة أدبية
علي عثمان جرادي ــ النفحات اللطيفة على البردة الشريفة
اترك تعليق