تتصف الإعلامية في أدعية الإمام الحسين(عليه السلام) بنحو من الخصوصية بوصفه إماما من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) فكل ما يصدر منه، يكون حاويا على تقنيات يتم فيها تقديم الإخبار بشكل يتلاءم مع تلك الخصوصية، ونجد الإمام (عليه السلام) يلجأ إلى أساليب تجعل نصوصه من الناحية التداولية تحظى بالمقبولية، وذات كفاءة إعلامية عالية، قادرة على صياغة المحتوى غير المتوقع في هيئة غير متوقعة، مع قدرته أيضا على تسخير العديد من العناصر الإبداعية في النص التي تحدد صفة الإعلامية بمفهومها المعياري، فعندما يريد أي مبدع أن يمارس عملاً لغوياً فعليه أن يكسر القواعد الوضعية للجملة، محققاً انزياحاً في التركيب ، الغرض منه إدخال النص في دائرة أدبية ، تهتم بالوظيفة الجمالية للنص، فضلاً عن الوظيفة التداولية، وكسر توقعات المتلقي ليحقق إعلامية عالية، لذلك نرى أن التراكيب في أدعيته تتعرض لحالات شكلية ودلالية، ينتج عنها إعلامية عالية، ولتوضيح الإعلاميَّة فيها يمكن تقسيمها على مستويات ثلاثة:
أولا : الإعلاميّة في النَّحو:
عندما يكون التركيب مخالف لما هو معتاد من التراكيب النحوية فهنا تكمن في فعاليته الإعلامية من طريق الطرح الجديد وغير المتوقع, ومن أمثلته التقديم والتأخير, وأسلوب الحذف, والابتداء بالنكرة, سنقف عند كل واحدة منها مع التطبيقات .
التقديم والتأخير:أسلوب من أساليب اللغة الذي يعتمد التغيير في الترتيب المعروف للجملة وقد وصفه القدامى بأنه " باب كثير الفوائد جم المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية لا يزال يفترّ لك عن بديعةٍ ويُفضي بك إلى لطيفة ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمَعه ويَلطُف لديك موقعه ثم تنظر فتجد سبب أنْ راقك ولَطف عندك أنْ قُدِّم فيه شيءٌ وحوّل اللفظ من مكان إلى مكان" [1], والتقديم والتأخير لا يحصلان حصولا اعتباطيا فلكل منهما علة وأغلبها لأغراض دلالية يستشعرها من يتذوق العربية.
فنظم الكلمات بترتيب معين داخل العبارة يكون تابعاً لأحوال النفس وما يثار فيها من معان وصور ومنه قول الإمام (عليه السلام):" اللّهُمَّ ما أَخَافُ فَٱكْفِنِي، وَمَا أَحْذَرُ فَقِنِي، وَفِي نَفْسِي وَدِينِي فَٱحْرُسْنِي، وَفِي سَفَرِي فَٱحْفَظْنِي، وَفِي أَهْلِي وَمَالِي فَٱخْلُفْنِي، وَفِي مَا رَزَقْتَنِي فَبَارِكْ لِي، وَفِي نَفْسِي فَذَلِّلْنِي، وَفِي أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ فَعَظِّمْنِي، وَمِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَٱلإِنْسِ فَسَلِّمْنِي، وَبِذُنُوبِي فَلاَ تَفْضَحْنِي وَبِسَرِيرَتِي فَلاَ تُخْزِنِي، وَبِعَمَلِي فَلاَ تَبْتَلِنِي" [2], ونرى هنا أّن التقديم قد وقع أكثر من مرة وعلى امتداد هذه الفقرة من الدعاء, ووجود هذا التكرار للتقديم يدل على عدم اعتباطيته, أي أنه مقصود لتحقيق غاية في النفس فتقديمه (ما أخاف) على (فاكفني) يُشعرنا أنه ليس طلبا للكفاية بصورة مطلقة بل مخصوص في مورد معين وهو الخوف, وكذلك تقديمه (ما أحذر) على (فقني) ليس طلبا للوقاية بشكل مطلق بل فقط في مورد الحذر ونجد في مورد آخر من فقرةِ الدعاء نفسها تقديم شبه الجملة على الفعل متكررا إلى نهايتها وهو قوله: (في نفسي فذللني) و(في أعين الناس فعظمني) و(ومن شر الجن والإنس فسلمني) ....إلخ فإرادة الذل موطنها النفس والتعظيم موطنه أعين الناس والتسليم من متعلق بشر الجن والإنس كلها إرادات ودعوات يريد الإمام تحقيقها في موارد مخصوصة ومحصورة في شبه الجملة التي قدمها الإمام على الأفعال, وكل هذا التقديم في التراكيب قد أعطى جانبا اعلاميا عاليا وغير متوقع, فضلا ًعَمَّا تقدم فإننا نعلم أن الإمام واجد لما يريده فطلباته ودعواته إلى الله بهذا المعنى غير متوقعة من المتلقين لأن وجود شخصية وبهذا المستوى من المثالية و القرب الإلهي إنما يريد تعليم الناس كيف يتأدبون ويتذللون في دعائهم مع الله, وكيف يُقرون ويعترفون بذنوبهم إليه, وهذا كله سيكون مؤثرا لو صدر من شخصية كشخصية الإمام الحسين(عليه السلام)، فلولا وجود هذه الانزياحات في الرتب لَمَا تحققت هذه المعاني الجديدة.
أسلوب الحذف:وهو اعتماد الإيجاز بدل التطويل اللغوي من دون المساس بجوهر النص وبؤرته إذ يمكن الاعتماد على حذف عناصر من التَّركيب النَّحويِّ، ونحصل على درجةٍ منِ الإعلاميَّة، كحذف المبتدأ أو حذف حرف الجرِّ، أو حذف حرف النِّداء، أو حذف جملة, وغيرها منِ عناصر الحذف, ففيه المحافظة على رشاقة البنية التركيبية والضخامة الدلالية, وهو قوله (عليه السلام) :" أَنْتَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَ" [3], والحذف واضح في هذه العبارة ؛ وذلك لسعة المحذوف فما أعطاه الله لايمكن إحصاءه فهو القائل: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }[النحل18], فعدم ذكر ما أعطى ومن أُعطي جعل المعنى شاملا ليتسع لكل الإحتمالات والتقديرات, والسائل هنا معترف بالعطاء قاطع به, وهو متحقق بدلالة ماضوية الفعل ( أعطيت) فالحذف هنا أحسن من الذكر .
ومن الحذف أيضا قوله (عليه السلام) : "أَنَا ٱلَّذِي أَقْرَرْتُ" [4], ويرد السؤال هنا وهو بماذا اقر الإمام (عليه السلام) ؟ وهذا السؤال يكشف عن وجود محذوف وهو اقراه بالربوبية أو إقراره بالنعم المتواترة وكلها معاني شاملة لا يمكن حصرها وتضييقها بذكر شيء يمكن أن يحددها.
ثانيا : الإعلامية في المجاز :
وتحصل الإعلاميَّة في المجاز من طريق إيجاد تعبير مجازيِّ جديد, أو بإعادة التعابير المجازيَّة المستعملة ولكنَّها مضمرة ومنها الألفاظ الكنائية وقد وردت في قوله (عليه السلام): " وَرَايِشُ كُلِّ قَانِعٍ، وَرَاحِمُ كُلِّ ضَارِعٍ"[5], فلفظة الرياشة هنا تدل على النعيم والخير وورودها هنا يحتمل أحد معنيين أحدها ظاهري يتوافق مع ظاهر اللفظ إذ قد يكون مراد الإمام (عليه السلام) هنا المعنى الحقيقي لهذه المفردة, وهو دلالتها على ريش الطيور والرياشة من ريش الطير أو كسوته [6]، فالمعنى الأول هو إنعام الله على كل قانع ليتريش بنعيم المعاش, والمعنى الثاني لـ(رائش) يكون أبعد من ذلك الحقيقي وأعمق وهو أن القانع يكتفي ويرضى بكل ما تيسر له, فتكون معيشته هادئة وبسيطة مكتفيا وراضيا بها وهو هنا وعلى الرغم من بساطة عيشه إلا أن قناعته تلك تجعله في رياشة مجازية, وكل هذا الغموض والمجاز في العادة غير متوقع فيعطي زخماً اعلاميا كبيرا عند صياغته بهكذا أسلوب .
ثالثا : الإعلاميَّة في المعلومات:
وتكون هذه الإعلامية عندما يَرِدُ في النص معلومات مخالفة للتوقع مما تسبب الجدَّة والتنوُّع في النَّصِّ؛ إذ كان متوقعًا منِ الناحية النحويَّة لكنَّه غير متوقع دلاليًّا, فالإعلاميَّة تتحقق على مستوى المعنى "المحتوى" الذي يرد في أدعية الإمام (عليه السلام) عندما يحتوي على معلومات مغايرة للمتعارف عليهِ, فهناك كثير من الأمور غير المتوقعة ومنها الوصف الدقيق لما حواه الإنسان من أعضاء, وقد ذكرها الإمام عندما استعرض نعمه ابتداء من النطفة وتعلقها في الرحم إلى آخر لحظة هو فيها من التكامل وهو قوله (عليه السلام:" أَشْهَدُ يَا إِلَهِي بِحَقِيقَةِ إِيمَانِي، وَعَقْدِ عَزَمَاتِ يَقِينِي، وَخَالِصِ صَرِيحِ تَوْحِيدِي، وَبَاطِنِ مَكْنُونِ ضَمِيرِي، وَعَلاَئِقِ مَجَارِيَ نُورِ بَصَرِي، وَأَسَارِيرِ صَفْحَةِ جَبِينِي، وَخُرْقِ مَسَارِبِ نَفْسِي، وَخَذَارِيفِ مَارِنِ عِرْنِينِي، وَمَسَارِبِ صِمَاخِ سَمْعِي، وَمَا ضُمَّتْ وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ شَفَتَايَ، وَحَرِكَاتِ لَفْظِ لِسَانِي، وَمَغْرَزِ حَنَكِ فَمِي وَفَكِّي، وَمَنَابِتِ أَضْرَاسِي، وَمَسَاغِ مَطْعَمِي وَمَشْرَبِي، وَحِمَالَةِ أُمِّ رَأْسِي، وَبُلُوغِ حَبَائِلَ بَارِعَ عُنُقِي، وَمَا ٱشْتَمَلَ عَلَيْهِ تَامُورُ صَدْرِي، وَجَمَلُ حَبائْلِ حَمَائِل وَتِينِي، وَنِيَاطُ حِجَابِ قَلْبِي، وَأَفْلاَذُ حَوَاشِي كَبِدِي، وَمَا حَوَتْهُ شَرَاسِيفُ أَضْلاَعِي، وَحِقَاقُ مَفَاصِلِي، وَقَبْضُ عَوَامِلِي، وَأَطْرَافُ أَنَامِلِي وَلَحْمِي وَدَمِي، وَشَعْرِي وَبَشَرِي، وَعَصَبِي وَقَصَبِي، وَعِظَامِي وَمُخِّي وَعُرُوقِي، وَجَمِيعُ جَوَارِحِي "[7] وما نجد في عباراتها وألفاظها وما تدل عليه من معان كلها أمرا غير متوقع ومعلومات جديدة على ذلك المجتمع فقوله مثلا (وَبَاطِنِ مَكْنُونِ ضَمِيرِي), و(عَلاَئِقِ مَجَارِيَ نُورِ بَصَرِي)، و(َأَسَارِيرِ صَفْحَةِ جَبِينِي)، و(َخُرْقِ مَسَارِبِ نَفْسِي)، و(خَذَارِيفِ مَارِنِ عِرْنِينِي)، و(مَسَارِبِ صِمَاخِ سَمْعِي).
ونرى الإمام(عليه السلام) يضع نفسه في كثير من المواضع مذنبا مقصرا أمام الله تعالى وهذا الأمر غير متوقع صدوره منه ولا يمكن القول بصدوره إنما كان ذلك منه من باب التعليم والإرشاد للناس؛ لأن يكونوا بهذا المستوى مع الله وأن ينزلوا أنفسهم منزلة المفتقرين المذنبين إذن فصدوره من الإمام ما هو إلا من باب الكلام لك واسمعي ياجارة ومن ذلك قوله(عليه السلام)" يَا مَنْ قَلَّ لَهُ شُكْرِي فَلَمْ يَحْرِمْنِي، وَعَظُمَتْ خَطِيئَتِي فَلَمْ يَفْضَحْنِي، وَرَآنِي عَلَىٰ الْمَعَاصِي فَلَمْ يَخْذُلَنِي"[8].
م. م ناصر عبد سلمان
[1] دلائل الإعجاز: 106.
[2] الصحيفة الحسينية: 78-79.
[3] الصحيفة الحسينية : 84.
[4] المصدر نفسه : 85.
[5] المصدر نفسه: 85
[6] ينظر لسان العرب مادة(ريش):5/ 390.
[7] الصحيفة الحسينية : 74.
[8] الصحيفة الحسينية : 83.
اترك تعليق