وقف الرسام التشكيلي العراقي وعلى الدوام في مقدمة فناني المنطقة العربية حيث حافظ كثير منهم على انتماءاتهم ولم يخرجوا عنها لا في التذوق ولا مهاراتهم الفنية، فهم يرون ان مواطنيتهم هي الاكثر تعبيرا في اعمالهم الابداعية، ليترجموها بالعودة الى جذورهم بتسجيل حياتهم الاجتماعية والدينية والعادات والتقاليد بملامحها الشعبية التراثية المميزة، والتي تعكس ببساطة متناهية بيئاتهم وتوجهاتهم بالوان يشرق منها التفاؤل والاحساس بحنين جارف الى الماضي والايام الجميلة، ليسعد بها المتلقي بعبق هذا التراث الذي لم ولن يكون عرضة للنسيان مهما طال الزمان.
اللوحة من المنجزات الابداعية الرائعة للفنان التشكيلي العراقي ضياء العزاوي.. والتي تمتد على مساحة أفقية مستطيلة ويغلب عليها طابع الأشكال المجردة والمساحات اللونية الصغيرة ويمكن تمييز اشكال مجردة لبعض اجزاء الاسماك عند يسار اللوحة واعلى وسطها، وبعض الأشكال المنفذة بالظلال لتبدو بمثابة حشد من الأشكال المجمعة عشوائيا يبرز من وسطها بعض الخطوط والحروف العربية والنقاط المضيئة الطاغية على الأشكال والفضاء المحيط بها، فكما هو معتاد من اسلوب العزاوي.. حيث طعّم عدداً كبيراً من إنجازاته البصريّة بالحروف والكلمات العربيّة، مما حدا بنقاد الفن والباحثين بان يصنفونه ضمن الفنانين الحروفيين المعاصرين، كما قارب في عدد آخر من أعماله بين الرسم والشعر في محاولة اقترابية من اسلوب الواسطي وسومه المدعومة بالكتابة والاشعار.
في هذه البنية التصميمية الواسعة المساحة لجأ العزاوي إلى عدد من المعالجات التي يمكن بموجبها تقسيم اللوحة إلى عدد من المستويات ، فهناك أرضية العمل بلونها الزيتوني والتي تعمل كمستوى خلفي لكن مستقل عن غيره، والمستوى الثاني يمثل الأشكال المنفذة بالوان معتمة تقع بين الأرضية وبعض الأشكال الحروفية المضاءة فوقها والتي تمثل المستوى الثالث عند سطح اللوحة، غير أن المستوى الثاني من الألوان المعتمة هو الأكثر أهمية وفاعلية بالنسبة لهذه البنية التصميمية ، فهو الذي يرسم حدود الأرضية ويقلل من تأثيرها اللوني والفضائي كما أنه يعمل بمثابة أرضية للأشكال الملونة تسهم في دفعها للأمام بفعل تنافر قيمها الضوئية معها ، فضلاً عن استفادة منها الفنان لتحديد مستويات النظر إلى اللوحة.. حيث تعمل لا شعوريا لدى المتلقي بما يشبه خطاً أفقياً افتراضياً يعزل الأشكال أسفل اللوحة عن الفضاء وعن الأشكال الاخرى العائمة في الفضاء، فالفضاء هنا ناشئ من وضع الكتل والعناصر وسط اللوحة فيتحول إلى فضاء شبيه بفضاء التصميمات المعمارية الذي ينشأ من إحاطة الأشكال والكتل.
ومن جانب آخر فأن الفنان عمد على تأسيس عمله على مبدأ التصرف بالمكان الذي يقابل تصميماً بالفضاء من خلفه، حيث يجعل بعض الأشكال تحاول الخروج من وسط اللوحة الى فضاءها في محاولة لإشغال الفضاء وتقوية روابط البنية التصميمية بمحيطها الفضائي، فالأجزاء المتشظية من جوانب الاشكال المعتمة، ما الا هي جزء من التصميم الإجمالي للعمل ترتبط بأواصر شكلية ولونية كما أن لها حركة اتجاهية واضحة من الوسط الى باقي الاتجاهات لتساعد في احكام البنية داخل اللوحة وبالتالي تقود نظر المتلقي باتجاه مركز اللوحة ولا تسمح بتشتت تركيزه عن الأجزاء الجوهرية في النص .
أن وجود الحدود المكانية في التصميم أمر جوهري لابد منه، فليس من المعقول إنشاء نص فني في حدود لانهائية ، لان انفتاح البنية التصميمية اللانهائي يجعل النسق البنائي للتصميم منفلتا فتكون مسألة تأمله وفهمه غير مرتبطة بهدف ثابت يفترض أن يكون مرتبطا بحد فضائي يمكن استيعابه، فالأشكال عند الفنان ضياء العزاوي صلبة متماسكة دائما ولا تميل إلى التفتت والتلاشي في الفضاء التصويري وهي محاطة دائما بحدود راسخة مؤسسة بقوة إزاء الأرضية كما أن الأرضية ذاتها عبارة عن سطح قوي ثابت تعطي انطباعاً بإمكانية الغوص في ثناياها أو أغوارها البعيدة ، كما أن الأشكال ذاتها تزدحم دائما في مساحات مكانية لا يتخللها الفضاء إلا في بقع محدودة لا تضعف تماسكها.
ومن هذا فإنَّ عمليات تلقي الأفكار والرموز والإشارات الكامنة في النص الفني لهذه اللوحة او غيرها من ابداعات الفنان ضياء العزاوي تبدأ من الشكل المادي المحسوس بوصفه دالاً، أما المدلولات المحمولة فتبقى مسألة فيها نظائر خاضعة للاجتهاد، ولو تتبعنا اشكال العمل اعلاه بدقة لوجدنا رموزا عديدة استخدمت في بنائية الاشكال، ولها دلالات كثيرة فالأحرف العربية القابعة وسط اللوحة وشكل السمكة اقصى يسارها وبعض الاشكال والالوان ودرجاتها المتفاوتة ، تمثل رموزا متداولة للتراث العربي بمسارات ظاهرة في وسط اللوحة فمنها ما يعبر عن الأمل ومنها ما يذهب الى الرغبة في نشر السلام والأمان لتعيد للمتلقي الهدوء والاستقرار والامل في زمن تعمه الفوضى والعبث والصراخ الذي لامعنى له سوى العبث.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق