لا شك أن من يحاول تسليط الضوء على نهج البلاغة، كمن يحاول أن يدلّ على الشمسِ ببصيصِ الفانوس، وأن يرفد البحر بالساقية، فهذا الكتاب الذي تناوله الكثير من الشارحين عبر العصور، وكتبوا مقدار ما فهموه منه، واعترفوا بعجزهم وتقصيرهم عن الإلمام بكل ما فيه، قبسٌ من نور صاحبه سيد البلغاء والمتكلمين، أمير البيان علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والكتابة عن هذا الكتاب - بعد كل ما كتب عنه من شروح و تفاسيرــ لا يعدو كونه حافزاً للجيل الحاضر في بثِّ التعاليم الأخلاقية التي رسمها الإمام للنفس البشرية في سبيل خلق مجتمع إسلامي إنساني مثالي والاقتداء بتلك التعاليم للارتقاء بالإنسان والمجتمع.
نهج البلاغة .. الملهِم
إن الحديث عن هذا الكتاب هو نفس الحديث عن صاحبه يجل عن الوصف، و يعظم على القلم، فلم ير تاريخ البشرية كتاباً اعظم منه بعد كتاب الله العزيز ولذا قيل في شأنه: (هو دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق)، فهو المرجع الثاني بعد القرآن الكريم في التشريع والفلسفة والأخلاق والتربية والسياسة و العدالة الاجتماعية التي تحققُ الفوز في الدارين، وهو المعجزة التي انبجست منها الينابيع من روح الإمام العظيم الذي قال فيه أستاذه الأعظم ومربّيه ومغذّيه بعلومه الإلهية الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله): (يا علي لولا أني أخشى أن تقول فيك فئة من الناس ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك مقالة، لا تمر على أحد من الناس إلا وأخذوا التراب من تحت قدميك ووضعوه على رؤوسهم).
لقد استهوى هذا الكتاب العظيم عقول عشاق البطولة والعدالة والحقيقة والاخلاق والفلسفة والحكمة والأدب الرفيع وأصبح الضالة المنشودة للأديب والخطيب والفيلسوف والسياسي والحكيم، على اختلاف طبقاتهم و تباين عقائدهم فتراهم كلهم مأخوذين بما قاله الإمام (عليه السلام) من المواعظ والنصائح والحكم والعلوم.
يقول الشريف الرضي (رضي الله عنه) في مقدمة شرحه لهذا الكتاب العظيم: (كان أمير المؤمنين عليه السلام، مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه عليه السلام، ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا و تقدم وتأخروا لأن كلامه (عليه السلام)، الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي).
و يقول في خاتمة هذه المقدمة عن سبب تسميته لشرحه بـ (نهج البلاغة): (ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ويقرب عليه طلابها وفيه حاجة العالم المتعلم وبغية البليغ والزاهد).
ويؤيد رأي الشريف الرضي، الشيخ محمد عبده في مقدمة شرحه المختصر لهذا الكتاب بقوله: (ولا أعلم اسماً أليق بالدلالة على معناه منه وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه صاحبه ولا أن آتي بشيء في بيان مزيّته فوق ما أتى به صاحب الاختيار).
الجوانب الأخلاقية
من هنا، لا تنفك حاجة المجتمع في كل العصور - وخاصة في الوقت الحاضر- أن تكون قصوى، للرجوع إلى هذا الكتاب والتمسك به والتسلح بتعاليمه للتصدّي للتيارات المنحرفة، وموجات الفساد و الإفساد التي تكالبت على عالمنا الإسلامي لزعزعة الثقة بين الإنسان المسلم ودينه، وإبعاده عن أدب القرآن الكريم وأدب نهج البلاغة وأخلاق الإسلام العظيم. و سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام)، باب مدينة علم الرسول (صلى الله عليه وآله)، التي هي الدستور الإلهي في الأرض لتطبيق شريعة الأنبياء والمرسلين.
فمن يتأمل في عهد الإمام عليه السلام، إلى مالك الاشتر (رضي الله عنه) عندما ولاه مصر يجد دستوراً كاملاً يمثل قمة الخلق البشري حتى في أوقات ينزع فيها عدوه إلى كل دناءة ووضاعة. ومن يستقرئ حياة الامام عليه السلام، يجد تلك الروح الإنسانية الكبيرة والخلق العظيم، يتجلّى في كل جوانب حياته الشريفة. وحتى في الحرب ..
ففي حرب صفين نزل معاوية بجيشه عند نهر الفرات، و استولى على الماء و عندما نزل أمير المؤمنين عليه السلام في صفين حال معاوية بين جيش الإمام عليه السلام، والماء، ومنعهم أن يشربوا منه ولو قطرة واحدة، فأضر بهم العطش، ولم تنفع كل المحاولات السلمية للحصول على الماء، فأرسل أمير المؤمنين عليه السلام، مالك الأشتر في كتيبة من جيشه واستعادوا الماء من أهل الشام في ساعات قليلة، لكن أمير المؤمنين عليه السلام، لم يكن يطلب النصر بالجور، كما يطلبه معاوية وأمثاله فأتاح لجيش الشام ورود الماء أسوة بجيشه، ورغم هذا الخلق العظيم وهذه البادرة الكريمة التي لو كان لمعاوية أدنى خلق لأدرك أحقية صاحبها ونبله وفضله، ولكنه بدلاً من أن يرعوي و يكف عن طغيانه، فقد تمادى في كفره بسب أمير المؤمنين عليه السلام، و صار يأمر أتباعه بسبه وشتمه، ولما سمع أهل العراق سب أمير المؤمنين، بادلوهم بالسب والشتم، وصار الجيشان يتراشقان بهما فما كان موقف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من ذلك المشهد ؟
إن هذه الروح الكريمة التي تربّت بأحضان الرسالة وتغذّت من خلق النبوة تأبى إلّا أن تزداد سمواً وطهراً ونبلاً، وهذا هو حال العظماء ولو عُدَّ عظماء البشرية لكان في طليعتهم علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنه لما سمع سُباب أصحابه أمرهم بالكف عن ذلك و قال: (إني أكره لكم أن تكونوا قوماً سبّابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر). ثم قال لهم : (قولوا مكان سبكم: أللهم احقن دماءنا و دماءهم وأصلح ذات بيننا و بينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله و يرعوي عن الغي و العدوان من لهج به).
ويوصي (عليه السلام) أصحابه في الحرب فيقول: (لا تقتلوا مدبراً, ولا تصيبوا معوراً, ولا تجهزوا على جريح).
ولكن أين معاوية من هذا الخلق العظيم !!
هذه صورة واحدة من جوانب شخصية امير المؤمنين المشرقة، بكل جوانبها والتي لو تحلّى بها المسلمون لأصبحوا من أرقى الأمم، ولما وجد اعداء الاسلام مكاناً لزرع التكفير والارهاب والعنف والتفرقة والسباب بينهم .
اترك تعليق