أن الحديث عن نهج البلاغة حديث شيّق متنوّع، يأخذ مساحات واسعة تمثل طموحات الإنسان من أجل حياة حرة كريمة، وكذلك يمثل دليلاَ له في جميع مواقفه في الحياة وعلاقته معها بجميع جوانبها وفق مفاهيم سامية.
ولعل من أهم هذه الجوانب التي تناولها نهج البلاغة هو موضوع الحكم وما يجب أن يتصف به الحاكم وحقوقه وواجباته تجاه الناس لخطورة هذا المنصب وأهميته في حياة الأمة وتحديد مصيرها، فلما سمع قول الخوارج: (لا حكم إلاّ لله) قال (عليه السلام): (كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، ولكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ:لاَ إِمْرَةَ) فهو (عليه السلام) يبين أن هذه الكلمة حق ولكن ليس هنا موضعها وقد حرفها هؤلاء عن مسارها فيقرر أنه:
(لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الْأَجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر)
كما ويميز (عليه السلام) في قول آخر بين إمرة البر وإمرة الفاجر فيقول: (أَمَّا الْإِمْرَةُ الْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فيها التَّقِيُّ، وَأَمَّا الْإِمْرَةُ الْفَاجرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِيُّ، إلى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ، وَتُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ).
فهذا التقرير هو الضرورة التي يفرضها الواقع الاجتماعي، فإن كانت إمرة الفاجر بغياب العادل شراً، فهي على علّاتها أفضل من الفوضى التي تصيب المجتمع بغياب الحاكم، فهو (عليه السلام)، لم يقصد طبيعة الحكم الإسلامي وإنما قصد بيان ضرورة الحكم مقابل دعوى الخوارج فالحاكم : (وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر).
ولا يخفى أنه لا تتحقق هذه الأمور بدون وجود الحاكم، فلا يستطيع أي إنسان أن يتخيل حجم الكوارث التي تصيب المجتمع بغياب الحاكم، وقد رأينا في وقتنا أثناء الفترات الانتقالية التي حدثت في بعض الدول العربية من المجازر، والأعمال الفظيعة، فلو لم يقم الشعب بانتخاب حكومة لأصبح المجتمع عبارة عن غابة.
الحاكم.. الحارس الأمين
أما عن الشروط التي يجب أن تكون في الحاكم فيقرر الإمام (عليه السلام) بأنه يجب أن يكون: كريم النفس كي لا يتطاول على أموال الناس، وعادلاً لكي يسوّي بين الناس في العطاء، ونزيهاً في القضاء، وأبياً لا تغره المغريات والرشى، وأن لا يفضل أحداً من أقربائه على أحد الناس في الحكم لكي لا يعطل الحدود ويخرق القوانين، بالإضافة إلى أمور أخرى جمعها (عليه السلام) في قوله:
(وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَلاَ الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلاَ الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلاَ الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَلاَ الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ، وَلاَ الْمَعطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ).
فهو (عليه السلام) يؤكد على ضرورة أن يكون الحاكم متصفاً بصفات تؤهله للقيام بهذه المسؤولية في حفظ حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وركّز على مسألة عدالة الحاكم عملاً بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل﴾، فهو يرى في الحاكم الحارس الأمين على المجتمع وإن الحكومة العادلة إنما هي أمانة في عنق الحاكم يجب أن يؤديها تجاه الأمة، ففي وصيته إلى عامله على أذربيجان يقول (عليه السلام):
(وَإِنّ عَمَلَكَ لَيسَ لَكَ بِطُعمَةٍ وَلَكِنّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَأَنتَ مُستَرعًي لِمَن فَوقَكَ لَيسَ لَكَ أَن تَقتَاتَ فِي رَعِيّةٍ وَلَا تُخَاطِرَ إِلّا بِوَثِيقَةٍ وَفِي يَدَيكَ مَالٌ مِن مَالِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَأَنتَ مِن خزُاّنيِ حَتّي تُسَلّمَهُ إلِيَّ وَلعَلَيّ أَن لَا أَكُونَ شَرّ وُلَاتِكَ لَكَ وَالسّلَامُ).
وفي كتابه إلى جباة الزكاة يعظهم ويذكرهم بالله في التعامل مع الناس فيقول: (فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَاصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ وَوُكَلَاءُ الْأُمَّةِ).
وفي عهده الخالد الذي عهده إلى مالك الأشتر حينما ولاه مصر يبدأ (عليه السلام) وصيته بالبناء والصلاح والاهتمام بأمن البلد حيث يقول:
(هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِىٌّ أَمِيرُ الْمُؤمِنينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا، وجِهَادَ عَدُوِّهَا، واسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وعِمَارَةَ بِلاَدِهَا).
ثم يقول (عليه السلام) فيه: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ).
فحقوق الرعية يجب أن تكون من أولويات طبيعة الحاكم كما يقرر الإمام علي (عليه السلام)، كما دعا الولاة إلى التقرب من الناس، وعدم الاحتجاب عنهم لكي لا تكون هناك نفرة بينهم، ولكي تكون هناك مشاركة إنسانية بين الحاكم والناس يقول (عليه السلام):
(فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ)
لقد دعا (عليه السلام)، إلى العمل بسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي سمة الأنبياء جميعاً في مجالسة الناس وإلغاء الطبقية في المجتمع والتي غيرها بنو أمية، فأنفوا هم وولاتهم من الناس واستكبروا عليهم ونظروا إليهم نظرة عبيد لهم، كما يجرّد (عليه السلام)، الوالي من أيّة امتيازات تجعله يستأثر بما ليس له وتملك ما للناس فيقول للأشتر:
(وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وَعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ)
ومن واجبات الحاكم أيضاً العمل على توفير الأمن في الداخل والخارج، وتأمين الحياة الاقتصادية وتطويرها من مستلزمات العيش الكريم: (فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ)
(ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ اْلأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ لاِنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ، ومَن طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ وأَهْلَكَ الْعِبَادَ، ولَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاّ قَلِيلًا).
فنجد في عهده هذا وحده وثيقة كاملة جمعت كل قوانين الدولة ومقوماتها المستمدة من روح الإسلام لتصبها في إطار المجتمع التمدني الذي يسعى إلى الارتقاء على أسس من النظام العادل الواعي.
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق