تكوين فني عاشورائي مؤثر نُفذ بأسلوب متميز عن الاساليب والاعمال الفنية الاخرى التي شبهت قضية الامام الحسين فنياً وما مر على اهل البيت صلوات الله عليهم من ظليمة وجرائم يندى لها جبين الانسانية.. حيث اخرج مبدع اللوحة الاشكال بملامح فنية وروحية مميزة بدأت بالقدرة على التعبير الحر عن الاشكال ومضمونها باعتماد اسلوب مزج الواقع بالخيال ،لينتج نصا بصريا اصيلاً ينتمي بجذوره الى الموروث الاسلامي الحسيني الذي يبدو انه يشكل حيزا كبيرا من الاسلوب الخاص للرسام ليحتل المساحة اللائقة في ساحة الفن التشكيلي المعاصر اليوم.
اللوحة من ابداع الفنان عبد الحميد قديريان الذي اعتدنا ان نشاهد اعماله الولائية الحسينية المتجددة عند حلول شهر محرم الحرام من كل عام، وقد تم تشييد التكوين الجمالي وصياغته بتقنية الزيت على القماش وفق مستويين احدهما شكلي والآخر دلالي، واما الشكلي منه فقد جعل الرسام من خلاله التكوين الفني مفتوحاً حاضناً لكل العلاقات اللونية والخطية والتنظيمية لإنتاج أشكال تقترب بهياتها وحضورها من فكرة الموضوع الأساسية، اما الآخر الدلالي فيلاحظ من خلال إرسال الفنان لمجموعة من العلامات المدركة في اذهان المتلقين، والتي يستدل من خلالها إلى شخصية المشبه لها- السيدة زينب - بغض النظر عن البحث في عملية التطابق أن صحت أم لم تصح الروايات، حيث انتج هذا المنجز البصري وهو محمل بعلامة دالة لمأساة الطف وأحداثها الأخيرة بعد حرق خيام العترة الطاهرة ومناصريهم في ظهيرة يوم عاشوراء، ونُفذ المنجز بإنشاء صوري مفتوح يستحضر البنية المكانية الواقعية لعصر عاشوراء وبقايا الخيام، مما أستدعى قديريان لاستحضار البنية اللونية التي تختص بجغرافية ارض المعركة واجوائها الحزينة وتمثلاتها بوجود شخص السيدة زينب عليها السلام وهي تتأمل بقايا الخيام المحترقة والاجساد المتناثرة وسط الصحراء، فأقام تدرجا لونيا ما بين الغامق والفاتح حتى نقاط التلاشي في خط الأفق ليظهر عمق الصحراء وسعتها مصوراً حرارة نار الخيام وما تبقى منها باللون القرمزي الممتد افقياً وسط اللوحة.
أختار الفنان أن يضع نقطة الارتكاز الرئيسية في المقدمة اليمنى للعمل متمثلة بشخص السيدة زينب عليها السلام.. وجعل منها مركزا سيادياً اول يربط عناصر اللوحة الاخرى، اضافة الى اعتماده عنصر سيادة ثانوي وسط اللوحة مستنداً به على التمثيل الواقعي للعمل فقد تم استحضار فرس الامام الحسين عليه السلام وهو محني الرأس الى اسفل لواء الحسين المثبت في الارض بشكل مائل ليكون محوراً معززاً لفكرة العمل، وعمد عبد الحميد على تحديد عناصر اللوحة الاخرى بخطوط واضحة وبحركات الفرشاة المتموجة والألوان الحارة والباردة ليعطي إحساسا بهول الفاجعة التي تقف السيدة زينب عليها السلام على بقاياها، ولا يخفى على المشاهد طريقة بناء الرموز العقائدية من حيث مكانها في اللوحة ومن حيث الهيئة والازياء، فالعباءة السوداء تغطي الشكل بأكمله شريطة أن لا يظهر أي جزء من الجسم وذلك لمطابقة الشكل ومضمونه باعتبار السيدة زينب بنت علي عليهما السلام هي سليلة بيت النبوة الاطهار ولابد ان تظهر في مضمونها الدلالي المتمثل في اللوحة على شكل كتلة لونية اصبحت محوراً للعمل الفني ومركزا سيادياً لعناصر العمل الفني الاخرى، اظهر من خلالها الفنان محنتها وفاجعتها وهي تقف على رماد الخيام والاجساد الطاهرة المتناثرة الاجزاء.
حرص الرسام جاهدا لنقل المتلقي إلى أرض المعركة وجوها النهائي عن طريق بنائه للسماء والأرض المحترقة الواسعة التي خلت إلا من بقايا اعمدة الخيام وأجساد الموتى والدروع والسهام المتناثرة فوقها ، واستخدم الرسام اللون الأحمر والاصفر ودرجاتهما في تمثلات النار والافق الممتد الى قلب السماء ليوائم الحالة النفسية لتلقي العمل وعلاقتها بالموضوع، وقد شكل اللون الازرق السماء العالية للاقتراب من الأرواح السماوية المتمثلة بالملائكة ومواساتهم لجبل الصبر السيدة زينب سلام الله عليهما، فلو امعنا النظر في فضاء اللوحة العلوي المتمثل بالسماء الزرقاء لوجدنا انه مميز بعلامة تشير إلى استشهاد الأمام الحسين واخيه ابا الفضل عليهما السلام واصحابهما ،مَثَلها الفنان بتكوينات رمزية شكلت دلالة واضحة للمتلقي بهيئاتها النورانية الشفافة التي تبدو للمشاهد كأنها كتل ضوئية ترتفع الى السماء تارة واخرى تهوى منها الى الارض، وذلك بناء على ما تفرضه المرجعية العقائدية والتاريخية للواقعة المتلخصة بحضور ملائكة السماء مع الارواح التي تشير بعض مرويات الطف إلى نزولها أثناء مقتل الامام الحسين عليه السلام، ولعدم المعرفة بماهية الروح نفذ الفنان الاشكال بهذه الطريقة، معززاً ذلك بما يدفع المشاهد إلى تكملة المشهد الدرامي على ارض المعركة الممتدة في الافق بدلالة اشكال النبال والرماح والراية المغروسة في الرمضاء التي خلت من الرجال والخيام سوى بقايا اوتاد واجساد مبعثرة تقف امامها الحوراء زينب بحزن شديد.
السلام على من تجمعت عليها المصائب و الكروب و ذاقت من النوائب ما تذوب منها القلوب ..
السلام على الحوراء زينب ما بقي الدهر و ما أشرقت شمس ورحمة الله وبركاته..
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق