ومن منطقة المغيثة اتجه الامام الحسين (عليه السلام) الى ذي حسم، وفي هذه المنطقة التقى الحر بن يزيد بالأمام (عليه السلام) حينما أرسله بن زياد لصده ومعه ألف فارس، وجاء القوم حتى وقف هو وخيله مقابل الامام الحسين[1].
وتبين الروايات التاريخية ان الامام (عليه السلام) خطب في هذا المنطقة حين حضرت صلاة الظهر بَيَنَ فيها سبب قدومه قائلا: " أيها الناس إنها معذرة إلى الله عز وجل إليكم إنني لم آتكم متى أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم: أن أقدم علينا فأنه ليس لنا إمام لعل الله يجمعنا بك على الهدى فإن كنتم على ذلك قد جئتكم فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم"[2]0
وثم صلّى العصر، وخاطب القوم قائلا:" أيها الناس فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى الله أو نحن أهل البيت أولى بولاية هذا ألأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، وان كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به علي رسلكم انصرفت عنكم "[3]0
وفي الوقت نفسه قال الحر بن يزيد للإمام الحسين: "إنّا والله ما ندري هذه الكتب التي تذكر" فقال الامام (عليه السلام) : "يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملؤيين صحفا، فقال الحر، فأننا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك"0
وتشير المصادر التاريخية ان في منطقة ذي حُسم أراد الامام الحسين الانصراف، الا ان الحر حال بينه وبين الانصراف، فقال الامام (عليه السلام) للحر: "فما تريد ؟" قال الحر: "أريد والله أن أنطلق بك إلى ابن زياد... إني لم أؤمر بقتالك وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة فإن أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة ولا تردك المدينة[4].
يبدو ان الامام الحسين كان يريد أن يدخل الكوفة حرا وبالطريقة اللتي يختارها، وكان الحر يريد أن يأخذه أسيراً، لكن الامام (عليه السلام) ظل مصراً على التوجه نحو الكوفة حتى بعد الإختيار الذي عرضه عليه الحر بن يزيد .
يتضح من الروايات التاريخية ان الحر قال للإمام (عليه السلام): "...أنا خائف إن قاتلتك أن أ خسر الدنيا والآخرة"، ولكن خذ عني هذا الطريق، وأمض حيث شئت، حتى أكتب إلى ابن زياد ان الحسين بن علي قد خالفني في الطريق فلم أقدر عليه[5]. يبدو من الرواية ان الامام الحسين تخلى من التوجه إلى الكوفة مادام لا يمكنه أن يدخلها إلا أسيرا، فهذا لا يعني تخليه عن مواصلة القيام بحركته بل يعني تغير مسار حركته إلى جهة أخرى، بالإضافة الى ذلك أراد بلوغ تمام العذر وعلى أكمل وجه بحيث لا يبقى ثمة مجال للطعن في وفائه بالعهد.
وبين أبو مخنف في كتابه " مقتل الحسين " ان في منطقة ذي حُسم خطبة أخرى للإمام الحسين(عليه السلام) قائلا:" أنه قد ترك من الأمر ما قد ترون وأن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها.. فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل ألا ترون إن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه يرغب المؤمن في لقاء الله محقا فأني لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً "[6].
نستنتج من هذه الخطبة إن الامام (عليه السلام) يواصل امتحان عزائم أنصاره من خلال تذكيرهم هذه المرة بتغير الأمور، وتنكر الدنيا وإدبار معروفها، ويحث أصحابه على التمسك بنصرته، حيث يذكرهم بان ما بقي من الدنيا ليس إلا كماء ضئيل في قعر إناء، والأيام الباقية من هذا العمر في ظل حكومة غير عادلة أيام لا عشرة فيها، عيشها خسيس كالمرعى الوبيل، وأن أسوء حياة ... هي حياة ذل تحت قهر الظالمين، وأنها التعاسة والجرم والخزي.
جعفر رمضان
[1]عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم "ابن الأثير"، الكامل في التاريخ، تحقيق: خليل مأمون شيحا،( بيروت: دار المعرفة، 2000م)، ج3، ص500.
[2]محمد بن محمد بن النعمان المفيد، الإرشاد(النجف: المطبعة الحيدرية) ، ص224؛ أبي المؤيد الموفق بن احمد بن محمد، المكي الخوارزمي، مقتل الحسين، تحقيق: عبد المنعم عامر،( بغداد: مكتبة المثنى، 1973)، ج1، ص417،
[3] أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (مصر: دار المعارف، 1961م)، ج5، ص402.
[4]أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، المصدر السابق، ج5، ص402-403؛ محمد بن محمد بن النعمان ، المصدر السابق، ص206.
[5] عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم "ابن الأثير"، المصدر السابق ، ج3، ص501.
[6] لوط بن يحيى بن سعد بن مسلم الازدي "أبو مخنف"، مقتل الحسين، تحقيق، ميرزا حسن الغفاري(قم: المطبعة العلمية، 1398هـ)، ص86
اترك تعليق