تنوعت التمثلات الفنية لواقعة الطف ضمن نطاق واسع و نشاطات متعددة.. منها شعرية ومنها مسرحية ( التشابيه ) واخرى تشكيلية، وذلك عبر لفيف من المشاركات الوجدانية التي تنتقل الذات من خلالها لتتمثل في عناصرها وشخوصها الحرية والنبل والعظمة والخلاص من الظلم والجور التي نادت به ثورة الامام الحسين عليه السلام ، ولا يكون جمال هذه التمثلات الا بصدقها وعفوية طرحها ذلك لأن استذكار معركة الطف واحياء شعائرها هي الممارسة الوحيدة التي يجتمع فيها كل الناس بمختلف تنوعاتهم، وبتجرد كامل عن كل ما يلتصق بهم من ممارسات يومية قريبة أو بعيدة عن الدين، وأحياناً كثيرة تذوب كل المستويات الثقافية والعلمية لتشارك عامة الناس في أحياء هذه الذكرى الاليمة.
مما لا شك فيه أن كل ما يحمله الموروث الشعبي من عادات وتقاليد وممارسات تخص يوم عاشوراء لا يمكن تغيرها أو تبدلها، حتى وأن تبدلت الأجيال وتغيرت طباعها ومستوى تقدمها العلمي أو الثقافي، وذلك لأن هذا الموروث ينتقل عبر الأجيال محفوظاً في الشعور واللاشعور الجمعي والفردي ، وكل محاولات التطوير التي قد تطرأ عليها تبقى ضمن النكهة الشعبية الخالصة وهذا ما نلمسه اليوم ضمن الشعائر الحسينية التي تتجدد كل عام بدأ من غرة شهر محرم الحرام، ويعزى سبب ذلك ان أسس قيامها ما هو الا ترسيخ للعقيدة وقيمها، وهي بالتالي تؤدي وظائف تعليمية ونفعية تعمل على تثبيت العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية التي تتمسك بها مجتمعاتنا. . فمن الناحية الاجتماعية ( السوسيولوجية ) فالموروثات تعد من الفنون المحافظة التي تعبر عن طرائق عمل وتفكير وسلوك تقليدي من شأنه أن يحافظ على ما تركه الاسلاف والأجداد، ولها أدوات ورموز وأغراض فكرية وعملية نفعية.. اي بمعنى اخر أنها تعد فنون تراثية تحاكي ما قام به الآباء والأجداد وتحافظ عليه من النسيان والتلف والضياع وتنقله نقلا مباشرا من دون تغير أو تطوير واضح مع ملاحظة بعض التغييرات الطارئة والبطيئة بما يتناسب ولغة العصر التي تلامس عقول وافئدة الاجيال الجديدة وزمانهم الحاضر.
أن الرسوم الشعبية العاشورائية تنحى بطبيعتها منحاً تسجيلياً وتحاول ترجمة النصوص والمرويات التاريخية وايصالها للمتلقي بسلاسة .. أضافة للدور المهم الذي تلعبه العقيدة الدينية والتي من خلالها يتم الاتحاد الوجداني مع الحدث، ولذلك فهي تمثيل لفكرة جوهرية تصاغ بأشكال متعددة قد تكون ظاهرية أو رمزية في أحيان أخرى، ولذلك فأن أصولها لا تحمل تصويراً لنموذج محدد، فهي وأن حاولت الاقتراب من الواقع فأن واقعيتها في جغرافية أماكنها ومعمارها وأزمنتها المختلفة، ألا أن أشكالها تحتمل التحوير والتطوير تبعاً للأفكار والقيم التي تتضمنها أضافات الرسام بفعل العادات والتقاليد والضواغط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقائدية، والتي تدفعه أحياناً الى محاكاة الأخرين بفعل التأثر والتأثير بما يتطابق مع مقاصده وافكاره بحيث تبقى وظيفتها الأساسية ثابتة ومستمرة ( تسجيل احداث الطف وترجمة النصوص والمرويات التأريخية الخاصة بها ) وهذا هو الهدف الأساس المبتغى.. وبناء على ذلك فأن الرسوم الشعبية الخاصة بواقعة الطف بمجملها- وأن كانت تحتفظ بسمات الفن الشعبي - فهي تجمع في أحيان كثيرة ما بين التعبيرية والواقعية والرمزية في آن واحد، فهي تعتمد على اختيار رموزها من المفهوم العام لمدلولات الرمز .
وعادة ما ترتبط رسوم واقعة الطف بالأفكار والمعاني والمعتقدات الجمعية من جهة، والحاجات الاجتماعية النفسية التي يريد أشباعها الرسام والمجتمع المنتمي أليه من جهة أخرى.. فهو الذي يبرز قيمها الجمالية، وقد أكد بعض من علماء الاجتماع ذلك بتأكيدهم على ان أن الخصائص الحضارية والثقافية والتراثية هي التي تقرر التقييم الجمالي لأي عمل فني ولما كانت القيم الجمالية نسبية في المكان والزمان، فأن أعمال هؤلاء تصبح جميلة في عيون أصحابها ومحبيها، على أن هذا الارتباط لا يلغي دور الفنان في تكوين قيماً جمالية ترسلها إبداعاته، فعلى الرغم من أن كل أنتاج خاص بالواقعة غايته الأساسية هي خدمة قضية سيد الشهداء عليه السلام بصيغة أو بأخرى، ألا أن العمليات التنظيمية البنائية للأعمال وطبيعة الانتقاء القصدية للأشكال التي تتوافق مع المضمون، وما يقوم به من عمليات ترميزية يؤدي الى قيم جمالية أخرى كان قد أصطلح عليها بالقيم الموضوعية.. ولذلك تنوعت الرسوم في كيفية أنشائها وأشكالها ورموزها باختلاف أسلوب التعبير وكل ما يتضمنه من أيقاع وعلاقات.
ولذلك فأن من خصوصية الرسوم الشعبية الاتحاد بالمجموع، هذا الاتحاد الذي أدامها وأدى الى ازدياد تعلق الناس بها باعتبارها أيقونة لترسيخ العقيدة والالتزام بها ومناصرتها، والتقليل من أهمية ما يثار من حولها من شبهات، ذلك أنها لا تحاول الاقتراب من الشبه الشكلي قدر اقترابها من تمثيل الجوهر، والدليل ارتباط رموزها بمجاورات ترتبط فيما بينها بعلاقات وطيدة تؤدي مهمة الفهم والأدراك، فكل الرموز الاجتماعية لا تمتلك رابطة ميثاقية مع مدلولها، أي ليس من الضروري أن يكون لكل رمز علاقة أبدية مع مدلوله، وهذا يستدعي ضرورة دخول عنصر آخر ليكتمل الرمز، وهذا العنصر يتمثل بوجود شفرات تحدد العلاقة بين الدال والمدلول، ويجب أن تكون هذه الشفرة معروفة ومتعلمة من قبل الأشخاص الذين تتعلق بهم الرموز لكي يكون لها دلالة واضحة ومفهومة، وعليه فأن عملية الأبداع فيها تنتج أشكالا تعبيرية جديدة تؤدي دورها ووظيفتها الأساسية كرسالة.
أن الشكل التعبيري يؤكد التحليل الوظيفي للدلالة حتى يتم ابراز دور الانفعالات في التبدلات المستعاضة فيحمل وظيفة ثنائية، فيصبح الشكل كأداة أتصال ووسيط تعبيري في نفس الوقت، فلكل انفعال عنيف غلبة للغضب أو قد تكون لعاطفة الحب أو الحماس، فتتشابك الأشكال حتى يتغلب الشكل الموازي للانفعال، وبناء على ذلك يبدأ الإلهام لدى الفنان ليكون منبعا للأسلوب التعبيري.. فالاشكال الجديدة لها رموز معينة وهي تحمل دلالة الموضوع وتقوم مقامه.. لا بالمماثلة وإنما بالإيحاء، فالعلاقة بين الدال والمدلول تقوم على مبدأ الربط بينهما.. وحين يوضع الدال فأنه يحمل مشاعر وعواطف وتصورات فكرية محسوبة تقوم على اساس المحاكاة المتعددة، ومنها المحاكاة البنائية والتي يبنى فيها هيكل اللوحة أو يعكس بناؤه مراحلها، فيأتي البناء حاكياً مدلوله بقالب بصري محسوس.. وهناك المحاكاة التعاملية وفيها تتعامل دلالات الرموز بمرموزها وهناك تؤدي الرموز في مخزونها الدلالي وظيفتها التواصلية وتبقى المحاكاة قائمة سواء ظهر الانسجام كلياً بين الدال والمدلول أو أقتصر على جزء من مركبات الدال فحسب ومن ثم يتم تجاوز الرمز كشكل عندما يتم التفاعل مع صلب الخطاب الموجه للمتلقي.
ذلك هو خطاب الفن العاشورائي بشكل او بآخر.. اذ هو شكل من أشكال وأساليب الرفض والاحتجاج العلنية من قبل الفنان.. ينمو فيها ومن خلالها خطاب ملجوم بفعل القوة والسيطرة التي تتطلب من المرء أن ينطوي على ذاته أو على جزء منها.. أو أن يتراجع ويختفي في الظل، وهنا يمكن أن يظهر خطاباً مستتراً يساعد على تفتح الذات ثانية( المنضوية في الظلال)، غير أن الخطاب العلني يكون غير مباشر ومشوش في بعض الاحيان، الى حد كاف بحيث يصبح تورية يمكن قراءتها من وجهين، أحدهما واضح وملطف وآخر مغلق ومخفي .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق