الامام الرضا (ع) والفرقة الواقفية

عايش الإمام علي بن موسى الرضا (ع) في فترة إمامته الكثير من الفتن والمحن القاسية، فإلى جانب موقف السلطة المتعصب والمتشدد من الأئمة (ع) والشيعة والضغوط التي مارستها عليهم, كانت هناك انقسامات واضطرابات أثارتها بعض النفوس المريضة من الذين أظهروا البدع وأنكروا إمامته (ع).

فأول ما واجهه الرضا (ع) في مسلسل المحن هي محنة الواقفية الضالة التي ابتدعها بعض المنحرفين الذين شذوا عن الصراط القويم، وزاغوا عن طريق الحق المتمثل بأهل البيت (ع) في سبيل مصالحهم الشخصية وأغراضهم الدنيوية فقد أدعت هذه الفرقة أن الإمام الكاظم (ع) لم يمت بل رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم وأنه المهدي ولا أمام بعده.

وقد رُوّجَ لهذه الفكرة التي أحدثت انقساماً كبيراً وخلافاً حاداً بين الشيعة وكثر أصحابها ولم تقتصر ضلالتهم على أنفسهم بل عملوا جاهدين على حرف الشيعة عن الإمام الرضا (ع) ومذهبه الحق.

الدافع الدنيوي

لم تكن هذه الانطلاقة الشاذة الجديدة ناشئة عن اعتقاد واقتناع من قبل أصحابها بواقعيتها, بل جاءت مخاض رغبات مادية وعوامل دنيوية أثرت في نفوسهم فقادتهم إلى هذه الفكرة المنحرفة إذ أن مبتدعي هذه الفرقة هم ثلاثة من أصحاب الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) الذين انحرفوا عن خطه، وهم: علي بن أبي حمزة البطائني, وزياد بن مروان القندي, وعثمان بن عيسى الرواسي, وقد شهد هؤلاء الثلاثة تشييع الإمام الكاظم (ع) وتغسيله ودفنه وكانوا من خزنة الأموال التي تجبى للإمام من شيعته فكان عند أحدهم سبعون ألف دينار وعند كل من الإثنين الآخرين ثلاثون ألف دينار فنازعتهم أنفسهم في تسليم هذه الأموال للإمام الرضا (ع) بعد وفاة أبيه (ع) وتحيلوا لذلك بإنكار موت الإمام الكاظم (ع) وأنه حي يرزق وأنهم لن يسلموا الأموال حتى يرجع فيسلموها له.

وقد استفحل أمر هذه الفرقة وكثر أتباعها فغرروا بالبسطاء وألقوا عليهم الشُبه والتشكيكات المريبة فأذعنوا لهم ودانوا بباطلهم حتى أحدثت هذه الفرقة شرخاً كبيراً في الصف الشيعي فكانت هذه الفرقة هي أول ما واجه الإمام الرضا (ع) في إمامته من المحن والبلايا.

كانت هذه الفترة القاسية جداً على الإمام الرضا (ع) أوغلت في المأساة التي يعيشها بعد استشهاد أبيه فإضافة إلى الألم الذي كان يعتصره لسنوات طوال وهو بعيد عن أبيه (ع) الذي عاش تلك المدة الطويلة في سجن هارون ولم يفرج عنه إلا وهو ميت كان يعاني من جهة من محاولات جلاوزة السلطة للقضاء عليه ومن جهة أخرى تلك الفتنة التي أثارها بعض أصحاب أبيه وبدأوا يحرفون الناس عن الصراط القويم وكانت الخلافات والمنازعات بين أصحاب هذه الفرقة وأصحاب الإمام الكاظم والرضا (عليهما السلام) المخلصين على أشدها.

موقف الإمام الرضا (ع)

أول عمل قام به الإمام الرضا (ع) في إمامته هو درأ الخطر عن المذهب الحق ووأد الفتنة فدحض أباطيل الواقفية وكشف دخائل نفوسهم وعرّاهم أمام الملأ لئلا تنخدع بهم النفوس الضعيفة والعقول المريضة فاستطاع أن يرجع كثيراً من الناس الذين انخدعوا بهم  إلى رشدهم وهدايتهم إلى الطريق القويم.

لقد كان خطر هذه الفرقة كبيراً على التشيّع فقد حاول هؤلاء الضالون إغراء أحد أعظم أصحاب الإمام الكاظم (ع) المخلصين بالأموال لكي ينضم إليهم ولكنهم فشلوا، فقد روى الكشي في رجاله: إن يونس بن عبد الرحمن قال: مات أبو الحسن موسى بن جعفر (ع) وليس من قوّامه أحد الا وعنده المال الكثير وذلك بسبب وقوفهم وجحودهم موته ــ ثم ذكر الكشي أسماءهم والأموال التي عندهم ــ ثم يتابع نقل كلام يونس فيقول: فلما رأيت ذلك وتبيّن لي الحق وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا (ع) ما علمت تكلمت في ذلك، ودعوت الناس إليه فبعثا لي وضمنا لي عشرة آلاف دينار على أن أكف وأترك هذا الأمر فقلت لهما: إنا روينا عن الصادقين أنهما قالا: أذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فأن لم يفعل سلب الله عنه نور الإيمان وما كنت أدع الجهاد وأمر الله على كل حال، فناصباني وأظهرا لي العداوة.

ويظهر جلياً من هذه الرواية إن هذه الفرقة كانت كاذبة في دعواها, ضالة في عملها, وألا لما حاولت شراء سكوت يونس بن عبد الرحمن بأموال السحت، وتدلنا رواية النوبختي على مناظرات جرت بين أصحاب الإمام الكاظم (ع) المخلصين المؤمنين أمثال: يونس بن عبد الرحمن, وعلي بن إسماعيل الميثمي مع هؤلاء المنحرفين حول إمامة الرضا بعد أبيه الإمام الكاظم، ورغم أنهما أفحما أرباب هذه الفرقة إلا أنهم أصروا على الباطل وغرتهم الحياة الدنيا وزين لهم الشيطان أعمالهم.

يقول النوبختي: ولما اشتد الصراع بينهم قال لهم علي بن إسماعيل: ما أنتم إلا كلاب ممطورة.

بدع الواقفية

كانت هذه الفرقة الضالة هي الهدية الغالية التي يتمنّاها بنو العباس الذين كان يرعبهم ويخيفهم اجتماع الشيعة إلى إمام واحد والتفافهم حوله، خاصة إن هذه الفرقة قد أنكرت بعض الضرورات الإسلامية وقالت بالتناسخ وإن الإمام واحد وتعدد الأئمة من حيث أن هذا الواحد ينتقل من بدن إلى بدن إلى غيرها من البدع يطول شرحها.

ومهما كان الحال فلسنا بصدد استقصاء البحث عن بدع الواقفية واتجاهاتهم والأسباب التي دفعتهم لابتداع هذه الآراء، وإنما عرضنا ذلك عنهم لتعارضها مع مبدأ الشيعة واعتقادهم وخلافها لإمامة الرضا التي ظلت تصطدم بالأحداث حتى أخر مراحلها.

ورغم أن الإمام الرضا والأئمة (ع) من بعده قد تبرأوا من هذه الفرقة ومن شابهها من الفرق الضالة ومن أصحابها لكن العجيب إن بعض المؤرخين والمؤلفين يحسبون هذه الفرقة وأمثالها على الشيعة وينسبون ما ادعت هذه الفرق من البدع والضلالات على عقائد الشيعة.

إن المتتبع لتاريخ أهل البيت يجد أن منهج الأئمة الطاهرين يسمو ويبتعد عن هذه البدع والضلالات، فالإمام المنصوص عليه من الله سبحانه وتعالى بالإمامة يكون تعريفه إلى الأمة بواسطة الإمام الذي قبله، فنرى كل إمام منهم (ع) عندما يحس بدنو أجله يكثر من الوصايا بالإمام الذي بعده، لكي لا تختلف الأمة في أمامها وهذا ما فعله الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) فقد أوضح مكانة ولده الرضا (ع) وانه الإمام من بعده، وأكد على أنه وارثه ووصية في الإمامة وأوصى أهله وأصحابه بالرجوع إليه في عدة أحاديث، منها أنه (ع) كان يقول لبنيه:

هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد (ص) سلوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول لكم فإني سمعت أبي جعفر بن محمد يقول لي: إن عالم آل محمد لفي صلبك وليتني أدركته فأنه سمي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

ومنها قوله (ع): أن ابني علياً أكبر ولدي وأبرهم عندي وأحبهم إلي وهو ينظر معي في الجفر ولم ينظر فيه إلا نبي أو وصي نبي.

ومنها قوله: أبني هذا سيد ولدي وقد نحلته كنيتي، وقوله (ع): ابني علي وصيي والقيم بأمري وخير بَنيّ

وقوله (ع): علي مني بمنزلتي من أبي ثم تلا قوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)

وقوله (ع): هذا ابني كتابه كتابي وكلامه كلامي وقوله قولي ورسوله رسولي وما قال فالقول قوله

الى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي رواها الثقات من خواص اصحاب الامام الكاظم (ع) حول هذا الموضوع.

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار