لم يكن النقد او الحكم الجمالي في يوم من الأيام - بوصفه علما من العلوم الإنسانية والاجتماعية- مستقلاً عن بقية العلوم الأخرى، بل كانت له صلاته الوطيدة مع العلوم الاخرى، مثل علم اللغة وعلم النفس بفروعهما المختلفة، وعلم التاريخ والاجتماع وشموليتهما، بل وحتى العلوم البيولوجية، فقد ارتبط النقد قديماً عند اليونان بالفلسفة دون غيرها حتى أمسى فرعاً من فروعها، وهو اليوم يُعدّ جزءا من علم الجمال الذي شخص بأنه فرع من فروع الفلسفة.. لتظل الصلة وثيقةً بين النقد والفلسفة منذ أرسطو وأفلاطون حتى عصرنا الحاضر.. على الرغم من الفارق الكبير بين الفلسفة بوصفها علماً مستقلاً، وبين انواع الفن التي تصور القضايا والافكار المهمة بشكلٍ جميل.
النقد الفني هو عملية أدبية تعنى بصياغة نصوص إبداعية ذات نشاط فكري يمكن من خلالها الوصول إلى قرار بشأن عمل فني ما بأنه يستحق التقدير بناء على مقومات معرفية دقيقة.. يقوم بها الناقد بهدف إيضاح معنى أو تقويم اعوجاج أو تعيين مواطن الجمال أو القُبح في بعض الصور المعرفية وإصدار احكام قيمية عليها، فهو نوع من التثمين والتقييم الشامل للمنتج المعرفي وتحديد موقف واضح منه من خلال سرد تفاصيل معينة حول العمل الفني توضيح فيها الأسباب التي تجعل الناقد قادر على إقناع المتلقي بجمال وجودة العمل الفني أو الحكم بقبحه.
استعملت مفردة النقد في العصر الهيليني اوالكلاسيكي ثم انتقلت الى الرومان، وانتشر استخدامها من بعد ذلك في القرنين السابع عشر والثامن عشر.. حيث شاع استعمالها في مجالات أوسع من ذي قبل.. وبتطور الصحافة بدأ النقد يشغل حيزا كبيرا من خلال استعماله اليومي بما لفت النظر إلى تعبير (النقد الفني) مستقبلا على يد بعض الكتاب الألمان والفرنسيين والإنكليز، حتى أصبح يمثل عملية الحصول على معلومات وإصدار أحكام تفيد اتخاذ القرارات من خلال تفحص العمل الفني والتفكيك والبناء الدقيق لأجزائه وعناصره لتحديد مواطن الضعف والقوة في ذلك العمل وفقا لمعايير مقترحة ومتجددة للإبداع يمكن الأخذ بها في تطبيق الأحكام على العمل الفني بوصفه جيدا أو رديئا، كون العمل الفني يبعث آثارا أو عاطفة معينة في المتلقي (ناقداً كان أو متذوقاً) الذي تصدى لذلك العمل الفني ولمس فيه مواطن من شأنها أن تجعلهُ جميلاً أو قبيحاً ،
يعتبر النقد الفني التشكيلي أحد أنواع النقد المتفرعة من نقد الفنون إجمالاً باعتبار أن التشكيل هو جزء أصيل من الفنون البصرية والتي من ضمنها السينما والمسرح، فالنقد التشكيلي يعد من أهم المحفزات الدافعة لازدهار الفنون التشكيلية وتطورها وإنجاح مقاصدها في شتى أشكالها من رسم ونحت وفخار وزخرفة وغيرها ، فهو يحلل ويفسر الأعمال الفنية للرقي بالذوق العام في المجتمع .
وتتأكد أهميته بصفته عنصراً فاعلاً في الحركة الفنية التشكيلية بشكل خاص والحركة الثقافية والفكرية بشكل عام من خلال الوظائف والأدوار التي يقوم بها في الحياة المعاصرة، فقد أصبح النقد التشكيلي اليوم يشكل رافداً مهماً في تفسير وتقييم الإبداعات الفنية، كونه يعد قرينا لها ولا يمكن لأحدهما أن ينمو ويزدهر بمنأىً عن الآخر.. فكل نتاج إبداعي من وجهة نظر النقد إنما هو دعوة للبحث والتحقيق والمسائلة، فالنقد هو ضرورة للإبداع الفني يسترشد به المبدع حين تكون الحاجة، ولا يكون النقد فاعلاً بعيداً عن منجز فني رصين يستحق النقد وهذا ما يستدعي وجود مبدعين يثيرون حفيظة النقد والنقاد، والفن يعد إبداع أولي يحتاج إلى إبداع ثانٍ يفسره أو يقومه أو يطوره ويستشرف فيه رؤى سيرورته عن المستقبل، فالنقد التشكيلي المعاصر يعتمد أساساً على التحليل المنهجي للأعمال الفنية ولا يجنح سواءً إلى المدح أو التقريظ أو الذم أو الهجاء كما كان بصورته الكلاسيكية، بل أصبح يضع هذه الإبداعات تحت ضوء هادئ وفاحص بعيداً عن الحماسة أو التعصب أو التحيز.
لم يعد النقد التشكيلي المعاصر هو تلك الآلية اللازمة للارتقاء بالعمل الفني المبدع إلى مستوى أعلى من حيث المضمون أو الجماليات أو المفردات الأساسية المكونة له.. بل امتد ليصبح حالة إبداعية بحد ذاته باحثاً عن الصمت والكشف عن المسكوت عنه واستنطاق النص الإبداعي ليُبيحَ بمكنوناته، وهو بهذا المفهوم المعاصر قد أصبح يرى أن المنجز الفني لا يحاكي الطبيعة ويقلدها بل أصبح يشكل بناءً عضوياً قائماً بذاته يحمل في مكنوناته قيمته الحقيقية التي تنبع من الأحاسيس الجمالية التي يثيرها في داخل المتلقي، فالمشاهدة في حد ذاتها تجربة جمالية تعيد تشكيل أحاسيس المتلقي وتنسقها تجاه العمل الإبداعي مما يمنحه إشباعاً نفسياً لا يتاح له في الحياة اليومية.. فالعمل الفني يتبنى مهمة إثارة نفس المتلقي في استجابة ذاتية تعد أساسا للحكم على الفنون، ويصبح هذا الحكم وسيطاً للتواصل بين العمل الفني والمتلقي.. فالنقد هو طبيعة في البشر و يعد احد سلوكياتهم حين يعجبون بشيء أو يستهجنون شيء آخر، وما الإعجاب أو الاستهجان إلا صورة من صور النقد.
نشأ النقد مع بداية إدراك الإنسان لجمال الطبيعة من حوله او قبح بعض اجزائها أو بعض من سلوك الآخرين، فهو حوار فاعل بين النص والقارئ يضفي على النص معنى يشترك فيه الطرفان ولا معنى للنص بمعزل عن قارئ نشيط يستحثه ويقلب فيه الظن بعد الظن، ففي لحظة التأمل الفني تشعر الذات أنها قد امتزجت مع العمل الفني وبالتالي تشيع بالشيء الذي تتأمله نوازعها ورغباتها ومشاعرها في شتى مظاهر إحساسها، فعند تعرض المتلقي للوحة أو أي نتاج إبداعي لابد من أن يعتمد على الشكل المنسجم في ذلك التعبير الفني الذي ينقل المعلومات ويهيئ القبول العقلي الذي يتجاوز الحسي في كثير من الأحيان، فعند تحليلنا للقيمة الجمالية نجد، انه لكي تكون هناك خبرة جمالية لدى المتلقي لابد من وجود موضوع يجسد الجمال (الموضوع الجمالي) ثم لابد من وجود وعي جمالي يتمثل بـ (الذات المدركة) ، وإذا كان هناك ذات مدركة للجمال واهتمامها منصب على الموضوع الجمالي (المتمثل باللوحة الفنية) فأن ثمة علاقة تربط بين الموضوع الجمالي والوعي الجمالي، ومن خلال هذه العلاقة يتم الدمج بين الذات والموضوع ومن ثم استحسان ذلك العمل الفني وبشكل متباين ما بين متلقٍ وأخر، فالمنظومة القيمية تختلف وتتفاوت بين المتلقين الذين يختلفون باختلاف وتفاوت ذائقتهم الجمالية واختلاف تشكيل منظوماتهم القيمية.. فالمتلقي الذي تتصدر القيم الجمالية منظومته القيمية يكون أكثر اهتماماً بالجمال وتذوقه من الذين تقع القيم الجمالية عندهم في مواقع متدنية من تلك المنظومات.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسنية المقدسة
اترك تعليق