وصل الحرف العربي الى جمال زخرفي لم يصل اليه أي حرف آخر من حروف اللغات الاخرى في تاريخ الانسانية قاطبة.. حيث بلغ ذروته في القرنين الخامس والسادس الهجريين ( الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين ) وذلك لأن الاسلام ايقظ في نفوس المسلمين الحاجة الى الحضارة وبعث فيهم الشعور بحب الخير فالحرف العربي الذي كتب به القرآن الكريم يعد مقدساً وكان الخطاطون ومازالوا ينافس احدهم الآخر في التفنن بكتابة حروفه الجميلة وتجويدها، فللحروف العربية جمالية خاصة وميزة فريدة تجلت فيها عبقرية الفنان المسلم بيده المرنة و قابليته الابتكارية التي تكسب الخط جمالاً وبهجة، ولحروفها حرية شديدة ناشئة من مطاوعتها واستدارتها والنابعة من اصل هندسي ثابت وقاعدة رياضية معروفة.. فأصل الحروف العربية ( الألف ) الذي هو خط مستقيم جعلوه قطر دائرة ، اما بقية الحروف فهي اجزاء من الدائرة المحيطة بهذا القطر منسوب اليه، ولو اعيدت الحروف الى التسطيح وازيل تقوسها لكانت كلها من الألف بنية معينة ثابتة ولكل حرف من الحروف العربية هندسته الخاصة عرفت بالنسبة الفاضلة .
المخطوطة اعلاه من ابداعات الخطاط التركي حمد الله الاماسي .. والذي اخذ الأقلام الستة على يد خطاط يدعى خير الدين المرعشي الذي كان يكتب على طريقة ياقوت المستعصمي.. وقد قام الاماسي بدراسة اسلوب ياقوت حتى استطاع ان يبدع لنفسه أسلوبا خاصا ويشرع في الكتابة منتهجا إياه حتى عرف (بقبلة الكتاب) , وقد قضى عمره بكتابة العديد من المصاحف التي بلغ عددها سبعة وأربعين مصحفا، كما كتب العديد من الآيات الشريفة وأجزاء القران المنفردة ومجاميع الدعاء والطومار والقطع والرقاع والامشاق وغيرها.. و المخطوطة اعلاه تصنف من الرقاع الخطية وقد كتبت بمزيج من خطي الثلث والنسخ كما هو واضح بمقطعيها الافقيين الاعلى والاسفل فالأعلى كتب بخط الثلث والاخر كتب بخط النسخ وهي بمجملها تحمل بين مداد حروفها ابعاداً جمالية واخرى وظيفية كما هو حال الرقاع الخطية الاخرى .
اما الابعاد الجمالية فقد تحققت من خلال اعتماد الخطاط الاتجاه المستوي في كتابة خط النسخ مما حقق تناسباً متكافئاً في مساحات النصوص، فضلاً عن سعي الخطاط الى توفير التناسب في قياس قلمي الثلث والنسخ .. وهناك ايضاً ضبط للقواعد و توزيع المساحات الخطية والزخرفية وفق الموازين الجمالية ليتحقق من خلاله التوازن في تمام الرقعة.. ولا يخفى ما لتناغم المداد الأسود مع الألوان الطبيعية من دور في ابراز جماليات اعلى للنص المكتوب والرقعة الخطية بشكل عام ، مع العلم ان النصوص المكتوبة غير مرتبطة المعنى .. ولنا ان نتطرق بشيء من الايجاز عن الابعاد الجمالية لهذه الرائعة الخطية التأريخية فهي قد تكون احدى المفاصل المهمة التي تربط بين اسلوبي مدرسة بغداد للخط والمدرسة العثمانية..
الوضع ألاتجاهي لخط النسخ ..حيث اعتمد الخطاط الاتجاه المستوي لكتابة خط النسخ بغية تحقيق التناسق مع مسارات اتجاه خط الثلث، وهذا الأسلوب أسس لما اعتمده الخطاطون لاحقا في كتابة الرقع الخطية . التناسب في مساحات النصوص .. وهو لم يتحقق في هذه الرقعة بالشكل المطلوب اذ خصصت المساحة الأصغر لخط النسخ قياسا إلى مساحة خط الثلث مما أدى إلى غياب التناسب . التناسب في قياس القلم .. وقد تحقق بين قياس قلمي النسخ والثلث من خلال الحفاظ على النسبة المعتمدة لدى الخطاطين وهي (3:1) وهي النسبة التي جرى على اعتمادها الخطاطون في كتابة خطي الثلث والنسخ معا . ضبط القواعد .. حيث أظهرت هذه المخطوطة توصلات الخطاط حمد الله الاماسي وذلك من خلال رسمه للحروف ومراعاته لقواعد خطي الثلث والنسخ على عصره.. وهنا نلاحظ اضطراره لوضع كلمة فوق أخرى في خط النسخ مما يعني انه أنجز هذه الرقعة بعفوية دون تسطير مسبق التوازن.. وقد تحقق فعلاً من خلال التوزيع المساحي المتكافئ للنصوص على الرقعة، وكذلك من خلال وجود المساحات الجانبية المشغولة بالزخارف النباتية الحاضنة لمساحة خط النسخ التي منحت الرقعة الخطية توازنا محوريا، فضلا عن تطابق قياسات الحروف والكلمات لكلا الخطين . المعالجات اللونية .. وهنا اعتمد الخطاط المداد الأسود لكتابة النصوص فيما عمد المزخرف إلى استخدام بعض الألوان الطبيعية للزهور في إشغال المساحات الزخرفية حيث أضفت هذه الألوان صفة جمالية للرقعة . تنظيم المساحات الخطية.. وهنا نجد ان الخطاط قد عمد الى تقسيم الفضاءات الخطية على مساحتين.. اذ اعتمد مبدأ التنظيم الثنائي في هذه الرقعة الخطية، حيث خصصت المساحة المستطيلة الأكبر عرضا وارتفاعا لخط الثلث بينما جعلت المساحة الأصغر لخط النسخ، اضافة الى تمييز الفارق القياسي لكلا الخطين .. ولكن يظهر للمشاهد ان مساحة خط الثلث كانت أكثر سعة وذلك كان حسب متطلبات قياس السطر اما المعالجات الزخرفية فلم يقتصر استخدام الزخارف النباتية في الرقعة على الجانبين فحسب.. وانما تم إشغال مساحة خط الثلث بزخارف نباتية قوامها الأوراق والزهور، وقد ظهرت الأفاريز في هذه الرقعة لفصل المساحات الخطية والزخرفية بعضها بعض، اذ اعتمدت الخطوط المستقيمة كأفاريز مع وجود إفريز هو عبارة عن ظفيرة تفصل بين مساحتي خط الثلث والنسخ مما أضاف لمسة جمالية للرقعة .اما فيما يخص البعد الوظيفي.. فالمتأمل لهذه الرائعة الفنية يلمس انها تعكس إرهاصات مبكرة لهذا النوع من التوجهات الفنية في ميدان الخط العربي خاصة وان الخطاط حمد الله الاماسي مثل حلقة التحول من المدرسة البغدادية إلى المدرسة العثمانية ، وقد عمد الى تجنب التراكب خاصة في خط الثلث فاتخذت الرقعة الخطية طابعا تدوينياً قرائياً بالدرجة الأساس، فهي قد تحقق البعد الوظيفي فيها وبشكل اساس من خلال الوضوح والمقروئية التي تتسم بها للنص بخطي الثلث والنسخ .. ولم يلحظ في هذه الرقعة الخطية ترابطا في وحدة المعنى بل هي عبارة عن نصوص ثلاثة متباينة في الدلالة، ويبدو ان هذا المنحى كان ديدناً لدى خطاطي تلك الحقبة من خلال استهدافهم إظهار التجويد الخطي واظهاره بأبهى صوره دون الالتفات إلى تكامل دلالات النصوص بعضها بالبعض الآخر.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق