قال تعالى ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).. من هذه الكلمات التامات ومن هذا المنطلق الرائع يمكن للمرء ان يدرك مرتسم القباب الاسلامية الدائرية الشكل حين النظر اليها وتأمل جمالها ببهجة وسرور.. والتي تعلو الأضرحة المقدسة للائمة الاطهار والمساجد في البلاد الاسلامية.. فمن هنا يبدو ان الفنان المسلم قد بدأ .
ان للقباب الاسلامية تأريخ يرتبط بفترة ما قبل الحضارة الاسلامية، فتاريخ انشاء القباب الأولى يرجع إلى العهد الآشوري في بلاد ما بين النهرين كما تشير اغلب الدلائل التاريخية ، والتي وصلتنا على شكل رسوم مبسطة مسجلة على جدران اطلال ابنيتهم.. ال ان بعض الامثلة الاخرى للقباب يعود بها التأريخ الحضارة الرومانية حيث انتشار القباب بشكل واسع في عمائرها، ثم أقتبسها الفنان المسلم حين تعرضه اليها ووظفها بهويته الدينية المميزة لتلعب دورا بارزا في العمارة العربية الإسلامية، مميزا بها الأضرحة الدينية والمساجد وبعض من المدارس والبيوتات القديمة .
لم تكن القباب في العمارة الإسلامية حلا بيئيا ومناخيا وزخرفيا يكمل جمالية المبنى فحسب، بل هي أيضا تعتبر هدفا رمزيا مهما في حياة المسلم، حيث ترمز إلى عقيدته الدينية المتمثلة بالسماء ورافعها والارتباط بها وعدم الانفصال عنها وعن الخالق جل وعلا، خاصة في المناطق المسقوفة من المسجد المتمثل بباطن القبة.
فلو اردنا ان نتأمل القطاع الدائري الذي تقام عليه القباب لوجدنا في الوهلة الاولى ان هذا النظام مشتق اصلاً من الوحدات الزخرفية الهندسية التي تمتاز بوحدة التوزيع بشكل او بآخر، انطلاقاً من مركز اشعاعي كما هو في نظرية الفيض الالهي التي اعتمدها بعض منظري الاسلام.. حيث يكون الاشعاع منطلقاً من المركز الذي يعد اكثر امتلاء في التوزيع العادل.. أي ان شكل القبة ومركزها تكون اقرب نظرياً من الكعبة الشريفة المحاطة بجموع الحجيج وصفوف المصلين المنتظمة من حولها، وايضاً يرجعنا هذا النظام التعاقبي حين تأمله عن كثب الى الحركة الكونية وتعاقب الليل والنهار فيزرع فينا شعوراً بآيات ملهمة للساعين الى ذكر الله والتفكر بقدرته.. مما يمنحنا احساس مطلق بديمومة وعظمة الخالق الواحد الاحد.
فهذا النظام لا محال يتسم بالإتقان العالي مما يمنحه وحدة نسيجية عضوية استثنائية.. فأجزاء القبة تكمل احداها الاخرى مكونة بنية موحدة ذات نظام يوحي بالتكاملية التي لا ينقصها شيء ولا تفيض عن عبث، فما خلق الله هذا باطلاً سبحانه...
ان القباب بشكلها الإسلامي جاءت لتعَّبر بشكل واضح عن مدى أمكانية الفنان المسلم في الولوج الى المناطق الإبداعية الفنية.. وفي عملية خرق للذائقة العامة لدى المسلمين في جعل القبة بمثل هكذا نوع معماري، الا أن التشاكل قد جاء من خلال الوظيفة النفعية لأشكالها، فالقباب التي ترتفع فوق المراقد المقدسة لأهل البيت "عليهم السلام " هي قباب متشابهة الاشكال عادة الا انها مختلفة في بعض المواطن.. فمنها ما تكون بيضوية الشكل او بصلية او نصف اهليجية وكل قبة منها تختص بالمكان الذي ارتفعت فيه، وهي بمجمل اشكالها ترتكز على جزء اسطواني غير عريض، وتتكون في الغالب من جزأين من البناء داخلي ذي قوام من الاجر المفخور، وآخر خارجي مرصوف بالواح من الذهب البراق لترتفع القبة وتتماهى الى الأعلى في كبد السماء خالقة لنا صورة جمالية من الألوان المتناغمة للون الذهبي الأصفر في فضاء سماوي، حيث الفضاء المفتوح على كل الجهات.. ويقع بين جزئي القبة سلم للصعود الى اعلى القبة، فضلا عن وجود باب او اكثر في كل قبة وبعض من الشبابيك المزخرفة للإنارة والتهوية كما في قباب الاضرحة الشريفة لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب وولديه الحسين وابي الفضل العباس عليهم السلام، والتي احيطت ببعض الشبابيك المختلفة الاحجام والهيئات لتحيط بعنق القبة واسفل الاشرطة الكتابية المزينة لعنق كل قبة منها .
اما الجزء الاعلى المدبب فيكون عادة على شكل اقرب للكرة المعدنية، وقد يكون ذا كؤوس مختلفة الحجم ومتراصفة فوق بعضها البعض او بشكل نجمي كما في قبة الامام علي في النجف الاشرف او قبة المرقد الزينبي في الشام، ويكون هذا الجزء من القبة مصنوع عادة من الذهب او غيره من المعادن الثمينة ليبقى مع اجزاء القبة يتلألأ مع الضوء ليل نهار..
اما الجزء الاسطواني من القباب فقد جرت العادة عند الفنان المسلم ان يكون فيه حزام من الخط الجميل المنقوش على صفائح من الكاشي الكربلائي ذي الارضية الزرقاء او صفائح من الذهب، والذي يزين عادة بالآيات القرآنية .
ان النظم الجمالية واللغة الفنية الروحية التي تنطق بها منجزات الفنان المسلم تعطي انطباعاً لدى المشاهد- بغض النظر عن ديانته ومعتقداته – بالاستقرار والسكينة، بعيداً عن فوضى الواقع المعاش واحتدامية ظروف حياته الصعبة، وذلك ينعكس ايجاباً على نفس المشاهد ويزرع فيها السكينة والاطمئنان ويسلم بها امره الى الله تعالى.. فالمسلم المؤمن على دراية بالتزاماته السلوكية والايمانية طبقاً لعقيدته الدينية التي اثارها الفنان المسلم في اعماله الفنية وبالخصوص القباب الذهبية لأضرحة الائمة الأطهار الملامسة للروح.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق