يتضح لنا من مناجاة امير المؤمنين علي "عليه السلام" في دعاء كميل مع ربه، كأنه يريد أن يذوب في حب الله " جَلَّ ثناؤه "، اذ يطلب "عليه السلام" من الله سبحانه وتعالى، أن يجعل كلّ أوقاته عامرة بذكره وخدمته قائلا" حتى تكون أعمالي وأورادي كلّها وِرْداً واحداً، وحالي في خدمتك سرمداً"، ثم يؤكد في طلبه أن يعطيه القوة حتى يخدم بها الله" جَلَّ ثناؤه " قائلا : "قوِّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوانحي، وهب لي الجدّ في خشيتك، والدّوام في الاتصال بخدمتك"
وانطلاقاً من ذلك، في التّاسع عشر من شهر رمضان المبارك، وفي محراب مسجد الكوفة، ضرب عبد الرحمن بن ملجم أمير المؤمنين علي "عليه السلام "، وهو يصلّي في محرابه. وبقي امير المؤمنين ثلاثة أيّام وهو يعاني من جرحه، وقد أراد الإمام في هذه الأيام الثلاثة أن لا يحرم أمته من وصاياه، في وصيّته التّي أوصى بها "عليه السلام" سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين "عليهما السلام" قائلا :" أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإنْ بغتكما ولا تأسفا على شئ منها زوي عنكما " [1]، يتبين من وصية امير المؤمنين "عليه السلام" للإمامين الحسن والحسين عليكما أن لا تغفلا عن الله في كلّ شيء، وأن لا تطلبا الدنيا حتى لو جاءت الدنيا لتقديم نفسها إليكما.
اما المبدأ الثاني للوصية هو "وقولا بالحق" اي على الانسان أن يتكلم ويلتزم بالحقّ والصدق، وان لا يتحدث ويلتزم الباطل والكذب في اي موقع من المواقع. وعندما نقرأ سيرة امير المؤمنين علي "عليه السلام" يتبين لنا من قوله "ما ترك لي الحق من صديق"[2]، وقد ورد عن النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" في تأكيده علاقة علي بن ابي طالب "عليه السلام" بالحق، اذ قال "صلى الله عليه واله" :"علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار"[3] يبدو من ذلك ،ان نبحث عن الحق أينما هو، وأن لا نصدر حكماً او نتبنى موقفاً في أي جانب كان، إلاّ إذا عرفنا أنّه الحقّ.
اما المبدأ الثالث هو "واعملا للأجر" أي يجب على الإنسان أن يفكّر هل ان كلّ عمل من الأعمال فيه أجر من الله "جَلَّ ثناؤه" على هذا العمل، ويتضح من الوصية ان امير المؤمنين يريد من الانسان ان يفكر برضا الله " جَلَّ ثناؤهُ "، وأن يفكّر بثواب الله تعالى.
بينما المبدأ الرابع الا وهو" كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً" [4] يتبين من هذا المبدأ ان يحدد الانسان في مستوى الحياة الاجتماعية، من هو الظالم ومن هو المظلوم، وذلك بالتدقيق في ما يعمله هذا ويعمله ذاك، لا أن يكون تحديدنا للظالم والمظلوم منطلقاً من الكلمات غير الموثوقة، أو من القضايا الّتي تحمل أكثر من وجه، بل أن نحدد الظالم من موقع اليقين و الثقة والاطمئنان حتى نواجهه.
اما المبدأ الخامس هو "أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم"[5] إنّ أمير المؤمنين في وصيّته لم يخصّ أحداً دون أحد, فقد وجّهها أوّلاً إلى ولديه "عليهما السلام" وعبرهما إلى كلّ من يبلغه كتابه هذا، وهذا يعني نحن معنيّون بهذه الوصية، وعلى الانسان أن يتحمّل مسؤوليته في تطبيق هذه الوصيّة، على واقعه وعلى واقع النّاس من حول، وذلك يكون بتقوى الله هي الأساس، لأنّ تقوى الله هي وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه، أي كلما استحضرنا وجود الله أكثر كلما ضبطنا مواقع خطواتنا في الحياة أكثر.
نستنتج من وصية امير المؤمنين "عليه السلام" ان انتماءنا للأمام علي بن ابي طالب "عليه السلام" يفرض علينا أن نكون الصادقين والأمناء، وأن نكون المحقّين والذين يتحرّكون مع أهل الحق، فأمير المؤمنين علي ليس كلمةً نهتف بها، بل هو موقف ورسالة، يجب علينا أن نلتزمها ونتبعها. واذا كنا مع الامام علي بن ابي طالب فلا بدّ من أن نواجه الباطل كله، كما واجه "عليه السلام" الباطل كله.
جعفر رمضان
[1] نهج البلاغة - خطب الإمام علي ، ج ٣ ، ص٧٦
[2] محي الدين ابن عربي، مجموعة رسائل ابن عربي، تحقيق: قاسم محمد عباس وحسين محمد، ،(ابو ظبي، منشورات المجمع الثقافي،1998)، ص138
[3] أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي ، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، تحقيق : حسام الدين القدسي ،( القاهرة: مكتبة القدسي، 1994)، ج7، ص235.
[4] محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (طهران: احياء الكتب الإسلامية)، ج42، ص245.
[5] محمد الريشهري، ميزان الحكمة (قم: دار الحديث، 1422ه)، ج ٤ ،ص ٣٥٣٩
اترك تعليق