ارتفعت في هذا البيت قامات كبيرة وسامقة في سماء المجد والبطولة والشجاعة والشرف والإيمان، هم أبناء مسعود الذين كان لهم تاريخ مشرق ومشرّف في الإسلام جسد عميق إيمانهم ورسوخ عقيدتهم بمبادئ الإسلام المحمدي الأصيل ومنهج أهل البيت (عليهم السلام)، فسطّر أولئك الرجال الأفذاذ صفحات رائعة من البطولة في الدفاع عن الحق.
هم عروة, وأبو عبيد، وسعد، والحكم أبناء مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف بن منبه بن يعلى الثقفي، من أبطال التاريخ الإسلامي وشخصياته العظيمة الذين أشاح المؤرخون عنهم بسبب انتمائهم لمدرسة الإسلام السماوية الحقة التي أرسى قواعدها الرسول الكريم محمد (ص) وبسبب مبدئيتهم ويقينهم وتصديقهم بما جاءت به الشريعة الغرّاء من مفاهيم إنسانية وتمسكهم بأهل البيت (ع) فلم يحرّفوا ولم ينحرفوا ولم تجرفهم الأهواء والمغريات السلطوية.
كما أن هناك عاملاً مهماً جعل المؤرخين يشيحون بوجوههم عن هذه الشخصيات الفذّة، إذ أن أحد هؤلاء الرجال الأربعة هو والد البطل الثائر الشيعي المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهو أبو عبيد أما الثلاثة الباقون فهم أعمامه، فلو كانت نسبتهم هذه لأحد الخلفاء لأقام المؤرخون والمؤلفون الدنيا ولم يقعدوها.
عروة بن مسعود الثقفي
وهو الصحابي الجليل عروة بن مسعود الثقفي زعيم ثقيف في زمانه وأحد وجوه العرب، وكانت له الكثير من المأثر والمناقب، وهو أحد العظيمين من القريتين في قوله تعالى من سورة الزخرف (الآية31): (وقالوا لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم).
قال الطبرسي في مجمع البيان في تفسير القرآن في تفسير هذه الآية: (هما الوليد بن المغيرة المخزومي عظيم مكة وأبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي عظيم الطائف، وإنما قالوا ذلك لأن الرجلين كانا عظيمي قومهما، وذوي الأموال الجسيمة فيهما، فدخلت الشبهة عليهم حتى اعتقدوا أن من كان كذلك كان أولى بالنبوة).
ولكن شتّان ما بين هذين العظيمين، فالأول هو الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رأس الكفر وعظيم النفاق ومن ألد أعداء رسول الله (ص) حتى قيل: إنه ما نزلت آية في الكفار إلا وكان رأسها الوليد بن المغيرة.
أما العظيم الثاني فقد كان عظيماً بحق، عظيماً في نفسه، وعظيماً في إيمانه، وعظيماً في ثباته ومبدئه، وقد تعددت جوانب عظمته حتى آخر حياته، فكان عظيماً في استشهاده أيضاً، ذلك هو عروة بن مسعود الثقفي.
ومن مآثر عروة قبل إسلامه أنه حقن دماء بني ثقيف وبني مالك بعد أن كادت الحرب تقع بينهم بسبب المغيرة بن شعبة الذي قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك غدراً وهم نائمون وسلبهم أموالهم، فاصطف الفريقان للقتال، ولكن حكمة عروة وهيبته حالت دون وقوع الحرب بعد أن أدى دية القتلى وأصلح بين القومين في قصة مشهورة، فقال الأعشى فيها يمدح عروة:
تحمّل عروةُ الأحلافَ لما *** رأى أمراً تضيقُ به الصدورُ
ثلاثُ مئينَ عــــادية وألفاً *** كذلكَ يفعــــــل الجلدُ الصبورُ
كما كان له دور في صلح الحديبية حيث قال لقريش عندما رجع من رسول الله (ص): (يا قوم: اقبلوا ما عرض عليكم فإني لكم ناصح، رجلٌ أتى هذا البيت معظماً له معه الهدي ينحره وينصرف).
عروة مثل صاحب ياسين
ولما غادر رسول الله (ص) الطائف تبعه عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأل رسول الله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له رسول الله: (إن فعلت فإنهم قاتلوك)، فكان كما قال (ص)، فلم يكن عروة يتوقع أن يصل بقومه الأمر إلى قتله وهو سيدهم، فقال له عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبصارهم، ورجع عروة إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، ولكنهم غضبوا منه وسبّوه، وأسمعوه ما يكره.
وفي فجر اليوم التالي صعد عروة فوق سطح بيته وأذن للصلاة، فخرجت إليه ثقيف، ورموه بالنبل من كل اتجاه، فأصابه سهم فوقع على الأرض، فحمله أهله إلى داره، وهناك قيل لعروة: ما ترى في دمك ؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فلما علم رسول الله (ص) بما حدث لعروة قال: (مَثَلُ عروة في قومه مَثَلُ صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه).
والجدير بالذكر أن عروة بن مسعود هو جد ليلى زوجة الإمام الحسين (ع) وأم ولده علي الأكبر الشهد يوم الطف، فهي ليلى بنت أبي مُرّة بن عروة بن مسعود الثقفي فأبو مرة والد ليلى والمختار ولدا عم.
سعد بن مسعود الثقفي
كان سعد من الصحابة الأجلاء ومن أصحاب الإمام أمير المؤمنين (ع) الأوفياء، وقد ولّاه على المدائن عندما سار إلى صفين وقد أثنى عليه في أكثر من موضع ووصفه بالتقوى والإيمان وطاعة الله فقال له (ع):
(أمّا بعد، فإنّك قد أدّيت خراجك، وأطعت ربّك، وأرضيت إمامك، فعل المبرّ التقيّ النجيب، فغفر اللَّه ذنبك، وتقبّل سعيك، وحسّن مآبك ) .
وقال له (ع) في موضع آخر:
(أمّا بعد، فقد وفّرت على المسلمين فيئهم وأطعت ربّك، ونصحت إمامك، فعل المتنزّه العفيف، فقد حمدت أمرك، ورضيت هديك، وأببت رشدك، غفر اللَّه لك، والسلام).
وهذه الأوسمة والشهادات العظيمة من أمير المؤمنين (ع) هي خير بيان وأوضح تعريف بهذا الرجل، وقد لجأ الإمام الحسن (ع) إلى سعد بن مسعود في المدائن بعد يوم ساباط بعد أن خذله الناس وغدروا به، فلجأ إلى سعد لشدة ثقته به وولائه لأهل البيت.
أبو عبيدة .. والد المختار
لو لم يكن هذا القائد العظيم والبطل الإسلامي شيعياً، ولم يكن أباً للمختار لما ناله هذا العقوق والإجحاف والتغاضي من قبل المؤرخين والمؤلفين، ولكان اسمه الآن يبزّ الأسماء التي وضع لها المؤرخون هالة من التزويق والبطولات المصطنعة فتصدّرت التاريخ المزيف الذي وضعه سماسرة السلطة.
لو كان التاريخ منصفاً ولم يسيّسه مؤرخو السلطة لأهوائهم ونزعاتهم الشخصية وتوجهاتهم المذهبية، ولم يتخذوه وسيلة للتزلف لحكام الجور فصنعوا بذلك بطولات مزيّفة وفضائل مصطنعة لأراذل الخلق من أشباه معاوية, وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد. لو كان التاريخ ينطق بالحقيقة، لكان لدينا الآن بطل حقيقي، بطل في لهوات الحرب وليس في الفرار والانسحاب، وقتل الأسرى واغتصاب وسبي وترويع النساء، وخطف الأطفال وبيعهم في أسواق النخاسة، بطل صنع بيديه مجده وخلوده وليس من نسج أولئك الذين يطبلون لهم ببطولات مزيفة في الكتب والتواريخ والفضائيات، وهذا البطل الحقيقي هو القائد أبو عبيد الثقفي والد الثائر البطل المختار بن أبي عبيد.
لقد كان أبو عبيدة قائداً بطلاً يقاتل من أجل الإسلام والأمة وليس من أجل السلطة والغنائم والمآرب الدنيوية، كما هو شأن من يتصدرون عناوين التاريخ السلطوي، كان أبو عبيدة بطلاً يحق للأمة أن تفخر به كما تفتخر الأمم بقادتها وأبطالها الحقيقيين وليس بالقادة الانتهازيين الجبناء كخالد بن الوليد والمثنى بن حارثة وعمرو بن العاص وأشباههم الذين إذا رأوا الهيمنة على العدو بدأت بطولاتهم بقتل الأسرى واغتصاب النساء وجمع الغنائم وإذا هيمن العدو عليهم لاذوا بالفرار.
ما يدل على تشيّعه
رغم أن التاريخ لم يذكر لأبي عبيد شيئاً أثناء أحداث السقيفة لتحديد توجهه لأنه كان في الطائف، غير أن ما يدل على تشيّعه هو ابنه المختار الذي نشأ شيعياً منذ نعومة أظفاره، وكان موالياً للإمام علي (ع) منذ طفولته.
فمن زرع فيه هذا الولاء والتشيّع ؟
كما أن هناك رواية تقول بأن أبا عبيدة جاء بابنه المختار وهو صبي إلى أمير المؤمنين (ع) فأجلسه في حجره ومسح رأسه وهو يقول: يا كيّس يا كيّس. وظاهر الرواية يدل على أن أبا عبيدة كانت تربطه علاقة طيبة مع أمير المؤمنين (ع) في حياة النبي (ص).
ثم إن أخوه سعد بن مسعود كان من وجوه الشيعة ومن أصحاب أمير المؤمنين المخلصين وقد ذكرنا آنفاً ما قال أمير المؤمنين (ع) في حقه وهو ما يؤيد ولاء أبي عبيد لأمير المؤمنين.
بطل معركة الجسر
كانت معركة الجسر في (23 شعبان) (سنة 13هـ/634م) بقيادة أبي عبيدة بن مسعود الثقفي مع الفرس على شاطئ الفرات بالقرب من الكوفة، وكان أبو عبيدة قد وصل إلى العراق في (3 شعبان)، فخاض أولى حروبه في (8 شعبان) وهي معركة النمارق، فانتصر بها على الفرس ثم أرسل رستم القائد (نورسي) إلى (السقاطية) ولكن أبا عبيدة لم يمهله حتى قضى عليه في (12 شعبان) وبعدها بخمسة أيام تقدم أبو عبيد إلى (باقسياثا) بالقرب من بابل وانتصر على الجيوش الفارسية بقيادة الجالينوس وهو من كبار قادة الفُرس، وكان رستم قد أرسله أيضاً بعد هزيمة الفرس في النمارق والسقاطية فانتصر أبو عبيدة عليه أيضاً في (17 شعبان)، ثم أقام أبو عبيدة بجيشه في الحيرة، وأخذ يدبر الأمر ويوزع الحاميات، واتخذ الحيرة مركزاً له.
وقد أذهل أبو عبيدة القادة الفرس بهذه الانتصارات فأصابت رستم الحيرة والدهشة والذهول وهو يرى أبا عبيدة ينتصر انتصاراً ساحقاً في ثلاث حروب متتالية في ظرف اسبوعين.
صمم رستم على القضاء على أبي عبيدة وكان يفكر في التخلص منه والقضاء عليه قضاءً مبرماً، فكان يمتحن قادته في مدى ولائهم وشدتهم على العدو فأعد العدة للحرب وقال: (من أشدّ الفُرس على العرب ؟) فقالوا له: (بهمن جاذويه) فقال: (إذن هو القائد)، وكان بهمن هذا أحد كبار قادة الفُرس، ولم يشترك في الحروب مع المسلمين حتى هذه اللحظة.
وبذلك أعطى رستم إمرة الجيوش الفارسية لهذا القائد وأعطاه أيضاً راية الفرس العظمى وكانت تُسمى (دارفن كابيان)، وكانت هذه الراية لا تخرج إلا مع الملوك، ولكنه أخرجها معه تحفيزاً لهذا الجيش وتشجيعاً له على حرب المسلمين، وسيّر رستم قائده بهمن مع جيش كبير يضم أكثر من (70 ألف) مقاتل، وأرسل مع هذا الجيش أكثر من عشرة أفيال.
لقد أعد رستم عدته للقضاء التام على أبي عبيدة فالقائد من أشد الناس على المسلمين، وتعداد الجيش يفوق جيش المسلمين بعشرة أضعاف، إضافة إلى رفده بالأفيال التي تثير الذعر والفزع للخيول فتنكص بالأعقاب على فوارسها وتحدث اضطراباً بالجيش الإسلامي.
وكان كسرى فارس في ذلك الوقت (بوران بنت كسرى)، وكانت سيدة حكيمة من أحكم سيدات فارس، ولم يكن عندهم حينئذ رجل من آل ساسان يُوكِلون إليه مُلك فارس، لأن (شيرويه) قد قتل كل رجال آل ساسان ليستأثر هو بالحكم، ولكنه قُتِل أيضاً، وآل المُلك إلى تلك المرأة بعد ذلك.
لقاء الجيشين
لما علم أبو عبيدة بتوجه هذا الجيش الفارسي الجرار لمحاربته توجه بجيشه الذي يضم ثمانية آلاف مقاتل إلى منطقة في شمال الحيرة تسمى (قِسّ النَّاطِف)، وعسكر بجيشه في هذه المنطقة في انتظار قدوم جيش الفرس، وعسكر الفرس على الجانب الآخر من نهر الفرات، وكان بين الشاطئين جسرٌ عائم أقامه الفرس في هذه الآونة للحرب، فأرسل بهمن جاذويه رسولاً إلى الجيش الإسلامي يقول له: (إمّا أن نعبر إليكم، وإمّا أن تعبروا إلينا).
فقال أبو عبيدة (والله لا أتركهم يعبرون ويقولون: إنا جَبُنَّا عن لقائهم). واجتمع رأي أصحابه على عدم العبور إلى الفرس: (وقالوا له: كيف تعبر إليهم وتقطع على نفسك خط الرجعة، فيكون الفرات من خلفك ؟!) فقال: (والله لا نكون عندهم جبناء).
لم يكن لأبي عبيدة رأي أو مبدأ سوى القتال فإمّا النصر وإمّا الشهادة، ولم يجعل في باله الفرار أو الرجوع، كان يقاتل لله وليس طمعاً في غنيمة أو شيء من هذا القبيل فلم يستمع للآراء المضادة.
عبور الجسر
وعبر الجيش الإسلامي الجسر لملاقاة جيش الفرس الذي تتقدمه الأفيال وعلى رأسها الفيل الأبيض وهو أشهر وأعظم أفيال الحرب، وهو بمثابة قائد الأفيال فإن تقدم تقدمت الأفيال وإن تراجع تراجعت، وهجم المسلمون ولكن الخيول عندما رأت الأفيال فزعت وهربت، مما أدى إلى تراجع المسلمين واضطراب الجيش حيث داهمت تلك الخيول مشاة المسلمين، ولم تفلح محاولات المسلمين لإجبار الخيول على الإقدام لعدم تمرُّسها على مواجهة الأفيال، فما هو موقف أبي عبيدة في تلك اللحظة الحرجة ؟.
لم ترهب تلك الأفيال أبا عبيدة وهو يرى تراجع المسلمين أمام الأفيال فقال: (لأقاتلنَّ حتى النهاية)، وكانت الأفيال تهاجم المسلمين بضراوة، ولما رأى أبو عبيدة أن الخيول بذعرها من الأفيال قد أصبحت سبباً في تشتت الجيش واضطرابه أمر أن يقاتل المسلمون وهم مشاة ويتخلوا عن الخيول، وأصبحوا يقاتلون جيشا مجهزاً بالأفيال وهم مشاة واشتدت المعركة غير المتكافئة بالعدة والعدد.
كان أبو عبيدة يشعر أن مهام القائد إزالة سبب الهزيمة في جيشه وعامل انتصار العدو، وكان ذلك في تلك المعركة هو الأفيال فقال: (دلّوني على مقتل الفيل)، فقال له المثنى بن حارثة: (يقتل من خرطومه)، فتقدم ناحية الفيل الأبيض بمفرده، فقالوا له: (يا أبا عبيدة، إنما تلقي بنفسك إلى التهلكة وأنت الأمير)، غير أن أبا عبيدة لم يلتفت لكلامهم وقال: (والله لا أتركه إما يقتلني وإما أقتله). وتوجه ناحية الفيل وقطع أحزمته التي يُحمل فوقها قائدُ الفيل، ووقع قائد الفيل فقتله أبو عبيدة، ثم بدأ بقتال الفيل الأبيض.
القتال حتى الشهادة
كان هذا الفيل العظيم الذي كان أبو عبيدة يقاتله مدرباً تدريباً عالياً على القتال، ولكنَّ أبا عبيد لم يتوانَ عن محاربته ومحاولة قتله، كان يريد قتله حتى وإن أدى ذلك إلى موته هو لكي ينتصر المسلمون، وعندما أحس بصعوبة الأمر أوصى من حوله: (إن أنا مِتُّ، فإمرة الجيش لفلان ثم لفلان ثم لفلان؛ ويعدد أسماء من يخلفونه في قيادة الجيش) !!
هذه هي القيادة الحقة التي تستحق التبجيل والاحترام، هذه هي الشجاعة الفائقة التي تستحق الإشادة والتعظيم.
لقد أراد أبو عبيدة أن يبقى الجيش مقاتلاً حتى آخر لحظة، فهو عندما يعلن أسماء القادة للجيش بعده فهو إنما يبذر فيهم الصلابة والاستبسال والبقاء في المعركة، وقد أوصى بقيادة الجيش بعده لابنه جبر بن أبي عبيد ثم لأخيه الحكم بن مسعود ثم لسبعة من قومه من بني ثقيف ولم يوص للمثنى كما أمره عمر بن الخطاب وواصل أبو عبيد قتاله مع الفيل وهو يحاول قطع خرطومه، لكن الفيل عاجله بضربة فوقع على الأرض، وهجم عليه الفيل وداسه بأقدامه الأماميتين فمزّق أحشاءه.
الأمراء السبعة
وتولى إمرة الجيش بعده مباشرة أول الأمراء السبعة الذين أوصى لهم أبو عبيد وهو ابنه جبر فحمل على الفُرس واستقتل حتى قتل، وفعل مثله عمه الحكم ثم الثالث والرابع وهكذا إلى السابع حتى استشهدوا جميعاً، وقد قتل في هذه المعركة ثلاثة من أولاد أبي عبيدة بن مسعود الثقفي كان أحدهم أميراً على الجيش وهو جبر كما قتل كذلك أخوه الحكم بن مسعود الثقفي، وكان أحد الأمراء على الجيش أيضاً، وبعد مقتل الثقفيين السبعة تولى إمرة الجيش المثنى بن حارثة.
الفرار من الحرب
بعد مقتا القادة السبعة بدأ بعض المسلمين بالفرار عن طريق الجسر إلى الناحية الأخرى من الفرات، فذهب عبد الله بن مرثد الثقفي وقطع الجسر بسيفه، قائلاً: (والله لا يفِرُّ المسلمون من المعركة، فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات عليه أميركم)، واستأنف عبد الله بقتال الفُرس وانضم إلى المسلمين، لكن هذا الموقف من عبد الله أغضب المثنى كثيرا وزاد من صعوبة الموقف عليه وعلى الجبناء من أمثاله فاستدعى عبد الله وضربه وشتمه وقال له: (ماذا فعلت بالمسلمين ؟ فقال: إني أردت ألا يفرَّ أحد من المعركة. فقال له المثنى : إن هذا ليس بفرار) !!.
ماذا يُسمى إذن أيها الأمير ؟ ماذا تُسمي الهرب من المعركة ؟ إنك للأسف لم تفطن إلى ما فطن إليه من جاؤوا بعدك ليزوّقوا لك فعلك وفعل زميلك في الفرار خالد بن الوليد وجمّلوه فأطلقوا عليه لفظة: (عملية الانسحاب)، فهي أخف وقعاً على القارئ من الهرب !!
لقد علِم أبو عبيدة إنك لست مؤهّلاً لقيادة جيش يقاتل في سبيل الله فلم يوصِ بقيادة الجيش إليك وأوصى لمن كان أهلاً للقيادة رغم أن عمر أوصى إليك بعده، وعلِم كذلك إنك ما قاتلت إلا من أجل الغنائم والمصالح الدنيوية فعهد بالإمارة إلى سبعة من أبنائه وأبناء قومه ولم يعهدها إليك.
إصلاح الجسر والهزيمة
أمر المثنى المسلمين بإصلاح الجسر ما استطاعوا، فبدأوا بإصلاح الجسر من جديد، وأخذ المثنى يقود فلوله نحو الهزيمة والفرار، وبعد أن عبر بالجيش إلى الضفة الأخرى قطع الجسر خوفاً من عبور الجيش الفارسي، كما لم يبقَ في الضفة الأخرى خوفاً من العدو، بل هرب بالجيش في عمق الصحراء لكي لا يعبر إليهم الفرس ويقضون عليه !!
الغريب أن كل من تناول هذه المعركة يُلقي باللوم على أبي عبيد القائد الشجاع ويقول: إن أبا عبيدة قد أخطأ في التعامل في الحرب بهذه الشجاعة الفائقة ويعتبرها إلقاء النفس في التهلكة !! ثم يقدم (نصيحته) و(خبرته العسكرية) في الحرب فيشير بضرورة الانسحاب كما فعل المثنى وخالد بن الوليد الذَين عُرفا بفرارهما من العدو في الكثير من المعارك منها مؤتة والمذار وهذه المعركة وغيرها !! فقالوا ما نصه:
(وإن كانت هذه شجاعة فائقة منه ــ أي من أبي عبيد ــ ، فإن الحروب كما تقوم على الشجاعة لا بد أن يكون هناك حكمة في التعامل مع الحدث، وهذا أيضاً من أخطاء أبي عبيدة، لأن أمير الجيش يجب أن يحافظ على نفسه، ليس حباً في الحياة ولكن حرصاً على جيشه وجنده في تلك الظروف، وليس الأمر شجاعة فحسب، ولأنه بمقتل الأمير تنهار معنويات الجيش، وتختل الكثير من موازينه، ومن الأخطاء أيضاً أن أبا عبيد أوصى بإمرة الجيش بعده لسبعة من ثقيف منهم ابنه وأخوه والثامن المثنى بن حارثة، وكان الأَولى أن يكون الأمير بعده مباشرة المثنى أو سليط بن قيس، كما أوصاه عمر بن الخطاب)!!
هكذا إذن هي الفتوحات اللا إسلامية التي طالما طبّلتم ونقّرتم لها وملأتم الدنيا بها ضجيجا وعربدتم بها عجيجا، فالقائد يجلس في برجه العاجي وفي معزل عن الجند فهو لا يقاتل، فإن رأى تمكين المسلمين من عدوهم بدأ قتاله مع الأسرى والنساء فيبدأ باختيار أجمل السبايا وأنفس الهدايا ليجعلها من نصيبه كما فعل خالد بن الوليد مع امرأة مالك بن نويرة، وإن رأى تمكين العدو لوى عنان جواده وأمر الجيش بالفرار أو للتجميل قليلاً كما تسمونها (الانسحاب) !!!
والأعجب من ذلك من يعد فرار المثنى فضيلة له وكان قد أدى بفراره (دوراً عظيماً) في المعركة: (وبدأ المثنى يقود إحدى العمليات الصعبة، وهي عملية انسحاب في هذا المكان الضيِّق أمام القوات الفارسية) !!!
ما أصعب هذه المهمة التي لا يقدر عليها سوى (أبطال) الفرار والهزيمة أمثال خالد والمثنى الذي لولاه (لما كان لمن نجا أن ينجو من هذه المصيدة المحكمة التي أعدها الفُرس للمسلمين، وكان المثنى كفاءة حربية منقطعة النظير) !!
إنها كفاءة من نوع خاص لا يقدر عليها سوى (أبطالكم) أبطال الهزيمة ! فهي (كفاءة الفرار)، ولا يقوم بها سوى من تعوّد عليها حتى امتهنها وألبس الغزو وقتل الأسرى واغتصاب النساء والسرقة ثوب الجهاد في سبيل الله !!
ولا أدري أي كفاءة تلك التي يرى الإنسان فيها قائده يسقط شهيداً في أرض المعركة مع الكثير من الجنود الشجعان الذين ضحوا بدمائهم من أجل الدين ثم يلوذ بالفرار !!!
أي تزييف للحقيقة أكبر من هذا التزييف ؟ وأي تشويه للتاريخ أكبر من هذه المقارنة عندما يُفضّل الجُبن والفرار من لقاء العدو على القتال بشجاعة وإيمان وصلابة ؟ والأنكى من ذلك هو تزويق عملية الفرار بالانسحاب، ولكونها عملية صعبة فقد قام بها قائد عظيم كالمثنى !!!
وإذا لم تكن هذه العملية فراراً فلم لم يُعلن عبد الله بن زيد الذي أرسله المثنى إلى عمر بن الخطاب بأخبار المعركة جهراً على المسلمين وأخبر عمر بذلك سراً وهمس في أذنه خجلا من الناس ؟
إذا لم يكن فراراً لِمَ عاد (المنسحبون) ـ كما جمّلتم هروبهم ـ إلى المدينة وهم يبكون أشد البكاء ويشعرون بالخزي والعار ووصفتهم التواريخ بما نصه: (ويأتي بعد ذلك إلى المدينة الفارون والهاربون من المعركة وهم يبكون أشد البكاء، يقولون: (كيف نهرب؟! وكيف نفر؟!) ؟
إذا لم يكن فراراً فلِمَ كان معاذ القارئ وكان أحد الذين فرّوا من هذه المعركة، وكان يؤم المسلمين في التراويح، فكان كلما قرأ آيات الفرار من الزحف يبكي وهو يصلي ويؤنبه ضميره ويعترف بلسانه بالفرار ؟
وإذا كان على أمير الجيش أن يحافظ على نفسه، ليس حباً في الحياة ولكن حرصاً على جيشه وجنده في تلك الظروف كما قلتم، فلِمَ كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أول من يبرز إلى الحرب في الجمل وصفين والنهروان وهو خليفة وليس أميراً على جيش فقط ؟
فهل كان غير حريص على جيشه ؟ أم إنه أخطأ وأصبتم أنتم ؟ !!! (أعوذ بالله وحاشا لله).
وإذا كان أبو عبيدة قد أخطأ في قتاله بتلك الشجاعة فقد أخطأ أيضاً جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة الأمراء الثلاثة في معركة مؤتة، عندما قاتلوا جيشاً يفوق عدد جيشهم بأكثر من ثلاثين مرة !! فقد كان تعداد جيش المسلمين في تلك المعركة ثلاثة آلاف فقط وتعداد جيش الروم مائة ألف، كما كانوا يفوقونهم في العدة والسلاح والتنظيم، فهل أخطأ رسول الله عندما أرسلهم لقتال ذلك الجيش (أستغفر الله).
وفي تلك المعركة (مؤتة) كانت (المهمة الصعبة) في الفرار قد قام بها بطل الفرار خالد بن الوليد.
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق