(اَللّهُمَّ اجْعَل لي فيهِ نَصيباً مِن رَحمَتِكَ الواسِعَةِ، وَاهْدِني فيهِ لِبَراهينِكَ السّاطِعَةِ، وَخُذْ بِناصِيَتي إلى مَرْضاتِكَ الجامِعَةِ بِمَحَبَّتِكَ يا اَمَلَ المُشتاقينَ)
الرحمة
وهي من الصفات الفعلية للخالق عز وجل ، وذكرت عشرات المرات في القرآن الكريم، ووردت بعدة ألفاظ، منها (رحمة) و (الرحمن) و (الرحيم)، قال تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهذه الآية ذكرت في القران الكريم (114)، وتضمنت صفة الرحمة بلفظين من إسم المبالغة، أي كثير الرحمة، ولكن لماذا خصصت الرحمة في البسملة؟ ولماذا وردت بصيغتين؟.
فجواب الأول: فقد ورد عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله (إن الله تعالى خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض، فأهبط رحمة منها إلى الأرض فبها تراحم الخلق ، وبها تعطف الوالدة على ولدها، وبها تشرب الطير والوحوش من الماء ، وبها تعيش الخلائق)[كنز العمال – ١٠٤٦٤]، فصريح هذه الحديث الشريف أن أصل الخلق وأصل الوجود مبتني على الرحمة؛ فلذا خصصت في البسلمة، وكذلك ليتعلم العباد أن الرحمة أساس كل شيء، وليس الغضب والعقوبة. فتأمل
أما جواب الثاني: قد ذكرت الرحمة بصيغتين لبيان عظمة الرحمة الآلهية وكذلك لبيان التخصيص في الرحمة، فقد روى أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام ،قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ تَفْسِيرِ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قَالَ: (... الرَّحْمَنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَالرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً)[البرهان ج1 ص102]. فإذن الرحمة الآلهية عامة وخاصة، وحتماً الخاصة أفضل من العامة لأن للمؤمنين حصراً.
الرحمة الواسعة
لماذا قال (اَللّهُمَّ اجْعَل لي فيهِ نَصيباً مِن رَحمَتِكَ الواسِعَةِ)؟ ألا يفترض بالمؤمن أن يقول من رحمتك الخاصة؟ لأن العامة قد شملته سواء كان مؤمناً أم لا، وهل الرحمة الواسعة تعني نفس الرحمة العامة؟
جوابه: أن الرحمة تارة ينظر لها من جهة المخلوق، وتارة أخرى ينظر لها من جهة الخالق، فالرحمة العامة والخاصة ناظرة إلى جهة المخلوقات في إستحقاقهم للرحمة، أما الرحمة الواسعة فهي ناظرة إلى جهة الخالق وعظم رحمته، كما في قوله تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)[غافر – 7]، وكذلك في قوله تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)[الأنعام – 147]، ففي هاتين الآيتين ذكرت الرحمة وسعتها بالنظر إلى الخالق بغض النظر عن تفصيلها على المخلوقات.
وأيضاً في تخصيص الرحمة بالمؤمنين تعني أن نصيبهم من الرحمة أوسع، بخلاف العامة فنصيبهم منها أقل، فلذا العبد يطلب في هذا الدعاء أن يجعل له نصيب من الرحمة الواسعة. أي يكون من أهل الرحمة الخاصة. والأمر بحاجة إلى قليل من التأمل.
(وَاهْدِني فيهِ لِبَراهينِكَ السّاطِعَةِ)
الهداية معناها الإيصال إلى المطلوب، والبرهان هو الحجة البينة الفاصلة، والسطوع هنا هو الظهور في غاية الوضوح، فيكون المعنى : اللهم أوصلني ودلني على حججك البينة الفاصلة الظاهرة بوضوح.
فما هي الحجة البينة التي يريد المؤمن الوصول إليها؟
قال تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)[الأنعام – 149]، توضح رواية الإمام الصادق عليه السلام معنى الحجة البالغة أي البينة الظاهرة التي لا تقبل النقاش فيها، قال عليه السلام : (الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ:اَلَّتِي تَبْلُغُ الْجَاهِلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَعْلَمُهَا بِجَهْلِهِ كَمَا يَعْلَمُهَا الْعَالِمُ بِعِلْمِهِ،لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمُ وَ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَ أَحَداً إِلاَّ بِحُجَّةٍ) [تفسير البرهان ج2 ص 492]، فلا يمكن أن ينكرها أحد، ولكن هذه الرواية لم تجب عن ما هي الحجة البينة التي يريد المؤمن الوصول إليها؟ لإن في الرواية السابقة المؤمن وغير المؤمن يصل إلي تلك الحجة
؛ بل حتى الكافر، نعم في رواية أخرى أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام نجد الجواب الشافي، قَالَ عليه السلام : (نَحْنُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى مَنْ دُونَ السَّمَاءِ وَ فَوْقَ الْأَرْضِ)[تفسير البرهان ج2 ص 492]، نعم المؤمن الحقيقي يطلب الوصول إلى أهل بيت الرحمة ليكون مشمولاً بالرحمة الخاصة ويزداد نصيباً منها، فالذي يظهر أن المقطع الأول مرتبط بهذا المقطع، فالحصول على نصيب من رحمة الله عز وجل هو عن طريق الوصول إلى أهل بيت الرحمة صلوات الله عليهم أجمعين.
(وَخُذْ بِناصِيَتي إلى مَرْضاتِكَ الجامِعَةِ)
الناصية هي مقدمة الرأس، وقد ذكرنا سابقاً في دعاء اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك أن الوصول إلى مرضاة الله عز وجل لا يكون إلا من خلال المعرفة الحقة وهي لا تكون إلا عن طريق وطريقة أهل البيت عليهم السلام، ولكن في دعاء هذا اليوم العبد يطلب من الله عز وجل أن يأخذه هو إلى مرضاته فالعبد عادة يقصر أو يعجز عن الحصول على مرضاة الله؛ بل أحياناً يغفل عن مرضاة الله وهي قربه، وأيضاً قد خصص المرضاة بوصفها بالجامعة، ففيها إحتمالان : الأول: تعني الشاملة وهذا واضح، الثاني: الجامعة بمعنى الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق، والظاهر أن الثاني هو المراد؛ لما ذكر من (خذ بناصيتي) أي خذ برأسي وقيده بمرضاتك كما يفعل بالأسارى، وما أجمله من معنى يطلب العبد من الخلاق أن يكون أسير مرضاته. حقاً لهو معنى تخشع له القلوب وتدمع منه العيون.
والذي يزيد المعنى جمالاً أن طلب العبد أن يكون أسيراً في مرضاة الله هو بداعي الحب والشوق، قائلاً: (بِمَحَبَّتِكَ يا اَمَلَ المُشتاقينَ).
فالخلاصة:
أن أصل الوجود مبتني على الرحمة الآلهية، وهي على قسمين عامة لجميع الخلق، وخاصة بالمؤمنين. أن الرحمة الواسعة هي الرحمة الخاصة. أن المؤمن يطلب الوصول إلى أهل البيت عليهم السلام لأنهم باب رحمة الله الواسعة، كما نسمع بإستمرار خطباء المنبر الحسيني عندما يسلمون على سيد الشهداء عليه السلام ينادونه (يا رحمة الله الواسعة وباب نجاة الأمة). أن العبد يطلب أن يصبح أسيراً في مرضاة الله عز وجل؛ بل ويستشعر الحب بذلك.
إبراهيم السنجري
مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي
اترك تعليق