فضاءات مغرية للعين.. تنطق بمفردات لونية تفصح عن أسرار أصولها وقوتها من خلال حالة الحوار المستفيض بينها.. فهي قادرة على أن تقبض على أذهان كل من يتأملها وتستوقف الاعين لفترات للولوج اليها وتأمل تفاصيلها وتفهم أعماقها الناطقة بمنهج الفنان ومرجعياته الفكرية والحضارية.
اللوحة اعلاه تحمل توقيع الفنان التشكيلي والباحث العراقي عزام البزاز، وهي تحمل في طياتها خلاصة رائعة لمسيرته الفنية التي امتدت على مدى ما يقارب النصف قرن من البحث في الخطوط والأشكال الهندسية والتقنيات المختلفة وقيم الألوان الرائعة.
اقام الفنان والباحث عزام البزاز منذ بداياته الفنية عشرات المعارض الفنية الفردية والجماعية وعلى المستويات المحلية والعربية والعالمية.. وقد تميزت اغلب اعماله الفنية بالاعتماد المفرط على تصوير المرأة والسلام والجمال واعتبار هذه العناصر الثلاثة هي المثلث المثالي الذي يقوم عليه معمار ابداعاته الفنية بشكل خاص، اضافة الى اسلوبه المميز باستعارة الرمزيات الحضارية والتراثية وتركيزه على شكل الحمامة البيضاء واغناء العمل الفني بالأبواب والجدران والمنقوشة والمستعارة من النفائس البابلية.
تصف اللوحة اعلاه كتلتين لونيتين متناظرتين في المكان، تشغلان مساحة اللوحة طولياً، ليؤسسن موضوعاً تعبيرياً من خلال الوانهما المختلفة واشكالهما القريبة من شكل المسلات البابلية القديمة وتعلوهما اشكالاً حيوانية للحمائم البيضاء الدالة على السلام .. وكأن الفنان يعلن من خلالها عن مفتاح الخير والحياة والعطاء، لتتوالد هذه العناصر من بعضها البعض وتتعانق داخل هذه التشكيلات اللونية الرائعة لتخبر المتلقي بما تنطق به اللوحة وبشكل صريح .
عالج الفنان في هذا العمل الفني الشكل بواسطة الفضاء و الكتل اللونية من خلال الاعتماد عليها في دفع آلية الابتعاد عن المنظور عن المعالجات الأكاديمية اضافة الى تجاهله لأسس التشريح في صياغة الاشكال المتمثلة بالطيور البيضاء ، حيث انه وضع حدود الاشكال بخطوط حادة وقوية مستخدماً تقنية تقترب من تقنية الفنان (جاكسون بولوك) في وضع الألوان على سطح اللوحة ليؤسس من خلاله الدوافع التعبيرية التي تحرك اشتغالاته وفقاً لمدركات حسية، فالخط واللون هما العلامتان البنائيتان اللتان تشكلان بنية الشكل العام المميز بخليط من الالوان الحارة والباردة والخلفية التي تحيلنا إلى وجود السماء بلونها وتدفع بالتالي بالأشكال المموه بالألوان إلى حالة الكل المؤلف من عدة أجزاء لتنشيط التعبير باعتباره سمة تقرب الاشتغالات الفطرية باعتمادها على الخيال.. فالتعبير كما هو متعارف عليه تدركه العين على نحو ما وبشكل متفاوت بين متلق وآخر.
وتأسيساً على ذلك يكون العمل الفني لدى البزاز تنظيماً لعناصر داخلية تدفع به إلى استخدامات ظاهرة ما على نحوٍ يؤكد حضور التقنية باعتبارها مشغلاً أساسياً وعنصراً مهماً لعملية البناء، إذ تبدو المساحة التي تشغل الكتل اللونية وسط اللوحة ذات مثيرات مصطنعة أبعدت القارئ عن واقع الحضور الحقيقي للأشكال فالمتعرض لها لا يميز منها سوى بعض التكوينات اللونية الرمزية الدالة على بعض الالوان والاشكال التراثية التي تشغل مخيلة الفنان او القارئ .. وبذلك تأكدت لنا الطبيعة الانفعالية التي أسس لها وجود الخط بهذه الصيغة المركبة مع التقنية حيث أهمل الفنان هنا الطبيعة المعرفية للأشكال بعينها وعمد الى التشديد من ضرورة تفاعل الاستجابات الفردية والجمعية وبقاء العمل الفني متمتعاً بنمط من الإدراك والمفاهيم، وفقاً لتنشيط المخططات التلقائية وحضورها في التكوين العام للعمل الفني .
وبذلك تتأكد الدوافع المعرفية للمضمون في هذا العمل من خلال اشتمال النشاط المعرفي على وسائل عديدة تلبي الخصائص الانفعالية وتشتمل على الربط بين الإحساس والانفعال من أجل دفع الاشكال هنا نحو واقعيتها من خلال عملية الاستدلال الفطري التي يمثل الأسلوب فيها مفهوماً جوهرياً لرسومات الفنان من خلال الأفكار ووسائل التعبير المختلفة.. حيث تكون الفطرية في النهاية هي صورة تحتوي على نماذج عديدة تؤكد الضرورة التي تدفع بالفن إلى اختزال الأسس الواقعية بالتحرر من سلطة العقل، وبالمحصلة ينشأ التحرر من التوترات الموجودة في عقولنا وافكارنا.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق