أجمعَ المؤرخون على أن أبا طالب بن عبد المطلب اعقبَ من الأولاد أربعة هُم: طالب وعقيل وجعفر وعلي وفي ذلك يقول الشاعر:
أقامَ عمـــــادَ العُلا سامكاً *** بأربــــــــعةٍ كالسنا الثاقبِ
بمثلِ (عليٍّ) إلى (جعفرٍ) *** ومثلِ (عقيلٍ) إلى (طالبِ)
أولئكَ لا إمــعات الرجال *** على راجــــلٍ ثم أو راكبِ
وقد أشار أكثر المؤرخين إلى أن أكبرهم في السن هو طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم علي واختلفوا في المدة التي ولد فيها كل واحد منهم, فقيل إن بين كل واحد من الأخوة وبين أخيه عشر سنين وإزاء ذلك لم يخفِ الجاحظ تعجّبه فيقول: (ان أربعة اخوة كان بين كل واحد منهم وبين اخيه في الميلاد عشر سنين سواء وهذا عجب), وقد خالف الشنتريني هذا الرأي فقال: (إنه قيل ولد مع أخيه علي (ع) توأماً وأورد في سياق حديثه عن عقيل قوله: زُوحمت حتى في الرحم (1)
وجميع أبناء أبي طالب لأم واحدة هي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية، وهي أول هاشمية تزوجت هاشمياً وولدت له.
وقد اختص آل أبي طالب بمناقب ومآثر عظيمة وخصال نادرة، لم تتوفر عند سائر قريش والعرب فكانوا مجمع الفضائل والأخلاق الكريمة والشجاعة ولا سيما سيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وقد تناولت المصادر أخباره وأخبار أخويه عقيل النسابة والعالم بأيام العرب وأخبارها، وجعفر قائد مؤتة وشهيدها، أما طالب وهو الأخ الأكبر للأخوة الثلاثة فقد تحاشى أكثر المؤرخين والمعنيين بالسيَر الخوض في سيرته بخلاف بقية أخوته!.
والمتتبع للتاريخ لا يستغرب أن يتجاهل المؤرخون شخصية طالب، فأغلب المؤرخين كانوا منهمكين في تلك الفترة بالفضائل المُفتعلة لبني أمية والمدفوع ثمنها سلفاً، حينما كان منادي معاوية ينادي في الأسواق: ألا برئت الذمة ممن يروي شيئاً في آل أبي طالب فقامت الأهواء بدورها وسخرت الضمائر وراجت تجارة سمرة بن جندب وأبي هريرة وأشباههما من الوضاعين المأجورين..
أننا لو استقرأنا تاريخ تلك الفترة لا نستغرب أن يتغاضى المؤرخين عن الكثير من الشخصيات المهمة في تاريخنا الإسلامي لأن ذكرها كان يتعارض مع منهج السلطة الأموية وقد حذا المؤرخون المتأخرون حذو المؤرخين المتقدمين في تناقل ما رووه في إرضاء السلطة من التوافه والسفاسف، حتى عُدّ ما رووه من المسلّمات عندهم.
ورغم أن التاريخ لم يولِ اهتماماً كبيراً لشخصية مثل شخصية طالب إلا أن الروايات النادرة في أخباره تدلنا على معالم شخصيته كوميض النور الذي يدلنا على السراج، فلو عدنا إلى العام الممحل ــ كما سماه العرب ــ وهو العام الذي ضربت فيه المجاعة قريشاً وكان أبو طالب كثير العيال فاستشعر رسول الله (ص) ضائقة عمّه لم ير منتدحاً عن إسداء يد العون نحوه فينبري مشيراً على عمّه العباس ــ وكان موسراً ــ بأن يخفّف عنه ثقل عياله، فيستجيب أبو طالب ويقول: (اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما)، وهذا ما اتفقت عليه أغلب المصادر، لكن ابن هشام في السيرة النبوية ج 1 ص 263 يضيف طالباً إلى عقيل في جواب أبي طالب فيروي عن أبي طالب قوله:
أتركا لي عقيلا وطالبا واصنعا ما شئتما. (2)
وهذه الرواية تدلنا على أن طالباً كان ذا أثرة عند أبيه وحظوة، وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 14 ص 65 إن طالباً كان أحد المحصورين في شِعب أبي طالب مع بني هاشم، (3) وهذا يعدّ أكبر دليل على إيمانه، ويذكر ابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 56 وما بعدها، إن أبا طالب أوصى ابنه طالب أن يؤازر النبي وينصره ويستمر في نصرته ولو كلفه ذلك حياته وكان مما أوصى به:
أبنيَّ طالب إن شيخَكَ نــــــاصحٌ *** فيما يقولُ مسدِّدٌ لـكَ راتقُ
فأضربْ بسيفِكَ من أراد مساسَه *** أبداً وإنكَ للمنــــــــيةِ ذائقُ
هذا رجائي فيـــــــــكَ بعد منيّتي *** وأنا عليكَ بكـلِّ رُشدٍ واثقُ
فاعضدْ قواهُ يا بُنيَّ وكــــــــنْ له *** أني بجدّكَ لا محـالة لاحقُ
أتُرى أراهُ واللواءُ أمـــــــــــــامه *** وعليُّ ابني للواءِ معـــانقُ (4)
هناك أمران يتضحان من خلال هذه الوصية يتوجبان الأخذ بهما بنظر الاعتبار الأول هو أهلية المُوصى إليه لإمضاء بنود تلك الوصية وإلا لكان مثله كمثل من يضع الشيء في غير موضعه، وذلك ما لا يجوز على أبي طالب سيد قريش وحكيمها، والثاني إن أبا طالب كان على يقين من إيمان ابنه طالب، وإلا لما كان يطلب منه نصرة من يخالفه في العقيدة. وكان طالب أهلاً لهذه الوصية فكان موضع ثقة أبيه في نصرة النبي (ص) وكان مقِراً برسالته معترفاً بنبوته متيقناً بما جاء به من الحق وقد جسد صدق أحاسيسه وعميق إيمانه بهذه الأبيات:
إذا قيلَ من خير هذا الورى *** قبيلاً وأكرمَـــــهم أسَــــــــرَه
أنافَ لعبدِ منـــــــــــافٍ أي *** أبو نضـــــلة هاشــــم الغرره
لقد حلَّ مجدُ بني هـــــــاشمٍ *** مكانَ النعـــــــائمِ والنشـــــرَه
وخيرُ بني هــــــــاشمٍ أحمدٌ *** رسولُ الإلـــــه على فتـــــرَه
وقد حلّ مجــــــدَ بني هاشمٍ *** فكان النعـــــامة والــــــزهرَه
عظيمُ المكارمِ نـــورُ البلاد *** حريُّ الفؤادِ صــــــدى الزبرَه
كريمُ المشاهدِ سمــحُ البنانِ *** إذا ضــــــنَّ ذو الجودِ والقدرَه
عفيفٌ تقيٌّ نقيُّ الـــــــــرِّدا *** طهرُ الــــــســـراويلِ والأزرَه
جوادٌ رفيعٌ على المعتقيـــن *** وزينُ الأقــــــــــاربِ والأسرَه
وأشوسُ كالليـــــثِ لم ينهِهِ *** لدى الحربِ زجرةُ ذي الزجرَه
وهذه الأبيات لطالب في مدح النبي (ص) تشير إشارة واضحة وجلية إلى إيمانه بالرسول واعترافه بنبوته وإسلامه العميق, كما في قوله: وخيرُ بني هاشمٍ أحمدٌ رسولُ الإله على فترَه وإضافة إلى هذه الأدلة على إسلامه وهي مجاهرته قريش ومدحه لرسول الله واعترافاً بنبوته وهجرته إلى الشِعب ووصية أبيه له، فإن التاريخ يضيف إليه دليلَين قاطعَين هما، الأول هو ضمانة أبي طالب بعدم خذلانه وأولاده للنبي (ص) في أبيات منها:
والله لا أخذلُ النبي ولا *** يخذله من بنيّ ذو حسبِ
فأبو طالب هنا يقسم بالله أنه وأولاده كلهم قد آمنوا بالنبي وجندوا أنفسهم لنصرته أما الدليل الثاني فهو يقطع كل الشكوك والأقاويل ويؤكد إسلامه لأنه جاء من لسان أحد المعصومين (ع) فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال (إن طالباً قد أسلم) (5)
بدر
روى المؤرخون أنه لما نفر أهل مكة إلى بدر تخلّف عنهم بنو هاشم، فأكرهوهم على الخروج، وبذلك قال رسول الله (ص) للمسلمين يوم بدر: مَن قدرتم أن تأسروه من بني هاشم فلا تقتلوه، فإنّهم إنّما خرجوا كرهاً
هذا القول يخص عموم بني هاشم وهناك رواية أخرى تخص طالب بالذات وهي: وكان بين طالب بن أبي طالب وهو في القوم وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله قد عرفنا أنّ هواكم مع محمّد، فرجع طالب إلى مكّة فيمن رجع، وقيل: إنّما كان خرج كرهاً (6)
ورغم أن التاريخ لم يبين ماهية تلك المحاورة إلا أنها تتضح من خلال جواب قريش لطالب واتهامها إياه بأن هواه مع محمد كما تتضح ماهية هذه المحاورة أكثر ويتجلى مضمونها ببيتي طالب الذين قالهما كما سيأتي ذكرهما إضافة إلى إن لفظة (محاورة) تدل على تعارض موقف طالب مع موقف قريش
وتنقطع أخبار طالب عند المؤرخين بعد غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة، فقد اخرجتهُ قريش كرهاً غير باغٍ ولا عادٍ وقد جاهر طالب قريشاً بموقفه من هذه الحرب، كما أنه لم يتحفظ في إظهار ميله نحو معسكر النبي (ص) وقد جرت بينه وبين قريش محاورة ومجاوبة.
ولم يكن هذا الموقف المبدئي لبني هاشم عامة وطالبْ خاصة من هذه المعركة بخافٍ عن قريش عندما خاطبوا بني هاشم بقولهم (والله لقد عرفنا يا بني هاشم وان خرجتم معنا ان هواكم لمعَ محمد)، وهذا يعني أن طالب ومن معه من بني هاشم الذين أُخرجوا كرهاً كانوا مقرّين بالنبوة متيقنين بأن النبي (ص) على بيّنة من ربه..
فماذا كان موقف طالب من هذه الحرب ؟.. وأين اختفى بعدها ولم انقطعت أخباره ؟
كان موقف طالب في بدر مناصرا للنبي من موقعه فقد أدى دوره في تثبيط عزيمة المشركين وإنذارهم بالهزيمة المتوقَّعة وزرع إرهاصات في نفوسهم بالفشل الذريع الذي سيلاقونه فقد شخصَ ببصره إلى الله لائذاً ملتجاً عائذاً وهو يقول:
يا ربِّ أمّا خــــــرجوا بطالبْ *** في مقنبٍ من هذه المقــــــانبْ
فأجعلهم المغلوبَ غير الغالبْ *** والرجلَ المسلوبَ غيرَ السالبْ
فتطيّرَ المشركون من أبيات طالب وتشاءموا وتوجّسوا الشر، واستشعروا الإحباط والهزيمة فقالوا: (إن هذا ليغلبنا فردّوه)، وقد أوردَ هذين البيتين أغلب المؤرخين باختلاف يسير في الألفاظ لا يغير المعنى المقصود..
إلى هنا يقف المؤرخون في أخبار طالب، فمنهم من يقول رجع إلى مكة ومنهم من يقول فُقِد ولم يُعرف له خبر، ومنهم من يقول غرق. واضطربت الروايات في مصيره.
ولم يشِر أحد من المؤرخين إلى وفاته زماناً ومكاناً كما لم يذكر أي منهم عن وجود عقب له. ففي السنة الثانية للهجرة الشريفة تنتهي حياة هذه الشخصية بخاتمة غامضة زادها اختلاف المؤرخين وتخبطهم واضطرابهم فيها غموضاً حول مصيره بعد معركة بدر. فمن المؤكد انه لم يقاتل فيقتل أو يؤسر في تلك المعركة ولم يكن لا من بين القتلى ولا بين الجرحى، إذن فأين ذهب...؟!
لنلقي هذا السؤال على المؤرخين ولنسمع اجوبتهم:
الجواب الاول: إنه ـ أي طالب ـ رجع إلى مكة مع من رجع ولكن ماذا بعد ذلك ؟ يتوقف الحديث. فالتاريخ لا يذكر عنه شيئاً بعد معركة بدر ومن المؤكد إن شخصية مثل طالب وقد عرضنا بعض خصائصها سيكون لها دور كبير في نشر الإسلام ورفد الدعوة ونصرة النبي بعد أن عرفنا ولاءه ومواقفه ولكن التاريخ يتوقف في حياته عند معركة بدر.
الجواب الثاني: ويأتي أكثر من الأول غموضاً فيقول: بأنه لم يرجع إلى أهله أو فقد ولم يعرف له خبر...! وهذا ما لا يعقل، لان شخصية طالب لم تكن شخصية انهزامية أمام الأحداث مهما كانت صعوبتها وقد كان أحد المحصورين في الشعب وهذا ما يؤكد ثباته وعزمه أمام الصعوبات التي يواجهها.
الجواب الثالث: إنه انتحر غرقا...! وهذا أيضاً ما لا ينطبق على شخصيته فلم يكن هناك مما يشين طالباً بعد قول النبي (ص) في حقة وحق من أُخرجوا كرهاً وبعد موقفه المبدئي الولائي للرسول (ص) ومعارضته في القول لقريش.
الجواب الرابع: ويأتي حول مصيره ليكشف عن كل هذه الملابسات والغموض. وتقول هذه الرواية: بأن الجن اختطفته !! ولكن هذه الرواية لم تحدد ماهية الجن والصورة التي جاؤوا بها وأسباب الاختطاف! ولو استنطقنا التاريخ سيُماط اللثام عن الحقائق، فالمختطفون أو بالأحرى المغتالون هم من جن الإنس !!
لنرجع إلى ما بعد معركة بدر، ففي هذه المعركة قتل رؤوس الكفر وكان أغلبهم من بني أمية فاصبح أبو سفيان بعد هذه الغزوة زعيم المشركين في مكة وسيدهم المطاع، وقد قتل اب نه حنظلة وصهره الوليد و والد زوجته عتبة والعديد من أقربائه وأصحابه، فمن الطبيعي أن يدرك ثأره بقتل واحد من بني هاشم خاصة إذا كان من أقرباء الرسول أو ... ابن عمه، وأظن أن القارئ قد تبيّن أسباب الإغتيال خاصة أن طالباً قد عُرف موقفه المعارض تجاه قريش وإيمانه بالرسول ثم إن الصراع بين بني أُمية وبني هاشم موغل في القدم وقد اشتدت ضراوته عند مجيء الإسلام فزاد حقد الأمويين وحسدهم وبغضهم للهاشميين حتى قال أمير المؤمنين (ع) عندما سئل عن هذا النزاع: (بنو أمية أغدر، وأمكر، وأنكر، ونحن أصبح، وأنصح، وأفصح).
وعند كلمة (أغدر) تشير أصابع الاتهام في مصير طالب
محمد طاهر الصفار
.......................................................................................
1 ــ الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ج 1 ص 225
2ــ السيرة النبوية ج 1 ص 263
3 ــ شرح النهج ج 14 ص 65
4 ــ مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 56
5 ــ الروضة من الكافي للكليني ج 8 ص 375
6 ــ الكامل في التاريخ ج ۲ ص ۱۲۱
اترك تعليق