يشكل الفن لغة شأنه بذلك شأن اللغات الاخرى.. فهو لغة المعتقدات والأعراف والعادات والأحاسيس والأفكار المشتركة وكل من ينتسب إلى ثقافة ما او دين معين.. يقف متأثراً بآثاره الفنية، وقد ظهر الفن كما هو معروف مع الإنسان منذ النشأة الأولى، ولا يزال حتى اليوم يشكل جزءاً لا يتجزأ من تاريخه وثقافته وتراثه وعلومه، ويتغير بتغير الفكر وتنوعه واختلاف المشاعر والوجدان..
ويتفاعل الفن مع اختلاف المكان وتباين الزمان، وهو بالنسبة للإنسان يعد المقياس الحقيقي لرؤيته الشخصية والنفسية والحسية والنفعية والحضارية، وخير مثال على ذلك ما اعطته الحضارة الإسلاميّة من مكانة للفن والجمال، حيث كانت ومازالت فياضةً بمعاني الجمال وكل ما يفيد ويبهج الحياة ويفتح الآفاق أمام الإنسان والمجتمع في التقرب الى الله الخالق .
لقد اتُهم الاسلام باطلاً وعلى مر العصور بأنه الدين الذي يحرم فيه البسمة على كل فم.. والبهجة على كل قلب.. والزينة في أي موقع والإحساس بالجمال في أي صورة فنية، وهذا افتراء عظيم في حق ديننا وسماحته ولا أساس له في دين الله لا محال، فإذا كان الشعور بالجمال والتعبير عنه هو روح الفن، فالدين الاسلامي هو من غرس حب الجمال والشعور به في أعماق كل مسلم، والقارئ لآيات القرآن الكريم يلمس هذه الحقيقة بجلاء ووضوح، فهو يريد من المؤمن التأمل في اللوحات الربانية الرائعة الحسن ويتلمس جمالها المبثوث في الكون كله وان يتفكر فيمن خلقها وابدع تصويرها (( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ )) النمل : 88"، ولو دققنا في قراءتنا لكلمات الله التامات لوجدنا ان الحق سبحانه يلفت الأنظار في آياته البينات، وينبه العقول والقلوب إلى الجمال الخاص لأجزاء الكون ومفرداته، فإن القرآن يريد أن يوقظ بهذا الحس الإنساني ليشعر بالجمال الذي أودعه الله فينا وفي الطبيعة من فوقنا ومن تحتنا ومن حولنا وأن علينا ان نملأ عيوننا وقلوبنا من هذه البهجة وهذا الحسن المبثوث في الكون كله .
يحيي الدين الإسلامي الشعور بالجمال ويؤيد الفن الجميل.. ولكن بشروط معينة، حيث الفن يصلح ولا يفسد ويبني ولا يهدم ، وقد أحيا الإسلام ألواناً من الفنون ازدهرت في حضارته وتميزت بها عن الحضارات الأخرى مثل فن الخط والزخرفة والنقوش وغيرها، فقضية الفن بكافة مفرداتها ووسائلها وأدواتها المتنوعة قضية من أخطر القضايا التي يواجهها العقل العربي والمسلم في عالمنا المعاصر، وما زال الجدل حول قضية الحِلِّ والحرمة والمكروه والمباح و الجائز وغير الجائز قائماً حتى يومنا الحاضر...
ولكن لابد لنا من الوقوف امام ثابتة في هذا الصدد وهي، ان الفن يعد مؤسسة اجتماعية تربوية مهمة في حياة الانسان بل هو لغة رصينة للمجتمعات، فهو يلازم المرء ومجتمعه من دين وأخلاق واقتصاد وسياسة.. ويؤثر فيه تأثيراً مباشراً.. حيث يخاطب مشاعر الأفراد كما يخاطب عقولهم، وهنا تكمن خطورة تأثيره.. فالفن كالعلم يستخدم في الخير والبناء أو في الشر والهدم، ولأن الفن وسيلة إلى مقصد فحكمه حكم مقصده بالتأكيد، فإن استخدم في حلال فهو حلال وإن استخدم في عكس ذلك فهو حرام.. وهنا يمكن الجزم أن الفن الإسلامي حافل بكل الإمكانات والإبداعات التي تميزه عن غيره ليكون فناً ذا طابع خاص يحاكي الارواح وله مكانة مرموقة بين فنون الحضارات الكبرى، إذ يتميز بشخصية ذاتية تتوائم تواءماً فذاً مع الفكر الإسلامي واهدافه النبيلة، وفي نفس الوقت مع مقتضيات المكان في كل إقليم من الأقاليم التي ازدهرت فيها الفنون الإسلامية.. ولا شك أن من أسباب عظمته وتفرده أنه ثمرة من ثمار القوانين الكبرى الذي حكمت هذا الوجود والتي تنص بشكل او بآخر على تحقيق الأهداف الإيمانية والاسهام في عمارة الأرض وبناء الحضارة الإيمانية الطاهرة والحياة الإنسانية النظيفة وفق منهاج الحق الالهي .
ولا نستطيع التغاضي عن ان الفن الإسلامي هو الذي يهيئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق هو ذروة الجمال، ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كل حقائق الوجود، فالفنون الإسلامية تلبي حاجات الجسـد والروح معاً تتميز الفنون الشرقيّة عموماً والإسلاميّة خصوصاً، بارتباطها الوثيق بالحياة اليوميّة، فهي وُجدت في الأساس، لخدمة مرفق من مرافقها.. أي أنها استعمالية السمة ولها هدف ووظيفة وغاية استخداميّة اجتماعيّة، أو دينيّة، أو ماديّة تتعلق بالأكل والشرب والتجميل والتزيين وحفظ المواد والجواهر وتجميل العمارة، وغير ذلك من متطلبات حياة الإنسان اليوميّة الماديّة، ولم يشهد الشرق فناً للفن قط، وإنما الفن لديه دائماً هو في مهمة بدأت بشكل مادي صرف ثم تصعّدت بفضل التزويق والتزيين والتحسين الشكلي، لتجمع بكثير من التوافق والانسجام بين مهمة تلبية حاجات الجسد و تلبية حاجات الروح، ويُعتبر الفن الإسلامي آخر مولود في الفنون القديمة.. وقد استفاد الفن الاسلامي في البداية من الفنون القديمة الموجودة في البلاد التي انتشر فيها، كالرومانيّة والإغريقيّة والبيزنطيّة والساسانيّة والهنديّة، ثم ما لبث أن اعاد تدوير جميع هذه الفنون ليعيدها في منتوج جديد هو الفن الإسلامي الذي وحدته العقيدة الإسلاميّة، ومنحته خصيصة تفرد بها عن غيره، بحيث صار من الصعوبة بمكان العودة به بعد قرن من ولادته إلى بعض الملامح من هذه الفنون، ذلك لأنها تحوّلت لتصبح إسلاميّة بحتة.
وهنا يمكننا القول ان الفنون الجميلة هي مظهر الطبيعة، وينبغي أن ننتبه إلى أنّها من نتاج الإنسان وليس من نتاج الطبيعة؛ فالعمل الفنّيّ لا يُقلّد في الحقيقة الأشياء، بل يُقلّد فقط علاقاتها، وهذه العلاقات ليست في الواقع سوى من عمل الرّوح، وهي تعبيرٌ رمزيٌّ عن نشاطاته. وإذا كان العمل الفنّيّ أميناً لهذا المبدأ كان جميلاً ويعد من ابداعات الروح .
اعداد: سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق