السيدة نرجس .. صلاة في بيت الوحي
إنها الروحٌ التي تكللت بشذى بيت النبوة واستنشقت عبق الإمامة، صاغها الله من نورهم فخفق قلبها بحبهم وسارت على خطاهم بوجهها المضيء وأنفاسها المطمئنة، حيث شاءت إرادته (جل وعلا) أن تنتقل إلى أشرف وأطهر بيت في الوجود بيت العترة الطاهرة، فتغذّت من عقيدته وسُقيت من نوره، واقتبست من وحيه، وتوهجّت أنفاسهما بالعقيدة والإيمان كما تتوهّج الأزهار بقطرات الندى، فكانت منه وإن جاءت من أرض غير أرضه.
لقد خصَّ الله هذه المرأة العظيمة بخاصية لم يخصّ بها غيرها في عصرها وأكرمها بكرامة لم تنلها سواها في زمانها فاصطفاها لتكون أمّاً للمصلح الأعظم والمنقذ الأكبر الذي تنتظره البشرية وتتطلع لرؤيته عيون المؤمنين ويتشوَّق المستضعفون في الأرض إلى طلعته الغرَّاء لينقذهم من جور الجبابرة وظلم الطواغيت، فهيّأ الله لهذه المرأة وشرَّفها بأن تلتقي بأحبِّ الخلق إليه سليل الصفوة من آل محمد (صلوات الله عليهم) فتمسكت بحبلهم وتوثقت روحها بحبهم حتى خالط روحها ودمها.
هكذا اقتضت الحكمة الإلهية أن تنتقل هذه الفتاة الطاهرة إلى هذه البيت الطاهر لتقتبس من هديه وتنهل من منبعه وتستضيء به بنور الله..
نعم إنها مشيئة الله أن تخوض هذه الأميرة الرحلة البعيدة الشاقة لتتشرف بهذا الشرف، لقد تحققت النبوءة التي غرست في روحها الهدى فتبعتها بقلبها قبل قدميها يحثها إيمانها بالله ..
فتحسّ بانتمائها إليه وتتوق له، وتسترجع صداه في نفسها وقلبهِا وروحهِا ووجدانها وقد كللها بالخلود...
أحسّت أنها أميرة حقاً بعد أن غادرت القصر الذي فقد معنى الحياة وسادت أجواءه أنفاس المطامع فخرجت لتلبي نداء القلب.
مليكة أو نرجس
وُلدت السيدة نرجس في القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية وذلك قبل عام (240هـ) ــ أي نهاية القرن التاسع الميلادي ــ وكان اسمها قبل أن تأتي إلى بلاد الإسلام (مليكة). وهي بنت يشوعا حفيدة قيصر ملك الروم ويرجع نسبها من أمها إلى شمعون وصي عيسى ومن حواريه.
ومن أسمائها نرجس الذي عرفت به، وريحانة، وسوسن، وصقيل، ومريم، وخمس، وحكيمة، وسبيكة.
وكان السبب في تعدد هذه الأسماء هو الأوضاع السياسية والضغوط السلطوية التي مارسها العباسيون ضد أهل البيت (عليهم السلام).
فتسمَّت بأكثر من اسم لكي تموّه على السلطة معرفتها لأنها ستلد الإمام الثاني عشر (صلوات الله عليه).
فلما أسرِت سمَّت نفسها نرجس، ولما حملت بولدها سُمِّيت صقيل، وحين ولدت وليدها كُنيت به أمّ محمد، لكن اسم نرجس كان أشهر الأسماء لها والذي عرفت به.
والظاهر إنه اسمها الحقيقي هو نرجس كما سمَّاها به المسعودي (1)
كما ورد هذا الاسم في الروايات المعتبرة عن السيدة حكيمة أخت الإمام الهادي وعمّة الإمام العسكري (عليهم السلام) حول ولادة الإمام القائم المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وكما أوردها المجلسي (2)
وليس ببعيد أنها تسمّت بكل هذه الأسماء بسبب الظروف العصيبة التي عاشتها في بيت الإمام وتعرضّها للمخاطر من قبل السلطة العباسية للتمويه كما ذكرنا، فهي منذ أن أسِرَت أصبح اسمها نرجس ولم تذكر اسم مليكة لأحد، أما الأسماء الأخرى مثل سوسن وريحانة فهي من الأسماء المشاعة للجواري في ذلك الوقت يسمونها بها دلالة على الحفاوة بها وحظوتها عند أسيادها.
وهذه الأسماء لها دلالتها على مدى تكريم بيت الإمام الهادي (عليه السلام) لنرجس فهي من أسماء الزهور ومن الأسماء المحبّبة إلى النفس.
كما تدلّ هذه الأسماء المتعددة إلى حالة المراقبة الشديدة من قبل العباسيين لبيت الإمام، فاستعملت هذه الأسماء لكي يظن من يسمع بها بأن في البيت إماء عديدة ولا يخطر على باله إنما هي لجارية واحدة.
العرش
عندما بلغت السيدة نرجس الثالثة عشر من عمرها أراد جدُّها قيصر الروم أن يزوّجها من ابن أخيه ــ أي ابن عمِّها ــ وقد أعدّ لهذا الزواج إعداداً كاملاً وانتشر خبره في المملكة وبقيَ الجميع يترقّب هذا اليوم.
وفي اليوم الذي خُصِّص له حضر حفل الزواج ثلاثمائة رجل من القسيسين والرهبان من نسل الحواريين وسبعمائة رجل من ذوي الأخطار، كما حضر أربعة آلاف رجل من اُمراء الأجناد وقوّاد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر !
ووسط هذا الحضور الكبير الذي ضمَّ أعيان وكبار وقادة وأمراء الإمبراطورية أقيم عرش الزواج المزيّن بأفخر أنواع الجواهر وأنفس المصوغات وكان الجميع ينظر إلى هذا العرش وهو مندهش لروعته وجماله ونفاسة ما زُيِّن به من الأحجار الكريمة.
وقد توسّط قاعة القصر وشخُص عالياً بينهم وبدا كأجمل ما يكون بعد أن تفنّن صانعوه في صنعه فبلغ أربعين مرقاة وظلّ الحضور يترقبون ابن أخ الملك لكي يعتليه !!
وجاء ابن أخ القيصر تحفّه الأساقفة وبيدهم الصلبان وهم يرتِّلون أسفار الإنجيل وما إن وصلوا عند العرش حتى تركهم عاكفين على التلاوة وصعد وحده، وفيما هيمنت هذه الأجواء على النفوس والعيون وبقي الحاضرون ينظرون بعين الرهبة إلى هذا المشهد وهم محدقين بالعرش إذ حدث ما لم يكن بالحسبان !
حدث ذلك فجأة وفي بضع لحظاتٍ كانت كافية لبثّ الرعب في أعين الحاضرين ففغرت الأفواه من الهلع وخفقت القلوب من الرعب !!
فما إن صعد ابن أخ الملك على العرش لكي تتمّ مراسيم الزواج وساد الصمت المغلف بالفرح والبهجة وسط هذه الأجواء المبهرة للجميع وخاصة الملك الذي كانت فرحته غامرة في تلك اللحظة، حتى تساقطت الصُلبان وأحدثت دويّاً مروِّعاً وسط القصر وتقوّضت الأعمدة وانهارت تِباعاً على الأرض ..
وسقط ابن أخ القيصر على الأرض مغشيّاً عليه !!
أصيب الأساقفة برعب شديد وتغيّرت ملامحهم وارتسم الخوف والفَرَق في أعينهم وارتعدت فرائصهم ولم يكن حتى باستطاعتهم الكلام، فالخوف والذهول الذي ساد القصر كان كفيلاً بإيضاح ما يشعرون به..
أما الملك فلم يكن حاله بأفضل حالاً منهم فقد وجِم من الحزن والأسى وتشاءم من هذا اليوم وارتعب من هذا الموقف الذي أحسّ بأنه أنذره بزوال ملكه ولكنه ظلّ صامتاً وعلامات الاستياء بادية على وجهه.. وراح يهزّ رأسه كأنه يحدث نفسه:
أيمكن أن تكون مؤامرة ؟؟
لا.. لا لا يمكن هذا فالمشهد واضح وليس هناك أي شيء يدل على مؤامرة !!
إن هذا الشعور الذي يراود الملوك في مثل هذه الحالات ليس جديداً حيث تغلب نزعة الملك والإحساس بالقدرة والسلطان على كل شعور لديهم فيظنون إن الأرض كلها طوع أيديهم وليس هناك سلطة أكبر من سلطتهم أو سلطاناً فوق سلطانهم وينسون قدرة الله وسلطانه !!
أفاق الملك من ذهوله وتفكيره فجأة علا صوت جاء من جهة الأساقفة: أيها الملك، اُعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني.
كان صوت كبيرهم !! ولكن القيصر لم ييأس بل ردّ على هذا الصوت سريعاً:
ــ بل أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان واتركوا أبن أخي ذا الحظ العاثر هذا المنكوس جدّه وأحضروا أخاه لأزوّج منه هذه الصبيّة فيدفع نحوسه عنكم بسعوده.
راود الملك شعور بأنه ربما أن هذا الحفيد الشاب لا يليق بحفيدته وهناك من هو أجدر منه وهو أخوه فأمر بتزويجه منها فالأمر سيّان لديه، فأيٌّ من هذين الأخوين يحظى بهذا الزواج يبقى نسل الملك محافظاً على الدم النبيل كما هو سائد في ذلك الوقت ...
ولكن الأمور لم تكن كما يريد الملك أيضاً مع الخطيب الثاني !!
ففي اليوم الثاني فعلوا كما في اليوم الأول. ولكن الحظ العاثر رافق المرشّح الثاني للزواج من مليكة وحدث ما حدث في اليوم السابق تماماً.
فتفرّق الحضور واغتمّ القيصر لذلك كثيراً ودخل قصره، واُرخيت الستور وأسدلت مظاهر الفرح.. لقد أراد الله غير ما أراد القيصر وليس فوق إرادة الله إرادة...
الرؤيا
سادت القصر أجواء الحزن الممتزج بالخوف في تلك الليلة ودبَّ الرعب واليأس قلوب ساكنيه وعمّ الصمت في هدأة الليل إلا من همس وهمهمة بعض الخدم ثمَّ غطّ الباقون في سبات عميق جرّاء التعب الذي أصابهم والجهد الذي بذلوه في إقامة مراسيم الزواج وتلبية احتياجات الحضور.
ونامت مليكة وهي لا تدري ما ينتظرها في المستقبل ؟ نامت بعد أن أرهقها التفكير في مصيرها، كانت تشعر أن أمراً عظيماً ينتظرها وإن الله لم يكن يريد لهذا الزواج أن يتمّ من أجل هذا الأمر عظيم ولكنها لم تكن تعرف ما هو هذا الأمر ؟
وفجأة فزّت من منامها كمن يستيقظ من غيبوبة ثم غرقت في تفكير عميق !!
أيمكن أن تكون هذه الرؤيا التي رأتها في منامها هي الخيط الأول لهذا الأمر والذي يتضح بعده الفجر ؟
رأت في منامها المسيح ومعه شمعون (عليهما السلام) ومجموعة من الحواريين وهم مجتمعون في القصر وقد أقاموا منبراً أعلى من عرش العرس الذي أقامه جدّها لزواجها وفي نفس موضع العرش، وفيما هم منهمكون بحديث لم تعرف مفاده إذ دخل عليهم رجلٌ على وجهه سيماء الأنبياء ووجهه مفعم بالنور وهو يتقدّم نحو المسيح وخلفه كان يمشي اثنا عشر رجلاً كأنهم الأقمار وقد أحاطت بالشمس !!
عرفت نرجس بما سمعت من أخبار عن الإسلام إن الرجل كان خاتم الأنبياء محمد ومعه أهل بيته، فقام إليهم المسيح واستقبلهم وعانقهم وكذلك الحواريون، فقال النبي محمد (صلى الله عليه وآله) للمسيح (عليه السلام): يا روح الله إنّي جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
فالتفت عيسى إلى شمعون وقال له: قد أتاك الشرف العظيم، فصِل رحمك برحم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فتبسّم شمعون (عليه السلام) ووافق على الفور فلمّا سمع النبي محمد (صلى الله عليه وآله) موافقة شمعون صعد المنبر وزوّج مليكة للإمام (عليه السلام) وشهد على هذا الزواج المسيح وآل محمد والحواريون.
استيقظت مليكة وقلبها يخفق بشدّة لهذه الرؤيا وقررت كتمانها عن الجميع وأن تبقى سراً في صدرها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا فقد خشيت من جدّها الذي كان يخوض دائرة حروب مع المسلمين أن يعمد إلى اتخاذ قرار ضدها فكتمت ذلك في قلبها بانتظار أمر الله.
أسرى المسلمين
كانت مليكة تسترجع هذه الرؤيا طويلاً وهي تتأمّل في مخيلتها الوجوه المشرقة التي رأتها فيها وخاصة وجه النبي محمد والنور الذي يشع منه فهامت بحبه وحب أهل بيته حتى امتنعت عن الطعام والشراب.
وضعف جسدها، ونحل جسمها، ومرضت مرضاً شديداً، فاستدعى لها جدّها أمهر الأطباء من مدائن الروم، ولكن داءها أعياهم ولم يجدوا لها علاجاً فحزن لذلك كثيراً، وسألها عما تحتاجه وتتمنّاه، فقالت له وكأنها تمهّد لما تريد قوله:
يا جدّي أرى أبواب الفرج عليّ مغلقة، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال، وتصدّقت عليهم، ومننتهم بالخلاص، لرجوت أن يهبّ المسيح واُمّه لي عافية وشفاءً.
فاستجاب الملك لطلبها فأطلق سراح الأسرى المسلمين من سجونه وهو يرجو من المسيح وأمه أن يتقبلا عمله ويستجيبا لدعائه فجهدت مليكة على إظهار الصحة في بدنها، وتناولت يسيراً من الطعام، ففرح جدها بما رآه من حيويتها فأكرم الأسرى وأعزهم.
إسلامها
بعد أربع ليالٍ من تلك الليلة التي رأت فيها النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يخطبها من شمعون لولده الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كانت مليكة على موعد مع رؤيا أخرى ...
فقد تشرّفت برؤية سيدة نساء العالمين ابنة النبي محمد الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) ومعها السيدة مريم بنت عمران (عليها السلام) ومعهما ألف وصيفة من وصائف الجنان فهالها ما رأت ولكن السيدة العذراء طمأنتها وبشّرتها فقالت لها:
هذه سيدة نساء العالمين، واُمّ زوجك الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فتعلقت مليكة ببنت المصطفى وأحبتها وبكت من فرحتها لهذا الشرف الذي أحاطها الله به فعرضت عليها الزهراء (عليها السلام) الإسلام فوجدت مليكة قلبها يتلهَّف لكلمة التوحيد التي وجدتها أحلى من الشهد فقالت على الفور:
أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله.
وما إن أعلنت مليكة إسلامها حتى عانقتها سيدة النساء وضمَّتها إلى صدرها وبشرتها بلقاء الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
كانت هذه الرؤية والتي قبلها تمهيداً للقاء مليكة بالإمام لتنفيذ إرادة الله بولادة بقيته في أرضه، ففي الليلة التالية رأت في منامها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فأخبرها عن كيفية قدومها إليه فقال لها:
إنّ جدّك سيرسل جيوشاً إلى قتال المسلمين، ثم يتبعهم هو، فعليك اللحاق بهم متنكّرة في زِيِّ الخدم مع عدّة من الوصائف لتقعي في الأسر.
وعيَّن (عليه السلام) لها الزمان الذي تخرج فيه والطريق الذي تسلكه ففعلت ما طلب منها الإمام ووقعت في أسر جيش المسلمين ولما سألها الرجل الذي كانت حصته من الغنائم عن اسمها قالت له: نرجس...
بشر النخاس
كان هذا الرجل هو واسطة لقاء الإمام العسكري بنرجس (عليهما السلام) واسمه بشر بن سليمان النخّاس وهو من الذين أنعم الله عليهم بحب أهل البيت (عليهم السلام) وموالاتهم وكان يسكن قرب دار الإمام الهادي في سامراء ــ وهو من أحفاد الصحابي الجليل أبي أيّوب الأنصاري رضوان الله عليه ــ وقد دان لهم بالولاء معترفاً بفضلهم عليه، ومن قوله في ذلك:
كان مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكري (عليه السلام) فقّهني في أمر الرقيق، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلاّ بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتى كمُلت معرفتي فيه، فأحسنت الفرق فيما بين الحلال والحرام..
وذات ليلة فوجئ بشر بطرق على الباب فلما فتح الباب وجد كافور ــ خادم الإمام الهادي ــ على الباب وهو يقول له إن الإمام يريد حضورك الآن..
فلما دخل بشر إلى بيت الإمام الهادي (عليه السلام) وجده يحدّث أبنه أبا محمد الحسن (عليه السلام) واُخته السيدة حكيمة (عليها السلام) من وراء الستر فعرف أن هناك أمراً هاماً استدعاه من أجله فبقي بانتظار فراغ الإمام الهادي من حديثه وما إن فرغ الإمام وجلس بشر حتى قال له الإمام:
يا بشر: إنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها شأن الشيعة في الموالاة بها، بسرّ اُطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أمَة ...
ثم كتب (عليه السلام) كتاباً بخط رومي ولغة رومية وختمه بختمه الشريف وأخرج كيساً فيه مبلغ مئتين وعشرون ديناراً وقال له:
خذها وتوجّه بها إلى بغداد، وأحضر معبر الفرات ــ وعيَّن له الوقت ــ فإذا وصلت إلى جانبك السبايا، وبرزن الجواري منها، بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العباس، وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها.. ــ ووصف الإمام لبشر صفة نرجس ــ ، لابسة حريرتين صفيقتين تمتنع من السفور ولمْس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها، ويشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخّاس، فتصرخ صرخة رومية، فاعلم أنها تقول:
واهتك ستراه.
ثم بيّن الإمام لبشر كيفية شرائها وكأن العملية تتم بالصدفة لكي لا يلفت أنظار الحضور إلى اهتمام بشر لشرائها خشية من جواسيس بني العباس خاصة إن بشر معروف لديهم بأنه من الموالين للإمام الهادي (عليه السلام) فوصف الإمام له كيفية شرائها حرفياً وحدد له المبلغ الذي يشتريها به كما حدد له الزمان والمكان فقال له:
فيقول بعض المبتاعين: عليَّ بثلاثمائة دينار، فقد زادني العفاف فيها رغبة.
فتقول الجارية بالعربية: لو برزت في زيِّ سليمان (عليه السلام) وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فأشفق على مالك.
فيقول النخّاس: فما الحيلة، ولابدّ من بيعك ؟.
فتقول الجارية: وما العجلة ؟ ولابدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى أمانته وديانته.
فعند ذلك قُم إلى عمر بن يزيد النخّاس وقل له:
إنّ معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف، كتبه بلغة رومية وخطّ رومي ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه، واستأذن منه أن تقرأ الجارية الكتاب لتتأمّل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
ففعل بشر ما أمره الإمام حرفياً فنظرت الجارية في الكتاب بلهفة وكأنها وجدت ضالتها وفوجئ بشر وهو يرى دموعها تتساقط على خديها وهي تقرأه، ثم قالت لعمر بن يزيد النخّاس بلهجة رجاء ممزوجة بثقة:
بعني إلى صاحب هذا الكتاب. وحلفت بأنه إذا امتنع من بيعها إليه قتلت نفسها.
فوافق عمر على بيعها خوفاً من تنفيذ تهديدها ووعيدها فيُمنى بخسارة ثمنها، فماكسه بشر في ثمنها حتى استقرّ رأي الطرفين على المبلغ الذي حدده الإمام الهادي (عليه السلام) وهو مائتان وعشرون ديناراً
ما كادت نرجس تبتعد مع بشر عن النخاس حتى أخرجت الكتاب الذي أعطاها إياه بشر وهو كتاب الإمام الهادي (عليه السلام) وقبّلته ووضعته على وجهها وهي تشمّه ! فتعجّب بشر منها وما فعلته ولم يتحمل دون أن يسألها:
أتقبلين كتاباً ولا تعرفين صاحبه ؟
فسكتت قليلا ثم قصّت عليه قصّة رؤياها الثلاث وإنها غيّرت اسمها عندما سألها الرجل الذي أسرها عن اسمها فقالت له: نرجس. لكي لا يعرفها أحد وإنها أخبرته بكل ذلك لأنه رسول الإمام الهادي فلا أحد يعرف أنها ابنة ملك الروم سواه فازداد عجب بشر منها لأنها تكلمه بلغته فهي تجيد اللغة العربية بطلاقة فقال له:
العجب إنك رومية ولسانك عربي ؟
وكأنها كانت تنتظر منه هذا السؤال فقالت له: اهتم جدّي كثيراً بتعليمي الآداب بلغ من اهتمامه لي على تعلمي اللغة العربية وخصص لي معلمة لذلك فكانت تأتي إليَّ كل صباح ومساء فتعلمني، ويوماً بعد يوم أصبحت العربية لغتي الثانية أجيدها كما أجيد الرومية، وكأن جدي كان يعلم إني سأسير إلى هذه البلاد أو كأن الله قد أرشده إلى ذلك.
في بيت الإمام
كان الإمام الهادي (عليه السلام) جالساً في بيته ومعه ابنه الإمام العسكري (عليه السلام) وهما ينتظران قدوم بشر النخّاس وفيما هما جالسان إذ دخل الخادم وأخبرهما بقدوم بشر فأذن له فدخل ودخلت خلفه جارية ملتحفة بزِيِّ الجواري وهي مطرقة إلى الأرض باستحياء فنظر إليها الإمام وتبسم وقال وكأنه يخاطب نفسه:
هي والله...
أحسّت نرجس عند دخولها دار الإمام الهادي (عليه السلام) بأن هذا البيت هو مكانها الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه، فلم تحسّ بأنها غريبة بل بالعكس فقد أحسّت بنشوة غامرة وفرحة لم تشهدها في حياتها، وجدت رجلاً استغرقت في النظر إلى وجهه كأنها تعرفه منذ زمن بعيد كانت ملامحه تفيض بالطهر والنبل فبادرها بالسؤال:
إنّي اُريد أن اُكرمك، فإيّ شيء أحب إليك: عشرة آلاف درهم ؟ أم بشرى لك بشرف الأبد ؟
فقالت دون تردد: بل البشرى.
فقال الإمام: فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
فقالت بعد تردد وهي مطرقة وقد تملكتها الدهشة: ممّن ؟
فقال الإمام: ممّن خطبك رسول الله (صلى الله عليه وآله) له في تلك الليلة وحدَّد لها الزمان بالتحديد.
فقالت: من المسيح ووصيّه (عليهما السلام) ؟
فقال: ممّن زوّجك المسيح ووصيِّه (عليهما السلام) ؟
فقالت: من ابنك الحسن ؟
فقال: فهل تعرفينه ؟
فأخبرته بأمر الرؤيا التي رأت فيها الإمام الحسن العسكري وفيها أخبرها بكيفية قدومها إلى سامراء.
السيدة حكيمة تعلمها أحكام الإسلام
استبشر الإمام الهادي بنرجس وتحقق له الوعد الإلهي بقدوم هذه الجارية الطاهرة التي ستلد خير أهل الأرض فقال لخادمه كافور: اُدع لي اُختي حكيمة ...
وما إن جاءت حكيمة حتى قال لها وكأنها على موعد مسبق معها: ها هي.
فسلمت عليها حكيمة وعانقتها طويلاً، وسرّت بها كثيراً. فقال لها الإمام الهادي :
يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك، وعلّميها الفرائض والسنن، فإنها زوجة الحسن، واُمّ القائم (عليهما السلام).
وبقيت نرجس في بيت السيدة حكيمة حتى زوجها الإمام الهادي من ولده الإمام العسكري، وعندما حملت نرجس بولدها، خفي حملها، فقد وضع العباسيون منزل الإمام الهادي تحت المراقبة الشديدة، فكان الجواسيس يترقبون كل من يأتي إليه وشددوا من مراقبتهم عليه، وقد عزموا على قتل المولود الذي سيلد للإمام العسكري .. وأخيراً حانت ساعة الولادة.
الليلة العظيمة
في هذه الليلة العظيمة استدعى الإمام الحسن العسكري السيدة حكيمة وقال لها:
يا عمّة، إجعلي إفطارك الليلةَ عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإن الله تبارك وتعالى سيظهِر في هذه الليلة الحجةَ في أرضه فقالت له: ومَن أُمُّه ؟ فقال لها: نرجس.
دهشت السيدة حكيمة لأنها لم ترَ أثراً للحمل عليها، فقالتُ له: ما بها أثر !! ــ أي ليس عليها أثر للحمل ــ فقال لها: هو ما أقول لكِ.
وجاءتُ السيدة حكيمة في تلك الليلة، فاستقبلتها نرجس، وجلستُ تنزع عنها نعليها كرامة لها فقالت لها السيدة حكيمة:
بل أنت سيدتي وسيّدة أهلي فاستغربت نرجس من قولها وقالت لها: ما هذا يا عمّة ؟! فبشّرتها حكيمة بنور الله في أرضه وقالت لها: إنّ الله تعالى سيهبُ لكِ في ليلتكِ هذه غلاماً سيّداً في الدنيا والآخرة.
وأفطرت السيدة حكيمة في بيت الإمام بعد صلاة العشاء ونامت قليلاً ثم قامت لتقطع بقية الليل بالصلاة وقراءة القرآن ثم جلست تقرأ التعقيبات بعد الصلاة ونرجس نائمة ليس عليها شيء ثم قامت نرجس فصلّت ونامت.
وعند الفجر خرجت السيدة حكيمة إلى صحن الدار وهي تترقب البشرى، ونرجس لا تزال نائمة، وفيما هي مستغرقة في التفكير بالمولود الجديد أفاقها من استغراقها وتأمُّلها، صوت من ورائها: لا تعجلي يا عمّة، فالأمر قد قرُب...
وأشرقت الأرض
لما سمعت كلام الإمام وهو يبشّرها بقرب الموعد اطمأنت روحها واستيقنت بالولادة وجلست فقرأت: (ألم السجدة) ثم قرأت (يس) وما إن انتهت من قراءتها حتى سمعت صوت نرجس وهي مفزوعة وتتأوه، فأسرعت إليها وهي تمسّد رأسها وتطمئنها.
فقالت لها: تحسّين شيئاً ؟
فقالت: نعم يا عمّة. فقالت لها: تمالكي نفسك وقوّي قلبك، فهو ما قلت لك.
وتولّت حكيمة شؤون الولادة، وبعد لحظات أحسّت بحركة المولود فكشفت الستار عن النور...
رأت سليل النبوة ووريث الإمامة..
رأت خليفة الله في أرضه فتنفست الصعداء..
وأخيراً تحقق الوعد الإلهي..
رأته ساجداً يتلقى الأرض بيديه،
حملته وعانقته وقبلته..
لم يكن كأي مولود...
فقد كان نظيفاً طاهراً مطهّراً تفوح منه رائحة الجنة.
وما إن رآه الإمام العسكري حتى صاح: هلمّي إليّ بابني يا عمّة.. فجاءته به، فقال له: تكلّم يا بُني بإذن الله.
فقال المولود المبارك: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله، ثم صلّى على أمير المؤمنين وعلى الأئمّة (عليهم السلام) واحداً واحداً إلى أن وقف على أبيه ثم أحجم.
عند ذلك قال الإمام لعمته: يا عمّة، اذهبي به إلى اُمّه ليسلّم عليها وحتّى: تقرّ عينها وَلا تحزن ولتعلم أَن وعد الله حق ولكن أَكثرهم لا يعلمون. ثم ائتني به.
فذهبت به حكيمة ليسلم على أمّه ثم أرجعته إلى أبيه.
وفي الصباح لما أرادت السيدة حكيمة الانصراف جاءت لتسلم على ابن أخيها وترى المولود فلما كشفت الستر لم تره !
استغربت وسألت الإمام عنه فقال لها: يا عمّة، استودعناه عند الذي استودعته اُمّ موسى.
وفي هذا القول من الإمام (عليه السلام) إشارة إلى تشديد السلطة من مراقبتها لبيت الإمام، وعلمها بأن مولوداً سيولد له وقد عزمت على قتل أي مولود لقطع نسل أهل البيت واستئصالهم، ولكن إرادة الله كانت أعظم من عزم السلطة، فجعل الله زمان ولادته في هذا الوقت وهو السحر حيث تكون العيون تغط في نوم عميق.
ولم يعرف بأمر الولادة سوى هؤلاء الثلاثة وهم: الإمام، وحكيمة، ونرجس، وقيل شهدتها أيضاً امرأة قابلة عجوز من الثقات وقد أوصاها الإمام بالكتمان فعملت بوصية الإمام، ولما أرادت حكيمة الانصراف قال لها الإمام: يا عمّة، زورينا بعد سبعة أيام.
في اليوم السابع جاءت حكيمة وسلّمت وجلست فقال لها الإمام: هلمّي إليّ ابني، فجاءت به فتكلم كما تكلم في الليلة الأولى ثم تلا هذه الآية:
بسم الله الرحمن الرحيم (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)
وظللت الدار أجنحة طيور خضر حتى غمرت المكان ورأت السيدة حكيمة ابن أخيها الإمام يدعو أحدها ويقول له: خذه واحفظه حتّى يأذن الله فيه، فإنّ الله بالغ أمره.
فقالت حكيمة للإمام: ما هذا الطائر، وما هذه الطيور ؟
فقال : هذا جبرئيل، وهذه ملائكة الرحمة.
وتأتي حكيمة بعد أيام لتتفقد المولود فلا تجده !
لكنها فوجئت بصوت ابن أخيها الإمام العسكري (عليه السلام) وهو يقول لها:
هو يا عمّة في كنف الله وحرزه وستره وغيبه حتى يأذن الله له، فإذا غيّب الله شخصي وتوفّاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا فأخبري الثقات منهم وليكن عندك وعندهم مكتوماً، فإنّ ولي الله يغيّبه الله عن خلقه، ويحجبه عن عباده فلا يراه أحد حتى يقدم لـه جبرائيل فرسه (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا). (3)
مولد الشمس
هوَ الذي سيملأَ الأرضَ قمحاً وحبّاً وينثرُ الأحلامَ في حقولِ الأحداق ..
هوَ .. أبجديةُ الوحي، وخاتمتِهِ، وصبغةُ اللهِ، وكُنْهَ النبوُّاتِ ..
سنراه ..
أجلْ سنراه كما نرى الشمسَ وهي تبدِّدُ من حولها السَّحابَ، وتفتضُّ الليلَ بنشوةِ السَّحَر ..،
أو كقمرٍ أوَّبَ لوعدِ الله ...
يجيءُ ليُلقي ظلالَ الوحي،
ويرتّقُ جراحَ السنينِ،
ويرفأُ ندوبَ النفوسِ،
ويرقأ دموعَ الأنهارِ،
وهي تهمسُ بالماءِ للشاةِ والذئب ...
يتنفّسُه الصباحُ كالندى فتفوح به الأزهار ..
سيغمِرُنا بنورِهِ كما بزغَ الصوتُ الذي لا ينطقُ عن الهوى وهو يبشّرُ الفصول:
ـــ إي والذي بعثني بالنبوةِ إنّهم لينتفعون به، ويستضيئونَ بنورِ ولايتِهِ في غيبتهِ كانتفاعِ الناسِ بالشمسِ وإن جلّلها السحاب.
ـــ ستُخرِجُ الأرضُ أفلاذَها...
قال لهم .. وكالشلال .. ينسابُ النورُ حتى تمتلئَ أعمدةُ التواريخِ وتزهِرُ التراتيلُ على أضرحةِ المعنى.
وحتى في أطرافِ المدينةِ...
ستناغمُ الأفعى على دفءِ الأعشاشِ أصواتَ البلابلِ..
فلا صوتَ هناكَ للغرابِ
ولا سطوةَ للأسدِ على الظبي
ولا تحرسُ الكلابُ زوجةَ الفلاحِ العجوز.
سيشيرُ الحاكمُ ــ القائمُ ــ إلى قلبهِ المقدَّسِ..
فالقلبُ يعرفُ العدلَ المطلق
وهوَ الواضحُ أكثرَ منَ المرايا..
نسبُه وحي السماء
وفيضُ اللهِ مملكتُه النبوية
و...تقلّبه في الساجدين، تنثرُها رفيفُ الملائكة ..
ستظلّلهُ العصافيرُ بأجنحتِها،
والنبعُ ...،
النبعُ الراقصُ على شهقاتِ السواقي يغسلُ قدميهِ الحافيتين..
والريحُ تحملُ ندى الصباحِ لتتلألأ على شفتيهِ كلمةُ اللهِ
وهوَ يلقِّنُ الفجرَ تلاوةَ العشقِ:
ـــ ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأَرض ونجعلهم أَئمة ونجعلهم الوارثين...
عيناهُ تسرّانِ نوراً..
كلُّ شيءٍ موجودٌ في هذا العشق.
فهوَ: المنقذُ، والمصلحُ، الحاضرُ، الغائبُ ..
إنّه النهرُ الذي يغسلُ الروحَ من عذاباتِ الأرضِ ..
إنّه الأملُ الذي يشعُّ في خطوطِ الظلمة ..
إنه البسمة والرحمة ..
إنه الجمال والجلال ..
الحلم والعلم ..
العطاء والنماء ..
إنه: الأمرُ... الصعبُ المستصعبُ
الذي لا يتحمَّله إلّا نبيٌّ مرسل
أو ملكٌ مقرَّب،
أو مؤمنٌ امتحنَ اللهُ قلبَه بالإيمان.
فالعقلُ الكبيرُ لا يتبرّمُ من امتدادِ تضاريسِ المحنةِ ...
أمّا الفكرُ الضئيلُ فيسقطُ في متاهاتِ الهفوة ؟
ــ وإن الثاني عشر من ولدي يغيب حتى لا يُرى ويأتي على أمتي زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمُه ولا من القرآن إلا رسمُه فحينئذ يأذن الله بالخروج فيُظهر الإسلام ويجدِّد الدين، طوبى لمن أحبه وطوبى لمن تمسك به والويل لمبغضه ..
القلبُ المفعمُ بالحبِّ يُحلِّقُ في سماءِ الحقيقةِ ..
يسرجُ شراعَ الانتظار على شواطئِ اليقين ..
وفي كلِّ يومٍ يزدادُ ثقةً
وهو يخطو ... نحوَ العروجِ إلى دولةٍ كريمةٍ يرثُ فيها المباركونَ الأرضَ ..،
هي مسافة قلبٍ ..
مسافةٌ تفصلُ الزمن ..
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أَن الارض يرثها عبادي الصالحون ..،
مسافة حبٍّ تسابقُه دقّاتِ القلبِ فيها إلى المسارِ ... الملاذ .. المرفأ ....
لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
إنه المهديُّ، والخلفُ، والبقية، والصاحبُ، والصالحُ، والخليفةُ، والحجَّة، والإنسانُ...
كانَ القمرُ شاهداً على تحقيقِ الوعدِ الإلهي، فاكتملَ بهِ..
وأسفرَ مستبشراً بالمولودِ العظيم في هذه الليلةِ
قلوبِ المؤمنين متلهفة لإشراقةِ وجههِ النبويِّ منذُ يوم ولادته..
يقومُ وبيدِه صولجانُ النبوُّاتِ وبين يديهِ المسيحُ والخضرُ، وقد حملَ لواءَهما ليبثّ فيهما روحَ اللهِ من جديد.
روحَ آبائِهِ وأجدادِه:
وجعلَ من صلبِ الحسينِ أئمةً يهدونَ ويوصونَ بأمري ويحفظونَ وصيتي ، التاسعُ منهم قائمُ أهلِ بيتي ، ومهديّ أمتي ، أشبه الناسِ بي في شمائلِهِ وأقوالِهِ وأفعالِهِ ليظهرَ بعدَ غيبةٍ طويلةٍ وحيرةٍ مُضلّةٍ فيعلن أمرَ اللهِ ويظهر دينَ الحق..
ولتصبح كربلاء أنشودة نهضتهِ الحماسية، ولحنهُ الشجي.
يقومُ وفي عينيهِ دمعةُ الطفِّ، وعلى شفتيهِ ظمأ يومِ الطفِّ، وتغلي في دمائِهِ أصداءُ صراخِ الأطفال، تخترقُها واعية جده التي تتفطرُ لها القلوب. ويتدفّقُ لها الحزنُ العميق:
ـــ ألا من ناصرٍ ينصرنا ..؟
فيتجسَّدُ المشهدُ أمامَه، ويصعدُ الدمُ في جبينِهِ، فيقوم ضاجّاً متألّماً من هولِ المأساةِ.
فأيُّ دمٍ في ذلكَ اليوم قد سُفِك ؟
وأيُّ حريمٍ قد انتُهكت ؟
فمشاهدُ ذلكَ اليوم الحزين تتّحدُ في مخيلتِهِ بالحزنِ والألمِ لتشكّلَ هدفَه السماويَّ في إنقاذِ الأمةِ من الطواغيتِ والجبابرةِ ..
فهوَ الرمزُ الأعلى
والأملُ الأكبر
ويطولُ حزنُه وأساه على تفاصيلِ الفاجعة الأليمة واللوحاتِ المأساويةِ الناطقةِ التي ضمّها متحفُ التأريخ.
حيثُ يستبدُّ الحزنُ به حتى يصبح هذا الحزنُ ديدَنه ..
وتتغلغلُ صورُ عاشوراءَ في نفسهِ وتمتزجُ بدمهِ لتصبحَ جذوةً من الغضب.
ـــ من أنكرَ القائمَ من ولدي في غيبتِهِ ماتَ ميتةً جاهلية ..
يخضَّرُ الاغترابُ على قناديلِ المنائرِ ..
يتجلّى المعنى بهمساتِ الليلِ ..
يبوحُ بها الفجرُ عندَ أولِ ترتيلةٍ لصلاةِ الظهورِ ..
حيَّ على اللقاءِ ...
هكذا تبذرُ الأمنياتُ جدائلَها ..
أيُّها القدِّيسُ الغائبُ في فنارِ اللهِ ..
متى تثمرُ سدرةُ المنتهى ؟
متى تعشوشبُ أنفاسُ الليلِ المُتهجِّدِ بالنورِ ؟
متى تعانقُ مرافئُ الحنينِ أشرعةَ الخلاص ؟
متى تستيقظُ أرواحُ الكهفِ من سُباتِ الحَجَرْ ؟
متى تَّتقدُ بوصلةُ السماءِ على قبلةِ نزيفِ الطفِّ ؟
قوافلُ الدموعِ أسرَتْ من عيونِ التيه ..
الصوتُ ــ النبوءة ــ الذي أوقدَ في روحِها بوصلةَ الهدى تتبعه بقلبِها ..
قبلَ مسراها ..
تتوقُ له ..
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.
نرجس في مواجهة خطر السلطة
عاشت السيدة نرجس محنة أهل البيت وعايشتها في مواجهة عداء العباسيين لهم واضطهادهم والتضييق عليهم فنالت نصيبها من جور وظلم السلطة العباسية المستبدة، ففي ذلك الوقت استفحل عداء العباسيين للعلويين بعد أن عزم بنو العباس على محو الإمامة بقتل أي مولود يولد للإمام العسكري، فكثفت السلطة العباسية من المراقبة الصارمة والتضييق على بيت الإمام ورصد كل حركة ودسّ الجواسيس لرصد الأخبار.
وبعث المعتمد العباسي من يكشف عن دار الإمام، وكانت نرجس حاملاً بالإمام المهدي (عليه السلام) فأخفى الله حملها ولم يظهر عليها أي مظهر من مظاهر الحمل، ورغم ذلك فقد اعتقلت ووضعت تحت المراقبة الشديدة فواجهت ممارسات العباسيين بشجاعة وصلابة ويقين حتى ولدت الإمام
منزلتها الشريفة
حظيت السيدة نرجس (عليها السلام) بمنزلة سامية ومرتبة عالية عند الله عز وجل، وأهل البيت وقد ورد في زيارتها صفات ونعوت تجعلها في مقام الصديقات فوردت كلمات سامية مثل:
صديقة وطاهرة، وتقية ونقية، ورضية ومرضية، ووالدة الإمام، والمودعة أسرار الملك العلاّم، والحاملة لأشرف الأنام ....
ووردت أيضا هذه الفقرات: أشهد أنّك أحسنت الكفالة، وأدّيت الأمانة، واجتهدت في مرضات الله، وصبرت في ذات الله، وحفظت سرّ الله، وحملت وليّ الله وبالغت في حفظ حجّة الله، ورغبت في وصلة أبناء رسول الله، عارفة بحقّهم، مؤمنة بصدقهم، معترفة بمنزلتهم، مستبصرة بأمرهم، مشفقة عليهم، مؤثرة هواهم .....
كما ورد أيضا في زيارتها نعتها في الإنجيل وخطبتها من سيد الأنبياء والمرسلين كما جاء في هذه الفقرات:
السلام عليك أيّتها المنعوتة في الإنجيل، المخطوبة من روح الله الأمين، ومن رغب في وصلتها محمّد سيّد المرسلين، والمستودعة أسرار ربّ العالمين... السلام عليك وعلى آبائك الحواريين....
كما وردت فقرات أخرى دلت على منزلتها العظيمة عند الله وشفاعتها لمن توسل بها عنده، وما أحلها الله به من الشرف والجلالة في الدنيا والآخرة:
وأشهد أنّك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدية بالصالحين، راضية مرضية، تقية نقية، زكية، فرضي الله عنك وأرضاك، وجعل الجنّة منزلك ومأواك، فلقد أولاك من الخيرات ما أولاك، وأعطاك من الشرف ما به أغناك، فهنّاك الله بما منحك من الكرامة وأمراك.
وفاتها
لقد سخّرت هذه المرأة الطاهرة نفسها لله والإسلام والرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وتخلت عن حياة القصور وملذات الدنيا في سبيل الله، فآثرت حياة الخلد على الحياة الفانية فكانت مثالاً يُحتذى به في الحكمة والفضيلة والدين والصدق والإخلاص فجسّدت أروع مثال للمرأة المؤمنة..
وتشهد نرجس وفاة زوجها الإمام الحسن العسكري مسموماً من قبل المعتمد العباسي عام (260هـ) فيدب بقلبها الحزن العظيم والأسى الشديد، فقد فقدت السند في محنتها والملاذ الذي تلجأ إليه عند الشدائد، ولا يكتفي المعتمد بقتل الإمام فقد استدعى نرجس وأمرها بتسليم الإمام، وشدد في طلبه، ونقلها إلى داره وأحاطها بمجموعة من الجواري والنساء لمراقبتها ومعرفة أنها حامل أم لا ؟
غير أن الله أنجاها فقد اضطربت الأوضاع السياسية في الدولة فجعلتهم ينسون أمرها وخلصها الله من شرهم فلجأت إلى دار (الحسن بن جعفر النوبختي). وهو من كبار رجال الشيعة
ولكن مأساتها لم تنته عند هذا الحد فبعد موت المعتمد سنة (279) تولى بعده المعتضد وسمع بنرجس أنها في دار النوبختي فأمر بإلقاء القبض عليها وأودعها في سجن القصر وطالبها بالإمام وبقيت في سجنه حتى فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها في عهد المقتدر.
.....................................................
1 ــ إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب ص 258
2 ــ بحار الأنوار ج 51 ص 2
3 ــ وردت قصة السيدة نرجس ولقائها بالإمام الحسن العسكري وزواجها منه في العديد من المصادر المعتبرة منها: كمال الدّين وتمام النّعمة للشيخ الصدوق ص422، بحار الأنوار للمجلسي ج 51 ص 8، تاريخ الغيبة للطوسي
اترك تعليق