رحلة بيترو ديللا ڤاليه إلى كربلاء

رغم التباين الكبير في آراء الكتاب والنقاد حول المستشرقين ومدوناتهم التي عكست دراساتهم ومشاهداتهم في الشرق إلا أن مما لا ينكر هو أن هذه الدراسات والمدونات قد كفلت توثيق الحضارة المدنية وصون التراث الإسلامي والعربي من الضياع, حيث اهتم المستشرقون بتطور المجتمع التمدّني وما رافقه من أحداث على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية, فتميزت دراساتهم حول المدن بالدقة والإلمام باليوميات, والأمانة في النقل بحيث يسهل على الباحث في تراث المدن الرجوع إليها, ونرى ذلك جلياً في مدوّناتهم عن كربلاء وما شاهدوه فيها فكوّنوا بذلك مادة خصبة, وصور تاريخية مهمة من تاريخ هذه المدينة.

في عام (1205هـ/1616م) قام عالم الآثار الإيطالي بيترو ديللا ڤاليه (1586 ــ 1652) برحلة إلى الشرق استمرت خمس سنوات بين عامي: (1616 ــ 1621) زار خلالها إيران وفلسطين والعراق والهند وتعد هذه الرحلة من أغنى الرحلات الإستشراقية حيث كان ڤاليه أول من نقل إلى أوربا ألواح الآجر المنقوشة بالكتابات السومرية والتي عنيت باهتمام الأوربيين كما حمل معه بعض المخطوطات والمسكوكات واللوحات والآثار التي تعود إلى عصور مختلفة حتى تحوّل قصره في روما بعد رجوعه إليها متحفاً عرضت فيه هذه النوادر للزائرين كما تأثر برحلته كثيراً الشاعر الألماني غوته الذي قال:

إن قراءة رحلة ديللا فاليه كشفت لي عن الشرق.

 فلم يكن قاليه مجرد سائح فقط بل كان عالم آثار مطلعا على الحضارات الشرقية وآثارها اتقانه العديد من لغاتها خلال رحلته منها التركية والفارسية والعربية والكلدانية إضافة إلى معرفته مسبقا باليونانية واللاتينية, وقد زار آثار بابل والكفل وأور ومدح أهلها ووصفهم بالطيبة والكرم وكتب مشاهداته ووصفه لها باللغة الإيطالية على شكل رسائل وكان يبعثها إلى صديقه ماريو سكيبانو أستاذ الطب في نابولي وقد طبعت هذه الرسائل في مجلدين عام (1653) وترجمت إلى عدة لغات أوربية. (1)

ديللا فاليه في كربلاء

يصف فاليه كربلاء ومرقد الإمام الحسين عند وصولها إليها بالقول: وصلنا إلى (مشهد الحسين) وهو موضع استشهاده في أرض كربلاء وهو مدفون هناك والموضع مأهول بالسكان وضريحه مزين وعليه بناء فخم على الطراز الإسلامي وهو مكان مقدس يزوره المسلمون.

كانت كربلاء آنذاك تحت حكم القزلباش الصفويين الذين انتزعوها مع بغداد من العثمانيين كما يقول فاليه ولكن الحالة الأمنية لم تكن مستقرة فقد كان على من يريد دخول المدينة دفع الإتاوة إلى حاكم البادية ناصر بن المهنا وكان هذا الشخص يتزعم قبيلة آل مهنا وهي من عشائر جشعم العربية وقد استغل انشغال السلطة العثمانية بحروبها فاستولى على المنطقة الممتدة من النجف إلى الفلوجة وفي عام (1013هـ/1604م) تمكن من الفتك بالحامية العثمانية في كربلاء والسيطرة عليها واتخاذها مركزاً لحكمه وأطلق على نفسه لقب (ملك) حتى انتزعها منه الشاه عباس الكبير الصفوي عام (1042هـ) وقد اتسم حكم آل مهنا بالفوضى والسلب والنهب واستغلال الناس وسرقتهم.

ويظهر ذلك من خلال وصف فاليه في تعاملهم معه ففي ذلك الوقت (1205هـ/1616م) آل الحكم إلى الشيخ أبي طالب ابن ناصر بن مهنا بعد أن بلغ أبوه من الكبر عتيا فاعتزل الحكم بعد أن حج بيت الله وتنازل لابنه أبي طالب وأثناء تواجد فاليه عند أبواب كربلاء جاء رجال أبي طالب لأخذ الإتاوة منه ورغم رسالة التوصية التي يحملها من والي البصرة إلا أن فاليه دفع ما ترتب من المبلغ المفروض عليه وعلى الحملين الذين معه وهو خمسة عشر قرشا.

أقام فاليه في خان في كربلاء عدة ليالٍ وفيه تعرف على تاجر تحف إيراني وكان فاليه مولعاً باقتناء التحف والنفائس فاشترى منه عدة مجوهرات نفيسة ومسابح وقطعا نقدية ومسكوكات تعود إلى عصور مختلفة بينها العصر الساساني والأموي والعباسي وعصر المماليك.

وقد وصف فاليه بدقة الحياة الاجتماعية والعادات والتجارة وغيرها ومن العادات التي ذكرها في تلك الفترة ما وصفه عند خروجه من كربلاء أنه صادف شجرة الصريم في طريقه فألقى عليها أحد أفراد قافلته حجراً فلما استفسر منه عن السبب قال له إن أهل البلدة يتشاءمون منها عندما تكون في طريقهم فيرمونها بحجر لكي يبطل الشر.

ويذكر أن فاليه قد تزوج خلال رحلته وذلك أثناء إقامته في بغداد من فتاة بغدادية وذهبت معه لكنها لم تصل إلى روما فقد ماتت في إثناء زيارته لإيران.

........................................................................

1 ــ رحلة ديللا فاليه إلى العراق ترجمة وتحقيق بطرس حداد

 

 

المرفقات

: محمد طاهر الصفار