عاشت مدينة سامراء عصراً ذهبياً أثناء وجود المجدد السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي (1230-1312هـ) والذي يعد من كبار مراجع التقليد وعظام علماء الإمامية وأساتذة الفقه والأصول والذي وصلت إليه رئاسة المذهب الجعفري في عصره.
بذل المجدد الشيرازي منذ انتقاله إلى سامراء جهوداً كبيرة لإيجاد مؤسسة دينية وعلمية عظمى في هذه المدينة خلال سنوات تواجده فيها, وكان للدور العظيم الذي قام به في نهضته العلمية وتشييد مدرسته الدينية أثراً كبيراً في استعادة سامراء مكانتها العلمية والثقافية فاستقطبت كثيراً من العلماء والطلاب الذين هاجروا من البلاد الإسلامية كافة ليحظروا دروسه.
أسس المجدد هذه المدرسة العظيمة سنة (1308هــ) وبدأ نشاطها العلمي منذ تأسيسها وقد تخرج على يد المجدد الشيرازي كثير من أجلاء العلماء وأفاضل الفقهاء وأهل التحقيق البالغين مرتبة الاجتهاد ومن أبرز هؤلاء العلماء الأعلام الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي الحائري (زعيم ثورة العشرين) والذي يعد من كبار العلماء وأعاظم المجتهدين المجاهدين, والسيد محمد الفشكاري الأصفهاني, والشيخ أغا بزرك الطهراني وغيرهم.
ازدهرت سامراء في عصر المجدد الشيرازي الذي نقل إليها الفكر الشيعي وانتشر بفضله في هذه المدينة، يقول محمد حسين المظفر: ولما قطن فيها ــ أي سامراء ــ زعيم أهل الدين في عصره السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي استعاد التشيّع فيها نشاطه وهاجر إليها كثيرٌ من أبناء العلم وأرباب المكاسب. (1)
وقد أثار ظهور التشيّع المفاجئ في سامراء حفيظة العثمانيين الذين سعوا إلى الحد من نشاطه، يقول الدكتور علي الوردي:
وقد أثار انتقال الإمام الشيرازي إليها ــ أي سامراء ــ قلق العثمانيين بعد أن فاجأهم الحضور الشيعي فيها بشكل سريع من انتقال الفكر الشيعي إليها بعد قيام الإمام الشيرازي بإعلان فتواه في تحريم (التنباك) خلال انتفاضة التبغ في ايران بين (1891-1892) مما دفع بعض المسؤولين العثمانيين في العراق إلى توجيه نداءات متكررة إلى اسطنبول للوقوف أمام انتشار التشيّع في العراق وكان رد فعل اسطنبول هو اقامة مدرستين في سامراء سلّمت ادارتها إلى شيخ من مشايخ المتصوفة. (2)
لكن المدرسة بقيت تواصل نشاطها، ولم تخل سامراء في عهد المجدد الشيرازي من الوافدين لطلب العلم من الكثير من البلدان وحتى بعد وفاته (رحمه الله) فقد حافظ تلاميذه على مؤسسة أستاذهم وأبقوها متفاعلة ومتواصلة ومستمرة وهو ما كان يحرص عليه الإمام الشيرازي وذلك وفاء منهم لأستاذهم.
وبقي تلميذه من بعده الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي يعد من أبرز تلاميذه لأكثر من عقد ونصف من الزمن مواصلاً الدرس والبحث ومهمة الإفتاء وأصبح بعده مدرساً لطلابه حتى احتلال سامراء من قبل القوات البريطانية عام 1917 وانتقال الميرزا محمد تقي الشيرازي إلى كربلاء. ولا تزال هذه المدرسة قائمة حيث جددها المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوارف) عام (1438).
عرف الإمام المجدد الشيرازي بمواقفه العظيمة التي وقفها في سبيل إصلاح واقع المسلمين ووحدتهم والتصدي لأعدائهم ولم تقتصر مواقفه على الساحة الدينية والفقهية بل تعدتها إلى الساحتين السياسية والاجتماعية ومن أبرز هذه المواقف موقفه من معاهدة بيع امتياز إنتاج التبغ في إيران التي ذاع صيتها في البلدان وكثر فيها الحديث.
وقد ذكر هذه المسألة مفصّلة الدكتور المرحوم حسين علي محفوظ الذي عرّبها عن نسخة مخطوطة باللغة الفارسية عند الميرزا محمد الطهراني بسامراء ودوّنها كاملة (3)
يتحدث الكتاب ــ المخطوطة ــ عن هذه الحادثة في البداية عن استيلاء دول الأجانب على بلاد إيران وسلبها خيراتها حتى يصل إلى زيارة السلطان ناصر الدين شاه القاجاري إلى لندن في سنة 1306هـ وهي بداية القصة حيث استقبلوه استقبالاً عظيماً، وهو غافل عنهم ثم عرضوا عليه شراء امتياز التبغ الإيراني لمدة خمسين سنة وشرطوا عليه أحد عشر شرطاً تضمّنت كثيراً من التعسّف والظلم بحق الشعب الإيراني، وانتشر الخبر في إيران وكثرت الشكاوى فلاذوا بالإمام الشيرازي وكان ممن كتب إلى الإمام يستجير به ويسأله التدخل السيد جمال الدين الافغاني.
وكثرت الكتب والشكاوى لدى الإمام من العلماء والأشراف والتجار فكتب (رحمه الله) إلى السلطان كتاباً مفصلاً أوضح فيه ما يجب إيضاحه فأرسل السلطان جواب كتابه أنه لا يجوز للسلطان التراجع عن كلمته وأوصى القنصل حامل الرسالة أن يبذل جهده لإرضاء الإمام, لكن الإمام لم يقبل بهذه الأعذار الواهية وأجاب عنها بكتاب ثانٍ أدلى فيه ببراهين قاطعة أخطاء هذه المعاملة الفاسدة وختمها بقوله:
إن عجزت الدولة عن الجواب فلسنا بعاجزين وإن لم تقدر أن تجيب الخصم وتطالب بحقوق الملة فخل بيننا وبينه ولمّا لم يعمل السلطان شيئاً أصدر الإمام فتواه التي دوّى صداها في العالم الاسلامي في تحريم التتن والتنباك واضطربت الحكومة الايرانية أمام هذه الفتوى التي قصمت ظهور أصحاب الامتياز فقفلوا راجعين إلى بلادهم بخفيّ حنين.
كان للإمام الشيرازي منزلة كبيرة بين علماء عصره وكان على منزلته الكبيرة متواضعاً يكرم العلماء والأدباء وقصته مع الشاعر السيد حيدر الحلي تعطينا صورة سامية عن صفاته وأخلاقه الكريمة ونفسيته العظيمة.
فقد نقل العلامة الشيخ محمد علي الأوردبادي عن الحجة السيد ميرزا علي آغا نجل المجدد الشيرازي قال: كان الإمام المجدد الشيرازي يستدعي الشاعر السيد حيدر الحلي إلى سامراء ليستمع إلى شعره وعندما هنّى السيد حيدر والدي بقصيدته الهمزية في ذكرى مبعث النبي (ص) رأى أن يكرم الشاعر بعشرين (ليرة) فاستشار ابن عمه العلامة السيد ميرزا اسماعيل الشيرازي في ذلك فاستقل الميرزا إسماعيل وقال لابن عمه الإمام الشيرازي: ما قولك في دعبل والكميت ومنزلتهما عند الإمام الصادق والامام الرضا (عليهما السلام) فهل هما أفضل أم السيد حيدر وهو ابن رسول الله (ص) ؟ فقال: إنه افضل منهما. قال إذاً يجب أن تكرمه بأقصى ما تشعر من أنواع التكريم، فلم يبق للإمام الشيرازي دون أن صحب معه مائة ليرة وذهب لزيارته وعندما دخل عليه تناول يد الشاعر حيدر الحلي فقبّلها بعد امتناع شديد من السيد حيدر.
كتب عن الإمام الشيرازي العديد من الأعلام وتُرجمت سيرته كثير من كتب السير والتراجم, وكتب عنه تلميذه الشيخ آغا بزرك الطهراني دراسة بعنوان (هدية الرازي) ومما جاء في ترجمته:
السيد ميرزا حسن بن السيد محمود بن محمد بن إسماعيل الحسيني الشيرازي انتهت إليه الزعامة الدينية في عصره, أذعنت له الملوك هيبة وإجلالاً وقدّسته الملايين من المسلمين تقديساً صحيحاً, ولد في شيراز سنة 1230هـ ونشأ بها على أبيه وهاجر إلى أصفهان وعمره 12 عاماً لإكمال دراسته فيها ثم هاجر إلى النجف عام 1259هـ فاتصل بالإمام الشيخ مرتضى الانصاري وقرب منه ونال مكانه سامية عنده, وبرز بين أخدانه من أعلام الفقه فأصبح يُشار إليه بالبنان وعند وفاة أستاذه الإمام رشح لمقام الرياسة وانظمت إليه الصفوف وتهافت الناس عليه من كل حدب وصوب ينهلون من منهله العذب...
مدح الإمام المجدد كثير من الشعراء في عصره لما رأوه من مكانته العلمية وكان أبرز من مدحه السيد حيدر الحلي في كثير من القصائد والمقطوعات منها هذه الأبيات:
لقد أطلقَ الحـــــسنُ المكرماتِ *** مُحيَّــــــــاكِ وهوَ بــها سافرُ
فأنتَ حديــــــــــــــــقة أنسٍ به *** وأخــــلاقُه روضُــك الناظرُ
عليمٌ تربّـــــــــى بحجرِ الهدى *** ونســـجِ التقـى بـردُه الطاهرُ
هو البحـــــرُ لكنْ طما بالعلومِ *** عـــــــلــى أنّه بالنـدى زاخرُ
على جـــودِهِ اختـلفَ العالمونَ *** يبشّـــــــــرُ واردَها الصادرُ
بحيثُ المنى ليسَ يشكو العقامَ *** أبوها ولا أمــــــــــــها عاقرُ
فتىً ذكرُه طارَ في الصالحاتِ *** وفي الخـــــــافقينِ بها طائرُ
لقد جلّ قدراً فــــــــــــلا ناظمٌ *** ينـــــــــــــالُ علاهُ ولا ناثرُ
وله في مدحه (قدس سره) من قصيدة أخرى:
نشأتْ بســـــــــــــامراء أنمله *** ديمــــــاً تعمّ الأرضَ بالقطرِ
وكأنّه فيــــــــــــــها وصفوته *** أهلُ النهى والأوجــــــهُ الغرُّ
قمرٌ توسّــــــــــــطَ هالةً فغدا *** فيها يحـــــــفُّ بشهبِها الزهرُ
محمد طاهر الصفار
............................................................................
1 ــ تاريخ الشيعة ص 103
2 ــ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ج 3 ص 97
3 ــ موسوعة العتبات المقدسة ــ قسم سامراء ــ باب مآثر الكبراء في تاريخ سامراء ص 154
اترك تعليق