كما ينعب الغراب على شجرة يابسة في أرض جرداء .. كانت هذه الكلمة تدوّي في رأسه فتستيقظ على صداها الوحوش الكاسرة في داخله مكشرة عن أنيابها بادية مخالبها .. الليل يخيّم على المدينة والسكون يسود المكان إلا من عواء متقطع لذئاب جائعة يأتي من بعيد فيزيد أنفاسه نزعة جامحة ..
إنها نزعة الجريمة تطفح في عينيه .. أجهده الأرق, فاضطجع وقد فتح عينيه اللتين زادتا احمرارا فبدتا كعيني وحش كاسر يحوط فريسته, فذاته المنفصمة تتأرجح بين ضميره وإرادته .. بين قلب يعرف الحق ولكنه لا يريده, بل يريد خنقه في داخله بيد ملوثة وبين ... كان رأسه كدوّامة ما لها من قرار, يعرف أن تنفيذ ما كُلّف به من جريمة هو العار بذاته وإن مصيره الخلود في جهنم والخزي في الدنيا, لكن ما منّوه به مقابل ذلك أغرقه في بحر شديد الظلمة, كان يتمتم مع نفسه.. الحسين.. الري.. الحسين سيد شباب أهل الجنة.., ابن فاطمة بنت محمد, وهو من الذين أنزل الله فيهم "قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى" فأين ما طلب منه من هذه الآية ؟ ولكن إن لم يفعل ... فلن يحصل على الري !
ابتسم ابتسامة شيطانية وهو يتخيّل هذه البلاد الواسعة المترامية الأطراف, والمساحات الخضراء الممتدة, والينابيع المتدفقة وسط الري, والجواري الجميلة حوله, وأنغام الموسيقى تشنّف أسماعه, وكؤوس الخمر تدبّ في رأسه, تنهّد منتشياً وهو يبلع ريقه لهذه التخيّلات ورغم أنه كان خافضاً صوته وهو يحادث نفسه فقد كان لأبياته صدى في ذلك الصمت الرهيب:
فواللّه ما أدري وإنــــــــي لـحائرٌ *** أفكّرُ في أمــــري على خطرينِ
أأتركُ ملكَ الرّيِّ والرّيُّ مـــنيتي *** أم أرجعُ مأثــــــوماً بقتلِ حسينِ
حسينُ ابن عمي والحوادثُ جمّةٌ *** لعمري ولـي في الرّيِّ قرةُ عينِ
وإنَّ إلهَ الــــــــعرشِ يغفرُ زلّتي *** ولو كنتُ فــــــــيـها أظلمَ الثقلينِ
ألا إنمـا الدنيا بـــــــــخيرٍ معجّلٍ *** وما عاقلٌ بـاعَ الـــــوجـودَ بدينِ
يقولونَ إن اللّه خـــــــــــالقُ جنةٍ *** ونارٍ وتعذيـبٍ وغـــــــــــلِّ يدينِ
فإن صدقوا فيما يـقولـــون إنني *** أتوبُ إلى الرحمــنِ من ســـنتينِ
وإن كذبوا فزنا بدنــــيا عظيمةٍ *** وملكٍ عظيـــــــــــمٍ دائمِ الحجلينِ
كانت لا تزال النجوم في السماء عندما خرج من داره لكي لا يسبقه أحد إلى تنفيذ هذه الجريمة ويفوّت عليه فرصة ملك الري وبعد ساعات من الإنتظار وقف فيها كالكلب عندما ينتظر صاحبه لكي يطعمه, كان يقف أمام ابن زياد ليقول له:
ــ أنا طوع أمرك !!
ارتقى صهوة جواده ليقود ذئاباً بشرية مسعورة أسكرتها شهوة القتل والنهب والسلب, نظر إليهم فرأى أن ما يموج في أعماقهم ويطفح على وجوههم هو نفس ما بداخله من الدوافع الدنيئة التي تنزو في أعماقه, ورغم أنه شعر بحقارة نفسه إلا أنه شمخ بأنفه مستصغراً أن يقوم أحد مقامه وخاصة ذلك الأبرص الخبيث الذي كان يحاول الايقاع به ليحل مكانه ..
تسمّرت حوافر الخيل في كربلاء ونصبت له خيمة محاطة بالحراس كأنها وكر للصوص, كان مستلقياً في خيمته عندما سمع جلبة وقد دخل أحد الحراس ليقول له: إن رسول الحسين جاء إليك !!
خرج مسرعاً لينظر إلى ما جاء به الرسول .. كان الرسول رجلاً هادئ القسمات ثابت الجنان مطمئناً عليه سمات النبل فشعر برعشة وهو ينظر بعينيّ الرسول كأنه مجرم وُجِد متلبساً بجريمته فأدار وجهه وقال بصلافة: ماذا تريد ؟
ــ أرسلني الحسين للاجتماع بك بين العسكرين.
ـــ ومن معه ؟
ــ أخوه العباس وابنه علي.
فالتفت إلى خادمه دريد وابنه حفص وقال: انهضا معي.
كانت روح الشيطان تنفث فيه وهو يمشي مصمماً على ما بيّته .. تراءى له الحسين كالجبل الأشم وهاله أن يراه وهو بتلك السكينة والطمأنينة رغم قلة أنصاره والموت محدق به, فخاطب نفسه: أية شجاعة هذه ؟ أيقاتل هذا الجيش بسبعين رجلاً ؟ أفاق من تخيّلاته فشعر كمن اصطدم بحجر صلد عندما سمع صوت الحسين:
ــ أتحاربني يا ابن سعد وأنا ابن من تعرف ؟ كن معي ودع هؤلاء ...
انتصبت أحلامه كالأصنام أمام عينيه تدعوه لعبادتها وتجسّدت له القصور والقناديل الذهبية المضيئة والخدم والحشم فاستحوذت على عقله فقال:
ــ سوف يهدمون داري.
ــ أنا أبنيها لك.
شعر إنه اصطدم بحجر أقوى, لكن شيطانه وسوس إليه ثانية فصوّر له أنغام الموسيقى والنفوس نشوى تطير في عالم مسحور فقال وقد علت وجهه مسحة الشيطان:
ــ وبساتيني إنهم سوف ينتزعونها مني.
ــ أعطيك البغيبغة فيها زروع كثيرة ونخيل.
انتصب شيطانه ليصرخ في داخله: ما مقدار ما تنتجه هذه البغيبغة أمام بساتين الري ؟ وتخيّل نفسه جالساً وحوله الجواري وهن يرفلنَ بالحرير الملوّن والخمرة الرومية ورائحة الشواء والحلوى الفارسية والعطور الهندية فقال بخبث:
ــ وعيالي إنني أخشى عليهم بطش ابن زياد.
كان قد تحول إلى مسخ فلم يعد يأبه لما يقال له ولم يبالِ وهو يسمع الحسين يقول له: مالك ذبحك الله على فراشك إنك لن تأكل من بر العراق إلا يسيراً.
أدرك ابن سعد إنه قد سحق أدميته عندما نطق الشيطان في أعماقه منتصراً قائلا: في الشعير كفاية ...
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق