الحداثة بأبسط مفاهيمها هي سمة للأقوال والاشياء غير المعروفة او المألوفة من قبل.. وهي لا تنفصل عما قبلها وما بعدها فلكل عصر حداثته.. والحداثة هي حركة عالمية ولدتها قوى مختلفة بلغت ذراها في دول وازمان مختلفة ... ففي بعض المجتمعات اساءت الحداثة الى موروثها كبعض المدارس الفنية الاوروبية.. وفي مجتمعات اخرى عُدت تطوراً وامتداداً لتراثها وحضارتها كما حصل عند دخول التيار الحداثوي على المجتمع العراقي وتأثيره المباشر على ثقافته المتنوعة . ولا تفاخر او مغالاة حينما نقول - ان الثورة المعلوماتية الأولى والكبرى قد تحققت قبل ما يزيد عن خمسة الآف عام في العراق.. حين اخترعت الكتابة -، وانما هي حقيقة علمية مستندة الى تطابق الهدف والوسيلة.. فقبل اختراع الكتابة كان الأنسان في مسيرته الحضارية يعوزه الهدف وتنقصه الوسيلة، وحين توصل الى تحديد الهدف تمكن من ابتكار الوسيلة واصبح الهدف هو منع موت التجربة مع صاحبها ومع جيلها وفي مهدها ان صح التعبير، وانما تحقيق نقلها للأخرين عبر المكان والزمان، ومن جيل لأخر وبهذا ضامن لاستمرار التطور بإيقاع متصاعد بتراكم الخبرات فوق بعضها... وحين وضح الهدف تحرك الأنسان في العراق لاختراع الوسيلة فكانت هي الكتابة.. وهذا ما قاد الانسان الى التحديث وصياغة حياته بصيغة متطورة وحديثة مكنته من التكيف مع البيئة ومن ثم نقل هذه الخبرات الى الاجيال اللاحقة والتي حذت حذو الاقدمين في تحديث ما سبقها. اللوحة اعلاه تحمل توقيع التشكيلي العراقي رافع الناصري، وهي تمثل احدى التجارب الحداثوية التي سادت على الحركة الفنية العراقية في النصف الثاني من القرن المنصرم .. والتي تعكس ببنيتها الشكلية واللونية المجردة جمالية الفن العراقي الحديث وامتداد جذوره الى الفنون الرافدينية الاولى ..
رسمت اللوحة بمادة الزيت و مواد اخرى على القماش .. وتتكون من مربع غامق وبداخله آخر وكأنه مقطع هندسي من جدار متهرئ قديم.. ويستدل على ذلك من طبيعة الملمس الذي احتواه المربع، فضلا عن وجود مساحة اقترب فيها اللون من الخلفية وكأن هناك فجوة يرى من خلالها ما هو موجود خلف ذلك المربع .. وايضاً نلاحظ ان احد الاضلاع مفتوح وكأن هذا المربع غير مكتمل، الا ان وجود شريط او عمود يخترق اللوحة من الاعلى الى الاسفل ترك اثرا في المربع الوسطي الذي يعكس طبيعته الشفافة ليشكل لغة بصرية قائمة على التداخل بين الاشياء بصريا وهذا يعكس طبيعة مكان متخيل قد يكون في اي بقعة من بقاع الارض . تميز هذا التكوين الفني بأن حجم التجريد فيه قد اسس للابتعاد عن تشخيص الاشياء.. سوا عملية تشخيص مقطع منه وهو المربع المتداخل، وحتى هذا التشخيص قد ابتعد ذاهباً باتجاه منحى هندسي خالص مما اضاف بعدا تجريديا اخر.. فالعملية التي تعكس طابعا جماليا له علاقة بفن الكرافيك - الذي تقترب منه اللوحة بأسلوب تنفيذها – قد انطلقت من الاجزاء على انها هي الموضوع مما لا يعطي انطباعا بكمال الشكل.. فيذهب بذلك المشاهد باتجاه ان أي من مفردات العمل لها دلالتها الخاصة وفي ذات الوقت لها ابعاد جمالية عالية ايضاً رغم تجريديتها، فينفتح المعنى بشكل ابعد مما هو عليه في الواقع والدخول في عالم الخيال والحداثة رغم وجود بعض الضرورات الرمزية كتلك النقاط المنظمة التي عمد الفنان الى ترك اثارها في اعلى اللوحة للولوج في منظومة التأويل وفتح المعنى بصورة اوسع لدى المتلقي . هذه الاشارات والعلامات الايقونية تبقي المكان مبهما عند القارئ ومفتوحا عل كل الاحتمالات، فالطابع الجمالي الطاغي على اللوحة بقي ضمن صياغات تجريدية ذات قيم فنية لها ارتباط بالحداثة بالدرجة الاولى، ولم يبقَ كل ذلك في حيز التجريد الخالص، اذ عاد الناصري لتأكيد هوية المكان من خلال مقطع صغير من الحروف العربية شكل نسبة ضئيلة من مساحة اللوحة.. وهذا ما احال كل هذه المقاطع المجردة لأن تبعث برسائل منطلقة من هوية هذا العمل.. ابدع الفنان في جعل هذه اللوحة تذهب بعيدا في عالم الحداثة ومجرداته، الا انه بقي يبعث بإشارات تعكس طبيعة انتماء تلك المجردات وهي تشكل جزءاً من بنية الفن العراقي الحديث.. فحداثة الموضوع كانت لها خصوصيتها الاسلوبية والشكلية في الرسم العراقي وشكل التوظيف الرمزي شكل بعداً رياديا في حركة اللون والشكل ودلالاتهما داخل اللوحة لتحقيق صورة خاصة لأسلوب الفنان العراقي مَيَّزته وفرضت بصمته الخاصة اسلوبياً .
سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق