قد لا تكون المظلومية دائماً سبباً للانتصار، لانَّ المظلوم أحياناً يساهم في صناعة الظالم، فيكون شريكه في الظلم والطغيان، وذلك عندما لا يحرّك ساكناً، ولا يبدي ردة فعلٍ تجاه ما يراه من مظاهر الظلم والاضطهاد والاعتداء والتجاوز على الحقوق الشخصية أو النوعية, فالذي يسلّم عنقه للجلّاد يساهم في قتل نفسه، ويسهّل على الجلّاد المهمة، بينما الذي يُمانع ويُدافع يصعّب على الجلّاد المهمة، ويجعله يفكّر بجد في كيفية قتله.
ومن هنا نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن هذا الصنف من المظلومين يصفه بالظالم، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[30]
فهذه الآيات تتحدث عن المستضعفين والمستكبرين وتصفهم بالظالمين، مع أنَّ المستضعفين مغلوب على أمرهم، وقد وقعوا تحت تأثير المستكبرين، وما ذاك إلاّ لانهم كانوا يعيشون حالة الضعف والاستسلام أمام المستكبرين.
والآيات تشير الى ظاهرة خطيرة يمكن أن تعيشها الامة، وهي عندما يتحوّل السكوت والضعف والاستسلام الى ثقافة فيما بعد, بحيث يكون الخروج عن ذلك مخالفةً صارخة للمألوف والمعروف، ويكون نشازاً، ومن هنا نجد أنَّ الحكومة الاموية سعت بشكل كبير الى تأطير هذه الحالة، حالة السكوت والاستسلام التي كانت تعيشها الامة، بأطر إسلامية من قبيل حرمة الخروج على الحاكم الجائر، وقد نجحت الى حدٍّ كبير، لولا النهضة الحسينية التي قَلَبَت كلَّ الموازين، ولهذا نجد في الاحاديث الحثَّ الاكيد على مخالفة الظالمين وتسجيل موقف الادانة والشجب، وضرورة الخروج عن صفة الاستسلام والضعف، فمن ذلك ما ورد عن النبي الاكرمصلى الله عليه وآله وسلم : ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))[31]، والسلطان الجائر يشمل السلطان المسلم، والسلطان غير المسلم، ولنا أن نتساءل، كيف يكون ذلك من أفضل الجهاد ؟ والجواب: إنَّ ترك السلطان الجائر يعيث في الارض فساداً دون رادع لاسيما إذا كان مسلماً يشكّل خطراً كبيراً على مستقبل الاسلام، لأنه يحكم باسم الاسلام, يقتل، يضطهد، ينتهك، يشرّع، ويفعل كل شيء باسم الاسلام، والناس على دين ملوكهم، فيتحول ذلك ـ تدريجياً ـ الى جزء من الثقافة الاسلامية، وورد عن الامام الحسين عليه السلام قوله: ((أما بعد فقد علمتم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في حياته: " من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحُرَم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر بقولٍ ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله))[32]، وفي هذا الحديث يشير الامام عليه السلام الى الحقيقة التي نتحدث عنها، وهي أنَّ المظلوم الساكت يشارك الظالم في ظلمه وجوره، لأنه لم يغيّر عليه بقولٍ ولا فعل، ومن ثَمَّ يتحوّل هذا المظلوم الى ظالم، على حدِّ تعبير الآية المتقدمة.
ويمكننا ـ بعد هذا ـ أن نقول بشكل صريح: إنَّ السكوت عن جور السلطان والاستسلام له, من أعظم الفتن التي تعصف بالمجتمع الاسلامي، لأنه لا يُري الناس إلاّ ما يريد هو أن يروه، ولا يسمح لهم بالاعتقاد إلاّ وفق ما يعتقد هو, قال الله تعالى حكاية عن فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[33]، ومن هنا جاء قوله تعالى ـ وهو يتحدث عن الغاية من الجهاد, أو إحدى غاياته ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}[34]، فليست الغاية قتل المفسدين بالضرورة، وانما المهم قتالهم، وعلى حدِّ تعبير أحد الباحثين: ((إنَّ الهدف الاصلي للجهاد الاسلامي ليس الانتصار على الاعداء كأشخاص بل انتصار الغايات والاهداف حتى مع بقاء أشخاص الاعداء ويتحقق ذلك بتوجيه أفكار عموم الناس ضد هؤلاء المفسدين)) [35].
إذاً الغاية قتل الفتنة والحيلولة دون ضلال الناس وانحرافهم، وليس المهم قتل رموز الفتنة وقادتها، إذ بعد القضاء على الفتنة لا يبقى لأصحابها أيَّ دور في إذكائها.
ومن خلال ما تقدم كله اتضح؛ أنَّ المظلومية المهزومة لا يمكن أن تنتصر، لأنها تعيش روح الاستسلام والضعف والذل، وهذه المظلومية ليست محلّ كلامنا وبحثنا، لأنها لو وُضعت في إحدى كفتي الصراع بين الحق والباطل لكانت في كفة الباطل ضد الحق، وفي الحديث: {الساكت عن الحق شيطان أخرس}[36].
وكلامنا في المظلومية الثورية التي لا تعرف الاستسلام، الداعية الى الانتصاف من الظالم، التي لا تتجرّع الذُل أبداً، لأنها تعيش روح الاباء والعزة والكرامة، تلك هي مظلومية الامام الحسين عليه السلام التي لطالما تغنى بها ابطال العالم واحرارهم وهم يعيشون الصراع ضد الباطل، ويخوضون الحروب ضد الاعداء، والحقيقة أنَّ الامام الحسين عليه السلام قد أسس لانتصارٍ من نوعٍ فريد لم يكن ليخطر ببال، إذ لم يكن ليُتصوّر أن ينتصر المقتول على القاتل، أو ينهزم الحاكم الظالم الطاغي على يد ثائر لا يملك من سلاح سوى هذه الكلمة: ((والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فرار العبيد)) [37], ولكي تتضح هذه القضية لابدَّ من تسليط الاضواء عليها أكثر.
المجتمع الاسلامي في عصر النهضة.
هناك حالتان بارزتان كان يعيشهما المجتمع الاسلامي في عصر النهضة الحسينية:
الحالة الاولى: الشعور بالمظلومية والاضطهاد والذل ومصادرة الحريات الشخصية والنوعية، وهذه الحالة كانت سائدة في المجتمع وعند الكثير من الشخصيات الاسلامية كبقايا الصحابة, حيث يشعرون بالاضطهاد الديني لانهم يعلمون مدى خطورة انحراف الحاكم ومدى تأثير ذلك وانعكاسه على الواقع الاسلامي.
الحالة الثانية: حالة الضعف والانهزام، وهي حالة سائدة وعامة أيضاً، ولها مبرراتها، ولعلّ من أبرزها أمرين:
1ـ قسوة الحكومة على معارضيها، وشدة بطشها بهم.
2ـ الغطاء الديني المزيّف الذي كانت تتستر به الحكومة، لتبرر جرائمها, من خلال وضع الاحاديث التي تخدم مصلحتها، كوضع أحاديثٍ تحرّم الخروج على الحاكم الاسلامي ولو كان جائراً، وبذلك تستطيع قمع المعارضين باسم الاسلام، إذ الخروج على الحاكم حرام، فيلزم على الحكومة منعه ومعاقبته لمنع الناس من ارتكاب الحرام.
والموقف مع وجود هاتين الحالتين كان يتطلب تحرّك شخصية إسلامية تتمتع بخصائص ومميزات ومؤهلات تمكنها من مواجهة هاتين الحالتين، وتغييرهما من الحالة السلبية الى الحالة الايجابية، ولم تكن هناك شخصية تمتلك هذه المؤهلات غير الامام الحسين عليه السلام ، إذ هو يتمتع بعدة مميزات منها:
أ) نسبه المبارك، فهو ابن فاطمة بنت النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، مع ما يعلمه المسلمون من سيرة النبيصلى الله عليه وآله وسلم من اهتمامه به وبأخيه الحسن عليه السلام وتربيته لهما، وحبه الكبير لهما.
ب) حب المسلمين له، وتقديرهم واحترامهم له.
ج) صحبته للرسول ومعرفته بشريعة جده.
د) نزول الآيات في فضله، وأحاديث النبي في حقه، جعلته يحتل مكانة خاصة عند عامة المسلمين. الى غيرها من المميزات والخصائص التي كان يتمتع بها.
وقد أشار الامام عليه السلام الى هذه الحقيقة، وهي امتلاكه للمؤهلات الخاصة للتغيير المطلوب، حيث قال في بعض كلماته: ((ومثلي لا يبايع مثل يزيد))[38], وقال في مناسبة أخرى: ((وأنا أحق من غيّر))[39], وقال أيضاً: ((وإنما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )[40]، ففي هذه الكلمات يتحدث الامام عليه السلام عن مقامه السامي ومنزلته الرفيعة في المجتمع الاسلامي، وهذا يجعله أمام مسؤولية كبيرة، إذ هو الراعي الاول لشريعة جده، فيلزمه الدفاع عنها وحمايتها، وهذا الشعور الذي كان يعيشه الامام عليه السلام ((الشعور بمسؤوليته تجاه شريعة جده)) كان يشعر به المسلمون عامة، فهم جميعاً ينظرون الى الامام الحسين عليه السلام كشخصٍ يمثل بمواقفه الشريعةَ الاسلامية، وهذه الحقيقة كان يدركها الجهازُ الحاكم، فقد أوصى معاوية ولده يزيد بضرورة أخذ البيعة من الامام الحسين عليه السلام ، وقام يزيد بدوره بالتشديد على وآليه في المدينة لأخذ البيعة له من الامام الحسين عليه السلام ، كلُّ ذلك لعلمهم بموقع الامام في قلوب المسلمين.
وهذه المؤهلات وهذه الموقعية تحتم على الامام عليه السلام أن يتعامل مع الموقف من خلال قضيتين:
الاولى: سلب الغطاء الديني المزيّف الذي كان الجهاز الحاكم يتستر به لتنفيذ مشاريعه.
الثانية: تغيير المظلومية السلبية التي كان يعيشها المجتمع الى مظلومية إيجابية، وتحويلها من حالتها الانهزامية الى الحالة الثورية.
وقد اعتمد عليه السلام في التعامل مع القضية الاولى على أمرين:
1ـ إعلام الامة بالاحاديث النبوية الصحيحة الحاثّة على معارضة السلطان الجائر، والداعية الى مخالفته، فمن ذلك خطبته الشهيرة التي قال فيها: ((أمّا بعد فقد علمتم أنَّ رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم قد قال في حياته: " من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر بقولٍ ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله " وقد علمتم أنَّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وإني أحقُّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ))[41]. ولم يكتفِ عليه السلام بنقل الحديث، بل طبّقه على السلطة القائمة، وكان الامام يهدف من التذكير بهذا الحديث وامثاله الى نقطتين:
· توفير الغطاء الشرعي للخروج على الحاكم الجائر، وأنَّ ذلك واجباً شرعياً.
· تكذيب ما يبثّه الجهاز الحاكم من أحادث موضوعة تحرّم الخروج عليه.
2ـ خروجه عليه السلام بنفسه على السلطة الجائرة، ومعارضته لها بشكل علني، وهو أقوى برهان، وأدل دليل على مشروعية الخروج على الحاكم الجائر، إذا لم يكن أمراً واجباً.
وبما أنَّ الامام عليه السلام كان يتمتع بمميزات ومؤهلات تقدم الحديث عنها، صار خروجه أمراً مشروعاً عند عامة الناس بما لا يدع مجالاً للشك، فاستطاع بذلك أن يسلب من الحاكم غطاءه الديني المزيّف الذي كان يتستر به لمنع الناس من الخروج عليه.
والقضاء على هذه الحالة لا يكفي بكل تأكيد لتحقيق الغاية، إذ الاعتقاد بمشروعية الخروج أو وجوبه لا يكفي لدفع الفساد والانحراف ما لم يتبعه خروج عملي، والخروج العملي يحتاج الى تحرير الانفس من الشعور بالضعف والاستسلام والخضوع.
ولهذا فقد اعتمد الامام الحسين عليه السلام في التغلّب على الحالة الثانية على المثيرات العاطفية، والمنبهات الوجدانية، وهذا الأمر يحتاج الى حشدٍ عاطفيٍّ كبير، وملحمة مأساوية عظيمة، تشدّ الناس اليها بقوّة، وتهزّهم من أعماقهم، وتحرّك ضمائرهم نحوها.
وهذا ما صنعه الامام الحسين عليه السلام بالفعل في نهضته المباركة، حيث صنع ملحمةً مأساوية دامية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، راح ضحيتها ريحانة المصطفىصلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، في أبشع صورة، وأسوأ منظر، مع تعرّض الاسرة النبوية الكريمة للأسر والتنكيل والاحتقار.
وبهذا نستطيع أن نجيب على الكثير من الاسئلة التي طُرحت وما تزال تُتناقل، من قبيل، لماذا أصطحب الامام عليه السلام معه العائلة الكريمة، وتعريضهم للأسر والسبا ؟, ولماذا لم يحشّد الامام جيشاً كبيراً لمواجهة الحاكم، حيث كان بإمكانه الاتصال بالعديد من شيعته المنتشرين في شرق البلاد وغربها؟, ولماذا لم يغيّر مقصده بعد أن عَلِمَ بمقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وتغيّر الاوضاع في الكوفة ؟, الى غيرها من الاسئلة التي تدور حول هذه الملابسات، والجواب عن جميع هذه الاسئلة وما كان من قبيلها قد اتضح من خلال هذه النقطة، فالأمام الحسين عليه السلام لم يكن يسعى للانتصار العسكري الآني، فلعلّ ذلك يضرّه ولا ينفعه, لانَّ الهدف هو تفهيم الرأي العام حقيقة الأمر، ليميّز بين الحق والباطل، بين الحق الذي يدعو له الامام الحسين عليه السلام والباطل الذي يدعو له الجهاز الحاكم، واذا أردنا استيضاح الأمر أكثر، نطرح هذا السؤال:
لو انتصر الامام الحسين عليه السلام عسكرياً وقتل أعداءه واستلم مقاليد الخلافة، فما هو موقف المجتمع الاسلامي من هذا التغيير والانتصار؟ هل سيكون المجتمع بأكمله مقتنعاً تماماً بأحقية الحسين عليه السلام من يزيد؟, وهل هو مقتنع تماماً بشرعيّة الانتصار والانقلاب الذي حدث؟, وهل هو مقتنع تماماً بظلم بني امية وتحريفهم للدين وزيفهم ؟ وهل سيسلم الامام عليه السلام من الحركات المناهضة لحكومته؟
الجواب: كلا، لأن انكشاف الحقيقة بشكلها الكامل لم يتحقق بعدُ، ومعه ستبقى فئة من الناس لا تعتقد بشرعية الحكم القائم، وسيبقى الحاكم المهزوم أو المقتول يجد من يتعاطف معه طالما هناك ضبابية في الرؤية، وعدم وضوح في الحقيقة.
بينما بعد استشهاد الامام الحسين عليه السلام واهل بيته وأصحابه في تلك المجزرة الرهيبة التي اعترف بقسوتها وبشاعتها كلُّ البشر من مسلمين وغيرهم، لم يبقَ مجالٌ للشك والريب في بطلان الجهاز الحاكم وعدم مشروعيته، وأقتنع المجتمع بأسره بحقّانيّة خروج الحسين عليه السلام وحقّانيّة أهدافه، والدليل على ذلك الثورات التي حدثت بعد نهضة الحسين عليه السلام بفترة قصيرة جداً، حيث ثار أهل المدينة على الجهاز الحاكم، وهم يمثلون ـ وقتئذ ـ الثلة الباقية من الصحابة من البدريين وغيرهم، وثار ابن الزبير بمن معه من أهل مكة، والملاحظ أنَّ هاتين الثورتين لا تمثلان الخط الشيعي، وهذا يؤكد نجاح النهضة الحسينية، وقد روى الطبري في تأريخه أنَّ مصعب بن الزبير لمّا خذله أهل الكوفة وحُوصر من قبل جيش الشام التفت الى رجلٍ من أصحابه يُدعى عروة وقال له: أخبرني عن الحسين بن علي، كيف صنع بإبائه النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب ؟ فأخبره.
فأنشد يقول:
وإنَّ الاولى بالطف من آل هاشمٍ تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
يقول الراوي: فعلمت أنه لا يَريمُ حتى يُقتل.[42]
حيث تأثّر بها من لا ينتمي لخط أهل البيت، بل تأثر بها حتى غير المسلمين، قال المفكر المسيحي(إنطوان بارا) في كتابه القيّم (الحسين في الفكر المسيحي) في هذا الصدد: ((وليس أدلّ على ما لسحر شهادة الحسين عليه السلام من قوّة جذب للشعور الانساني في حادثة رسول قيصر إلى يزيد حينما أخذ هذا ينكث ثغر الحسين الطاهر بالقضيب على مرأى منه، فما كان منه إلاّ أن قال له، مستعظماً فعلته: إنَّ عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى، ونحن نحج اليه في كل عام من الاقطار، ونهدي اليه النذور ونعظّمه كما تعظمون كتبكم، فأشهد أنكم على باطل)).[43]
العلاقة بين المظلومية والعاطفة.
يبقى أن نعرف سرَّ التعاطف مع المظلوم الذي يطالب بحقه ولا يُعطى، بل يُمنع، ويُدفع، ويُقتل.
ولعلَّ السرّ في ذلك يعود الى الفطرة، فإنها تقتضي الميل النفسي اليه، والتعاطف مع قضيته، فإننا نشعر بالوجدان وفي أعماقنا بالتعاطف معه، ولكنَّ التعاطف يكون أشدّ فيما لو كان المظلوم لا يطالب بحقه الشخصي، وإنما يطالب بحقوق الامة، ويدافع عن مقدساتها، بل يدافع عن أثمن شيء لديها وهو كرامتها وعزتها.
إنَّ هذه هي النقطة المهمة، أي عندما تشعر الامة أنَّ القتيل إنما قُتل لدفاعه عن كرامتها المسلوبة، وحقها الضائع، عندما تشعر أنَّ هذا القتيل قد عُرضت عليه الدنيا بأسرها مقابل سكوته عن كرامة الامة، لكنه رفض المساومة، ورفض الامتيازات، ورفض حياة الذل: ((إني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما))[44]، إنَّ هذه المظلومية من شأنها أن تزيد من مشاعر الحقد والكراهية تجاه الظالم، كما أنَّ اعتزاز المظلوم بموقفه وإبائه عن التنازل من شأنه أن يبعث بمشاعر الحب والاحترام لشخصه في قلوب الناس ومن ثَمَّ التأسّي به والاقتداء بموقفه، وقد جُبلِت القلوب على حبِّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
والخلاصة: أنَّ المظلومية يمكنها أن تنتصر في صراعها مع الظالم، شريطة أن تتصف بالمظلومية الايجابية التي ترفض أشكال الذل والظلم والاضطهاد، كما حدث ذلك في النهضة الحسينية، وأمّا المظلومية السلبية فلا يمكنها أن تنتصر، لأنها لا تعيش صراعاً مع الظالم, بل تعيش معه حالة الذل, والاستسلام, والانقياد لإرادته.
الكاتب: الشيخ إسكندر الجعفري
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد التاسع
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
________________________________________
[30] -سبأ/31-33.
[31] -الاحسائي، إبن أبي جمهور، عوالي اللئالي ج1ص432.
[32] -المجلسي, محمد باقر، البحار ج44ص382.
[33] -غافر/29.
[34] -البقرة/193.
[35] -الحسيني الفرحي، السيد علي، النهضة الحسينية، دراسة وتحليل ن ص252.
[36] -مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة ج4ص227.
[37] -المفيد , محمد بن محمد بن النعمان , الارشاد ج2ص98.
[38] -المجلسي، محمد باقر، البحار ج44ص235.
[39] -الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري ج4ص304.
[40] - العسكري، مرتضى، معالم المدرستين ج3ص302.
[41] -المجلسي، محمد باقر،البحارج44ص382.
[42] -الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري ج5ص6.
[43] -بارا، أنطوان، الحسين في الفكر المسيحي، ص85.
[44] -إبن شهر آشوب، محمد بن علي، المناقب ج3ص224.
اترك تعليق