الصدق والشجاعة والنبل والفروسية والوفاء سمات اشتركت في الأراجيز التي انطلقت من أفواه شهداء الطف الأبطال وأكدت على عظيم ولائهم وشدة تمسكهم بقضية سيدهم الإمام الحسين (عليه السلام)، لقد جهرت تلك الحناجر بما أشرق في داخلها من حب ووفاء فكوّنت بمجموعها نشيد كربلاء الخالد وإيقونة الحب السرمدي وسفر الوفاء المشرق حيث تجسّدت الملامح العقائدية الخالصة في كلمات تلك الأراجيز بصدق المواقف التي وقفها أولئك الأبطال الذين لم ولن يلد الزمان بمثلهم في الذود عن الدين والعقيدة، فتجد صوت كل واحد منهم قد عكس عما بداخله من حب وولاء للحسين حتى كأن تلك القلوب قد خلت من كل حب إلّا حب الحسين فكانوا بحق كما وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام): (إني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً خيرا). وأي موقف أعظم وأروع من تلك المواقف التي استهان أبطالها بالحياة وأرخصوا أرواحهم في سبيل العقيدة والمبدأ؟ أي موقف أعظم حين يقدم الواحد منهم ابنه أو أخاه أو تقدم الأم ابنها للموت في سبيل الله؟ أجل هم الذين اعتلوا أعلى درجات الإيمان واليقين وفازوا بالشهادة ومرافقة الأبرار. وقد قرن أمير المؤمنين (عليه السلام) منزلتهم بمنزلة شهداء بدر حينما مر على كربلاء في مسيره إلى صفين فقال: (يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم شهداء إلا شهداء بدر) (1) و(إنهم يدخلون الجنة بغير حساب) (2) وتمنى الصحابي الجليل سلمان الفارسي (رضي الله عنه) أن يكون منهم كما جاء في قوله: (والذي نفس سلمان بيده لو أني أدركت أيامه لضربت بين يديه بالسيف أو أقطع بين يديه عضواً عضواً فأسقط بين يديه صريعاً فإن القتيل معه يعطى أجر سبعين شهيداً كلهم كشهداء بدر وأحد وحنين وخيبر) (3) وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (مرّ أمير المؤمنين بكربلاء فبكى حتى اغرورقت عيناه بالدموع وقال: هذا مناخ ركابهم، هذا ملقى رحالهم، ههنا تراق دماؤهم، طوبى لك من تربة عليها يراق دم الأحبة، مناخ ركاب، ومنازل شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من كان بعدهم) (4). وهذه الأقوال العظيمة في علو منزلتهم استدعاها عظيم وقفتهم وشدة بأسهم وصلابتهم في الدفاع عن الإسلام وأهله بالقول والعمل، وقد جسّدت أراجيزهم أروع صور الملاحم والفروسية والنبل والوفاء فهي المؤشر الواضح على مدى ثباتهم وتماسكهم وصلابتهم في أشد الظروف وأقساها. أن تلك الأراجيز تستحق دراسة مطولة وينبغي أن تصاغ في لوحات مذهبة لكي تشخص هذه الكلمات الخالدة كما سما أصحابها في أعلى درجات الخلود ولنستمع إلى بعض تلك الأراجيز (الأناشيد) البطولية الخالدة: يخرج زهير بن القين فيضع يده على منكب الحسين وهو يستأذنه بالقتال قائلا: أقدم هُديت هادياً مهديا *** اليوم ألقى جدكَ النبيا وحسناً والمرتضى عليا *** وذا الجناحين الفتى الكميا وأسد الله الشهيد الحيا إنها أعلى درجات اليقين، لقد كان على يقين تام بأن الحسين يمثل الإسلام بكل معانيه ومفاهيمه وإنه سيكون مع الذين ذكرهم في أرجوزته الذين نصروا الإسلام وآزروه وأعلوا كلمته فكانت الروعة في جواب الحسين (عليه السلام) بتأكيده على يقين زهير فقال له: (وأنا ألقاهما على أثرك) وفي أثناء حملاته البطولية على الجيش الأموي يقول: أنا زهير وأنا ابن القينِ *** أذوكم بالسيفِ عن حسينِ ويؤكد الحجاج بن مسروق الجعفي هذه الحقيقة وهو مخضّب بدمه من كثرة جراحاته بقوله مخاطباً الحسين: فدتكَ نفسي هادياً مهديا *** اليوم ألقى جدكَ النبيا ثم أباكَ ذا الندى عليا *** ذاك الذي نعرفه الوصيا وهذه الحقيقة التي استيقنتها أنفسهم قد صرح بها كل من تقدم للقتال وكان كل من أراد الخروج ودع الحسين (عليه السلام) بقوله: السلام عليك يا ابن رسول الله فيجيبه الحسين وعليك السلام وأنا على أثرك ثم يقرأ قوله تعالى: (ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) فيخرج نافع بن هلال الجملي وهو يرتجز: أنا الغلام اليمني الجملي *** ديني على دين حسين وعلي إن أقتل اليوم فهذا أملي وقال مثل قوله سويد بن عمرو بن أبي المطاع: أقدم حسين اليوم تلقى أحمدا *** وشيخكَ الحبر علياً ذا الندى وحسناً كالبدر وافى الأسعدا *** وعمكَ القرمَ الهمامَ الأرشدا حمزة ليث الله يدعى أسدا *** وذا الجناحين تبوّا مقعدا في جنةِ الفردوسِ يعلو صعدا ومن أروع أراجيز ذلك اليوم أرجوزة الأخوين الشهيدين عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاري فإنهما لما رأيا الشمر يحمل على ما بقي من أصحاب الحسين وكثرة من معه حتى كادوا أن يصلوا إلى الحسين تنافسا في القتال والشهادة بين يدي الحسين وكانا من أشراف الكوفة وشجعانها ومن الموالين المخلصين لأهل البيت فوقفا معا وسلما على الحسين ثم ارتجزا بأبيات كان واحد منهما يرتجز شطراً والآخر يكمله: قد علمت حقاً بنوا غفارِ *** وخندفٌ بعد بني نزارِ لنضربنّ معشرَ الفجّارِ *** بكل عضبٍ صارمٍ بتّارِ يا قوم ذودوا عن بني الأحرارِ *** بالمشرفيّ والقنا الخطّارِ ونجد في عائلة الشهيد جنادة بن كعب ما يفوق الوصف فقد مُلئت هذه العائلة إيماناً راسخاً لا تزعزعه الخطوب والملمات، لقد استشهد جنادة بين يدي الحسين في الحملة الأولى فجاءت زوجته إلى ولدها الذي يبلغ من العمر إحدى عشرة سنة وألبسته ثياب الحرب وقدمته بين يدي الحسين (عليه السلام) فلم يأذن له وقال: (هذا غلام قتل أبوه في الحملة الأولى ولعل أمه تكره قتاله) وأرجعه لكن تلك الأم العظيمة أبت إلا أن تقدم ولدها شهيداً بين يدي الحسين فأرجعته إلى الحسين فقال له: سيدي إن أمي هي التي أمرتني فأذن له الحسين (ع) وجزاهما خيرا فخرج الغلام إلى القتال وهو يقول: أميري حسينٌ ونعمَ الأمير *** سرورُ فؤادِ البشيرِ النذير عليٌ وفاطمةٌ والداه *** فهل تعلمون له من نظير له طلعةٌ مثل شمسِ الضحى *** له غرةٌ مثل بدرٍ منير لقد تملك حب الحسين قلوب هذه العائلة كلها، تمعن في قول هذا الغلام عندما يصف الحسين، إنه يصف أعز إنسان على وجه الأرض لديه ولو لم تكن أمه قد أرسلته إلى الحسين لذهب إلى القتال دون طلب من أحد رغم أن سنه لا يسمح له بالإشتراك في معركة ويقتل هذا الغلام فتأخذ أمه عموداً من الخيمة وتهجم على الجيش الأموي وهي تقول: أنا عجوزٌ في النسا ضعيفة *** خاويةٌ باليةٌ نحيفة أضربكم بضربةٍ عنيفة *** دون بني فاطمة الشريفة فردها الحسين إلى المخيم وجزاها خيرا. وشهدت كربلاء أراجيز فارس حفل تاريخه بالجهاد في سبيل الله ليكمل في كربلاء مشهد حياته الأخير بالشهادة، فارس استنشق عطر النبوة في بدر وحنين فوقف مدافعاً عن الإسلام واستنشق ذلك العطر في الحسين فوقف ذائداً عن آل محمد.., فارس سمع النبي يقول والحسين في حجره: (إن ابني هذا يقتل في أرض يقال لها كربلاء ألا فمن شهده فلينصره) فوقف وهو يسترجع حديث النبي فيزيده إصراراً وإيماناً في موقفه إنه الصحابي العظيم أنس بن الحارث الكاهلي الذي برز وقد شد عمامته في وسطه ورفع حاجبيه بعصابة وهو يستأذن الحسين في القتال فلما نظر إليه الحسين بهذه الهيئة بكى وقال: (شكر الله سعيك يا شيخ) فبرز وهو يقول: قد علمت مالك والدودانِ *** والخندفيون وقيس عيلانِ بأن قومي أفة الأقرانِ *** لدى الوغى وسادة الفرسانِ مباشر الموت بطعنٍ آنِ *** لسنا نرى العجز عن الطعانِ آل علي شيعة الرحمنِ *** آل زياد شيعة الشيطانِ ويستبشر عمرو بن خالد الأزدي بذلك اليوم وهو يتشوّق للقاءِ ربه والخلود في الجنة مع الأبرار فبرز للقتال وهو يقول: اليوم يا نفس إلى الرحمنِ *** تمضين بالروح وبالريحانِ اليوم تجزين على الإحسانِ *** قد كان منك غابر الزمانِ ما خط باللوح لدى الديانِ *** فاليوم زال ذاك بالغفرانِ لا تجزعي فكل حي فانِ *** والصبر أحظى لك بالأماني ويبرز بعده ابنه خالد بن عمرو الأزدي وهو يهنئ والده بالشهادة: صبراً على الموت بني قحطانِ *** كيما تكونوا في رضا الرحمنِ ذي المجد والعزة والبرهانِ *** وذي العلى والطول والإحسانِ يا أبتا قد صرت في الجنانِ *** في قصرِ درٍ حسنِ البنيانِ وتتوالى تلك الأناشيد الحماسية التي ترنم بها أبطال الطف والتي نبعت عن الولاء المطلق والتمسك الخالص فانبعثت فيها تلك الإرادة الصلبة في الصبر والثبات. يخرج أحد أبطال الطف وهو سعد بن حنظلة الشبامي وهو يقول: صبراً على الأسيافِ والأسنّة *** صبراً عليها لدخول الجنة يا نفس للراحة فاجهدنه *** وفي طلاب الخير فارغبنه ويقول الشهيد عبد الرحمن اليزني: أنا ابن عبد الله من آل يزن *** ديني على دين حسين وحسن أضربكم ضرب فتى من اليمن *** أرجو بذاك الفوز عند المؤتمن واستمع إلى هذه الأرجوزة الملحمية من الشهيد عمرو بن أبي المطاع الجعفي: أنا ابن جعفي وأبي مطاعُ *** وفي يميني مرهفٌ قطاعُ وأسمرٌ سنانه لمّاعُ *** يرى له من ضوئه شعاعُ اليوم قد طاب لنا القراعُ *** دون حسين الضرب والسطاعُ يرجى بذاك الفوز والدفاعُ *** عن حرِّ نارٍ حين لا انتفاعُ ونجد في الشهيد عبد الله بن عمير الكلبي وزوجته أقصى ما يمكن أن يقدمه إنسان في التضحية في سبيل الدين ولنستمع إلى قصتهما في ذلك اليوم فإنها فصل رائع من فصول عاشوراء حيث أديا واجب الشهادة بكل ما لهذه الكلمة من معنى عظيم، يخرج من الجيش الأموي اثنان للمبارزة فيثب عبد الله بن عمير لقتالهما فيقتلهما ويرجع إلى الحسين وهو يرتجز: إن تنكروني فأنا ابن الكلبي *** حسبيَ بيتي في عُليمٍ حسبي إني امرؤ ذو مرةٍ وعصبِ *** ولستُ بالخوارِ عند النكبِ إني زعيمٌ لكِ أمّ وهبِ *** بالطعنِ فيهم مقدماً والضربِ ضربَ غلامٍ مؤمنٍ بالربِ ويرجع إلى القتال ولكن زوجته لا يكفيها بأن زوجها يقاتل وحده بل تريد أن تشاركه هذا القتال بين يدي الحسين فتأخذ عموداً وتقبل نحوه، يراها فيحاول ردها لكنها لا تطاوعه وترفض الرجوع قائلة: لن أدعك دون أن أموت معك!!! الله أكبر ما هذا الحب الذي يشرق من هذه النفوس الطاهرة ؟ وما هذا الإيمان العميق الخالص الذي حوته تلك القلوب الصافية ؟..، ولا ترجع أم وهب إلا عندما طلب منها الحسين الرجوع قائلا: جزيتم عن أهل بيت خيراً ارجعي رحمك الله إلى الخيمة فإنه ليس على النساء قتال ويقتل زوجها عبد الله في المعركة وهي تنظر إليه فتمشي إلى مصرعه وتجلس عند رأسه وهي تمسح الدم والتراب عنه وتقول: هنيئاً لك الجنة، أسأل الله الذي رزقك الجنة أن يصحبني معك كان أجلاف الجيش الأموي منتشرين في أرض المعركة ولا يزال مصرع زوجها قريبا.. هنا تلوح للشمر تلك المرأة وهي تنطق بتلك الكلمات فيقول لعبده رستم: إضرب رأسها بالعمود فيفعل لتذهب تلك الروح الطاهرة على أجنحة الملائكة. ويأتي دور جون خريج مدرسة أبي ذر الغفاري الذي استلهم منه أروع معاني الحب لأهل البيت جون ذلك العبد ذو الضمير الطاهر الناصع الحي وقف تلك الوقفة ليعطي أولئك القابعين في بؤرة الذل والخنوع الأموية دروس الحرية الحقيقية برز جون وهو يرتجز: كيف ترى الكفار ضرب الأسودِ *** بالسيف ضرباً عن بني محمدِ أذبُّ عنهم باللسانِ واليدِ *** أرجو به الجنة يوم الموردِ ويبرز الحر ذلك الفارس التائب الذي لم يكن يتوقع أن يجرؤا على قتال ابن رسول الله والذي طلب من الحسين أن يكون أول المستشهدين بين يديه فبرز وهو يقول: إني أنا الحر ومأوى الضيفِ *** أضربُ في أعناقكم بالسيفِ عن خيرِ من حل بأرضِ الخيفِ *** أضربكم ولا أرى من حيفِ إنه رجز رجل مستميت في القتال وهو يدافع عن عقيدة راسخة لا تشوبها شائبة ومثله رجز عمير بن عبد الله المذحجي: قد علمت سعد وحي مذحج *** إني لدى الهيجاء ليث محرج أعلو بسيفي هامة المدجج *** وأترك القرن لدى التعرج فريسة الضبع الأذل الأعرج ويرتجز مسلم بن عوسجة: إن تسألوا عني فإني ذو لبد *** من فرع قرم من ذرى بني أسد فمن بغاني حائد عن الرشد *** وكافر بدين جبار أحد ويرتجز عمرو بن قرظة الأنصاري وهو يفدي الحسين بمهجته وكل ما يملك: قد علمت كتيبة الأنصار *** إني سأحمي حوزة الذمار ضرب غلام غير نكس شار *** دون حسين مهجتي وداري ويسلم وهب بن حباب الكلبي ذلك البطل النصراني على يد الحسين (ع) ليحصل بإسلامه على أعلى وسام في الإسلام وهو الشهادة بين يدي الحسين ويبرز يوم عاشوراء وهو يقول: إن تنكروني فأنا ابن الكلبي *** سوف تروني وترون ضربي وحملتي وصولتي في الحرب *** أدرك ثاري بعد ثار صحبي وأدفع الكرب أمام الكرب *** ليس جهادي في الوغى باللعب ويبرز أنيس بن معقل فيرتجز بهذه الأبيات الحماسية: أنا أنيسٌ وأنا ابن معقلِ *** وفي يميني نصلٌ سيفٍ مصقلِ أعلو به الهامات وسطَ القسطلِ *** عن الحسينِ الماجدِ المفضّلِ ابن رسول الله خير مرسلِ ونختتم هذه الصور الرائعة لشهداء الطف وهو ينحتون أسماءهم في سجل الخلود بإرجوزة زعيم الأنصار وحامل رايتهم البطل حبيب بن مظاهر الأسدي الذي هدّ مقتله الحسين واسترجع كثيراً وقال: عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي برز حبيب وهو يقول: أنا حبيبٌ وأبي مظهّر *** فارس هيجاءٍ وحرب تسعر أنتم أعدّ عدّة وأكثر *** ونحن أوفى منكم وأصبر ونحن أعلى حجة وأظهر *** حقا وأتقى منكم وأطهر لقد كانوا صفوة, وكانوا نخبة, وكانوا خيرة لا يمكن أن تتكرر ولا نجد أعظم وصف وأدق معنى وأعمق عبارة لوصفهم أبلغ من كلام الحسين (ع) عنهم بقوله:(والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلّا من يستأنس بالمنية دوني استئناس الطفل بمحالبِ أمّه) محمد طاهر الصفار ................................................. 1ـــ الطبراني المعجم الكبير 2ــ نصر بن مزاحم / وقعة صفين ص 140 3ــ مقتل الخوارزمي ج 2 ص 171 الطريحي في 4ــ منتخب الطريحي ج 1 ص 87
اترك تعليق