أضواء على الحركة العلمية في المدينة المقدسة
محمد طاهر الصفار
حاجة الإنسان إلى العلم لا تقل عن حاجته إلى الرغيف, فبالرغيف يواصل الحياة وبالعلم يعطي معنىً للحياة, فالعلم هو عنوان الأمة المتحضّرة الساعية إلى الرُقي والتقدم في كل مجالات الحياة, والعلم هو الذي يصنع الإنسان, ويهذّب سلوكه, ويوجّهه نحو كل ما هو مفيد لأبناء جنسه.
وقد دأبت الأمم المتحضّرة على الاهتمام بعلمائها ومثقفيها, فهم رمز لحضارتها, وعنوان لتحضّرها وإبداعها في سيرها نحو مواكبة الحياة, كما دأبت على تلاقح الثقافات ــ مع المحافظة على تقاليدها وتراثها ــ في سبيل اكتساب الخبرات والتقارب مع الشعوب لخدمة الإنسانية.
ووفق هذا المفهوم كرس العلامة الشيخ والعالم الفقيه الأستاذ محمد صادق الكرباسي الجزء التاسع بعد المائة من أجزاء موسوعته (دائرة المعارف الحسينية) للحديث عن الحركة العلمية في كربلاء وها هو الجزء الأول منه والثالث من ضمن سلسلة باب (أضواء على مدينة الحسين)
يبدأ الكرباسي برسم خريطة العمل بهذا الكتاب ــ كعادته في كل أجزاء الموسوعة ــ ويشير ببوصلته البحثية إلى فحوى كل فصل منه وقد أوضح ذلك في عشرة نقاط، ففي المقدمة يتحدث بإيجاز عن كل فصل ويشير إلى أمر مهم قد يخفى على الكثير وهو: (أن المجمع العلمي الذي يعبَّر عنه اليوم بالجامعة كان يعبر عنه في المصطلحات القديمة بالحوزة) كما (أن الحوزة التي عرفت في المصطلح الإمامي لدى الدارسين والمتعلمين هي المؤسسات التعليمية مجموعة، والتي تدرس فيها العلوم العربية والإسلامية كانت في العهود السابقة تضم أساتذة وطلابا في شتى العلوم العربية والإسلامية والطبيعية والتاريخية والجغرافية والفلكية والرياضية والطب والصيدلة والفيزياء والكيمياء إلى غيرها من العلوم) فكانت عبارة عن: (جامعات حضارية تضم عددا من الكليات والمعاهد تدرَّس فيها جميع مناحي المعرفة إلا أن دورها انحسر مع الأسف بعد أن حط قدم الإحتلال على هذه الأرض المقدسة)
وعن (تاريخ الحوزات العلمية) في الإسلام فإن أول حوزة في الحاضرة الإسلامية هي حوزة المدينة المنورة التي أسسها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجده حيث يلقي محاضراته على أصحابه ثم اتسعت الحوزات العلمية لتشمل ــ إضافة إلى الجزيرة العربية ــ البحرين واليمن ومصر والشام والعراق وشمال أفريقيا والأندلس وإيران وقد توسع الكرباسي في الحديث عن هذه الحوزات وفروعها في كتابه (الحسين والتشريع الإسلامي) وبين خصائص كل واحدة منها واكتفى هنا بعرض موجز لها.
أما (تاريخ حوزة كربلاء) فيتحدث الكرباسي بالتفصيل عن الحركة العلمية عبر مراحلها ابتداءً من القرن الأول وتطور هذه الحركة عند تمصيرها ووفود العلماء والمحدثين والأدباء إليها ودور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في هذه الحركة وخاصة الإمام الصادق والإمام الكاظم (عليهما السلام) في زيارتها واجتماعهما بأصحابهما وعقد مجالس العلم فيها، وما إن حل القرن الثالث حتى أصبحت كربلاء حاضرة علمية و(استوطنها الكثير من أرباب العلم والجاه ومنهم السيد إبراهيم المجاب ابن محمد العابد ابن الإمام موسى بن جعفر وابنه محمد الحائري)
وينقل الكرباسي صورة لكربلاء في ذلك الوقت عن كتاب مدينة الحسين لمحمد حسن الكليدار حيث يقول: (إن كربلاء كانت خلال القرن الثالث مزدحمة بالزائرين الذين يفدونها من كل حدب وصوب لزيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام وكانت أسواق كربلاء عامرة تسودها الطمأنينة فتؤمها القوافل ومنهم من يؤثر السكنى ومنهم من يعود إلى بلاده وهنا كثرت فيها القبائل العلوية وغير العلوية وأخذت تتمصر شيئا فشيئا وكذلك زارها كبار رجال الحديث والسير من رجال الإمامية وأخذوا في تدريس مسائل الدين والفقه لسكانها المجاورين والزائرين فاتسعت الحركة العلمية فيها وصار الطلبة يقصدونها من مختلف الأمصار)
ثم أخذت هذه الحركة بالتطور والاتساع والازدهار وأفرزت أسماء لامعة في سماء العلم ففي القرن الرابع برز اسم عباس بن عيسى الغاضري، وابنه محمد، وحميد بن زياد النينوي، الذين تصدروا مجالس التدريس وتخرج على أيديهم كثير من رجال العلم، وشهد القرن الرابع قدوم الشيخ الطوسي إلى كربلاء من بغداد فبقي فيها فترة قبل أن يغادرها إلى النجف ومن أعلام ذلك القرن في كربلاء الفقيه هاشم بن إلياس الحائري وحفيده إلياس بن محمد بن هاشم الحائري، أما القرن الخامس والسادس فقد عاشت فيه كربلاء ذروة حركتها العلمية وبرزت كثير من الأسماء العلمية الكبيرة، أما في القرن السابع فقد شهدت كربلاء ولادة أحد رموزها عبر التاريخ وهو السيد فخار بن معد الموسوي الذي تخرج على يديه أعلام الفقه والأدب، وتواصلت الحركة العلمية في القرنين الثامن والتاسع وأفرزت من أعلام الفقه والأدب كثيرا من الأسماء، وشهد القرن العاشر قدوم الشيخ الكفعمي صاحب كتاب المصباح إليها، كما شهد القرن الحادي عشر بروز كثير من العلماء أبرزهم السيد شمس الدين الشيرازي، كما شهد القرن الثاني عشر ولادة نجم مضيء في سماء العلم هو العالم الكبير الشهيد نصر الله الحائري، أما القرن الثالث عشر فقد شهد نزوح كثير من الأسر العلمية إليها من مختلف البقاع حتى أصبحت كربلاء بمثابة جامعة علمية كبيرة.
وفي القرن الرابع عشر كانت كربلاء المركز الديني الأول بوجود آية الله الشيخ محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين ثم انحسرت نشاطات الحوزة الكربلائية بتسلط النظام البعثي الجائر على مقاليد الحكم في العراق.
هذه ــ باختصار ــ أهم ما جاء في مراحل تاريخ الحوزة في كربلاء ثم يتحدث الكرباسي في الفصول الأخرى عن علاقة حوزة كربلاء بالحوزات الأخرى والمناهج الدراسية لها والمدارس العلمية فيها ودورها العلمي والسياسي والاجتماعي ويخصص الفصل الأخير لتراجم علمائها وفضلائها.
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق