الأئمّة(عليهم السلام) يريدون أن تبقى العلاقات بيننا قويّةً متماسكةً
المتقي يتجرّع مرارة الإساءات ويفوّض أمره الى الله تعالى
النص الكامل للخطبة الاولى
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللّعين الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله خير مَنْ دعاه الداعون، وأقرب مَنْ لجأ إليه المضطرّون، وأجود مَنْ أمله الراغبون، ذي الجلال والإكرام والأسماء العظام، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً(صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله، ختم به الأنبياء وبعثه بالحنيفيّة البيضاء، صلوات الله وسلامه عليه وآله سادات الأوصياء.. أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي بتقوى الله تعالى والطاعة له فيما كلّفكم به، فإنّه جامعكم وسائلُكم عن كلّ صغيرة وكبيرة، واحذروا من الدنيا أن تغرّكم عن دينكم وآخرتكم وأن تبعدكم شهواتُكم عن ربّكم، وتَفَكّروا في قدرة الله وبديع صنعه، واحذروا شديد أخذه وأليم عقابه، ورغّبوا أنفسكم فيما أعدّ للطائعين من جزاء لا يخطر على قلب بشر، وما أعدّ للعاصين من عذابٍ أليم..
أيّها الإخوة والأخوات ما زلنا في خطبة أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصفه للمتّقين، وها نحن ذا في المقطع الأخير من هذه الخطبة التي بعد أن استمع اليها همام..، ولاحظوا عميق تأثير الذي حصل من هذه الخطبة في نفس همام وهو أحد أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) كان رجلاً عابداً زاهداً، أنّه صعق من هذه الخطبة ومن هذه الكلمات فكانت نفسه فيها، أي غُشِي عليه بعد أن استمع الى هذه الخطبة ومات من عظيم التأثير لبليغ الموعظة التي صدرت من أمير المؤمنين(عليه السلام)، ونحن لا نقول أن نكون هكذا بل المطلوب منّا أن نحاول فهم ووعي هذه المواعظ ومحاولة تطبيقها في حياتنا، فمن جملة ما ذكره الإمام(عليه السلام) في وصفه للمتّقين قال: (...وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ. أَتْعَبَ نفسه لِآخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنَهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَة، وَلاَ دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَة)، هذا هو المقطع الأخير وسنبيّن شرحاً بسيطاً لهذه المقاطع.
يقول في الوصف الأوّل: (وإن بُغي عليه –يعني ظُلم- صبر حتى يكون الله تعالى هو الذي ينتقم له)، الإنسان أحياناً –إخواني- الواحد منّا ربّما يتعرّض من أصدقائه أو من بعض إخوته من بعض أرحامه الى ظلمٍ وبغيٍ، يسيء له أحدٌ فيتجاوز عليه بسبّ بشتم بكذب بافتراء بإيذاء يولّد له المشاكل، ما هو الردّ لمثل هذا الظلم والبغي والإساءات والتجاوز؟! هنا يُمكن أن يصدر من الإنسان أو يُمكن أن يكون أمام احتمالين أشار الى أحدهما الإمام(عليه السلام)، وهو الوصف الذي يطلبه منّا أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو الأمر الثاني، إمّا أنّ الإنسان يخضع الى ما تدفعه اليه نفسه من التشفّي والانتقام، أنّه هذا أساء لي وتجاوز عليّ سبّني شتمني آذاني سبّب لي المشاكل فأنا أردّ عليه بالمثل، وربّما أتجاوز عن المثل وأُسيء اليه أكثر بداعي أنّني تحت ضغط النفس، فالنفس تميل في مثل هذه الحالات الى أن ينتقم الإنسان لنفسه من الآخرين حتّى لو كان أخاه أو صديقه، ينتقم من أرحامه بداعي التشفّي وغير ذلك من هذه الأسباب، وربّما أحياناً يردّ الإنسان بأكثر ممّا يجب طبعاً هذا ماذا ينتج منه؟ -التفتوا إخواني- خصوصاً في الوقت الحاضر كيف نتعامل مع مثل هذه الحالات، وأصبحت هذه الإساءات والتجاوزات كثيرة وبالذات من خلال مواقع التواصل الاجتماعيّ وغيرها من هذه الأمور التي أصبحت تُنشر منها هذه الإساءات والافتراءات والظلم الكثير، فكيف نردّ؟ سابقاً كان الإنسان يسبّ ويشتم ويكذب ويفتري ويغتاب هذا الإنسان أمام إنسان آخر أو بعضٍ من الناس، الآن أصبح يكتب ويعتدي ويتجاوز ويسيء من خلال هذه المواقع أمام الملايين وأمام الآلاف فيتأذّى الإنسان من هذه الإساءات والبغي الذي يصدر من الآخرين عليه، البعض يردّ وربّما يتجاوز في ردّه أكثر من استحقاق الشخص الباغي وذاك يردّ وهذا يردّ وربّما تحصل بسبب هذه الردود المتبادلة الكثير من المشاكل والنزاعات والنتائج التي لا يُحمد عقباها، هذا احتمال يُمكن أن يلجأ اليه الكثير.
الاحتمال الثاني الذي هو من أوصاف المتّقين وأوصاف أهل الإيمان أنّ الإنسان يصبر يتحمّل يتجرّع مرارة هذه الإساءات ويفوّض أمره الى الله تعالى، يقول: أنا أتحمّل وأسكت وأصبر على هذه الإساءات والتجاوزات وأترك أمري الى الله تعالى هو الذي ينتقم لي، لأنّه حكم عدل سوف لا يترك باغياً ولا ظالماً ولا شخصاً صاحب حقّ إلّا أخذ له حقّه، هذه الصفة الثانية هي التي يأمرنا بها القرآن الكريم ويأمرنا بها أميرُ المؤمنين(عليه السلام) يقول: (وإن بُغي عليه صبر...) لا يردّ بالمثل أو يردّ أكثر فيصبح هو الظالم والباغي بعد أن كان مظلوماً وقد بُغي عليه، (...حتى يكون الله هو الذي ينتقم له) يقول: الله تعالى أمرني بالصبر ومن وراء الصبر أجرٌ عظيم وثوابٌ جزيل، لأنّه مؤمن يقول: لا أفوّت على نفسي هذا الثواب، لا يضرّ سأتجرّع هذه الأذيّة وهذه المشاكل وهذه الإساءات والتجاوزات أتحمّلها وأتجرّع مرارة الصبر على هذه الإساءات بانتظار أن أحصل أوّلاً على الأجر العظيم والثواب الجزيل من الله تعالى، وثانياً حقّي سوف لا يضيع لأنّ الله تعالى هو الذي سينتقم لي، لذلك يقول: (وإن بغي عليه) ما هي النتيجة؟ يردّ؟ لا يردّ وإنما (صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له).
وانظروا إخواني الى هذه الآية القرآنيّة (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ...) إنسانٌ تجاوز عليّ أنا أيضاً أعاقب على نحو الردّ على نحو المجازاة والمكافأة بالمثل، التفتوا الى هذه النقطة إذا أردّ ربّما أردّ بالمثل هل لديّ القدرة والميزان والمعيار أن أردّ بالمثل ولا أتجاوز الحدّ فأتحوّل وأكون أنا الظالم هذه المرّة والباغي؟!! ليس هذا الردّ، الله تعالى يقول: لا.. أنتم أيّها المؤمنون المتّقون (...وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ...) يعني اصبرْ فالله تعالى سينتقم لك وليس فقط هذا بل سيجزيك أجر الصّابرين في الآخرة، وأيضاً لاحظوا إخواني هناك رواية مهمّة كثيراً ما أكرّرها عليكم لأهمّيتها، لاحظوا كيف أنّ الأئمّة يربّوننا على الخلق الرفيع في التسامح والصفح والعفو عن الإخوة، كلّ واحدٍ منّا يصفح ويتجاوز ويعفو عن الإساءات التي تصدر من إخوانه، لماذا؟ لأنّ الأئمّة(عليهم السلام) والقرآن الكريم يريدون أن تبقى العلاقات بيننا قويّةً متماسكةً وعلاقات مودّة وتواصل ورحمة، لا يرضون بأن تكون العلاقات بيننا تقاطعاً وهجراناً وعداوة وبغضاء، لذلك لاحظوا في هذه الرواية وكثيراً ما يحصل هذا في حياتنا، أخي المؤمن يتجاوز عليّ ويسيء لي يتكلّم عليّ بسوء، ما هو التعامل مع مثل هذه الإساءات التي كثيراً ما تحصل؟!! لاحظوا هذه الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام): (لا يفترق رجلان على الهجران...) هناك تقاطع بينهما أحدهما يهجر الآخر ويقاطعه (...إلّا استحقّ أحدُهُما البراءة واللّعنة وربّما استوجب ذلك كلاهما) يعني أنّ الاثنين يستحقّان البراءة واللّعنة الظالم والمظلوم، المسيء والذي أسيء اليه، أحد أصحاب الإمام يسأل الإمام(عليه السلام) معتّباً يقول له: جعلني الله فداك هذا الظالم فما بال المظلوم؟! يعني أنّ الظالم يستحقّ البراءة واللّعنة لكن الذي أُسيء له وظُلِم وبُغِي عليه لماذا أيضاً يستحقّ البراءة واللّعنة، لاحظوا جواب الإمام يقول: (لأنّه لا يدعو أخاه الى صلته ولا يتعامس له عن كلامه) يقول: أنت مؤمن إذا هذه الإساءة والتجاوز صدرت أو أذى من أخٍ صَدَر لك فتغافلْ كأنّك لم تسمع أو كأنّه لم تصدر هذه الإساءة والتجاوز من الآخرين، (لأنه لا يدعو أخاه الى صلته ولا يتعامس له...) يعني يتغافل يتجاهل (...عن كلامه)، ثُمّ يقول الإمامُ الصادق: (سمعت أبي الإمام الباقر(عليه السلام) يقول: إذا تنازع اثنان من المؤمنين...) يعني حصل نزاعٌ بينهما (...فعادى أحدهما الآخر فليرجع المظلومُ الى صاحبه حتى يقول لصاحبه أي أخي أنا الظالم، حتى يقطع الهجران بينه وبين صاحبه وبينه وبين أخيه) يأتي السؤال هنا، المظلوم هذا الذي أُسيء له، إذا تكلّم عليّ واغتابني وتكلّم عليّ بسوء وتجاوز عليّ بالكلام سبّني أو شتمني أقول له –مثلاً- أنا الظالم لماذا؟! يقول: حتّى لا يحصل التقاطع والهجران والعداوة والأحقاد بيننا، بل يحصل التواصل والتوادد والتراحم، هنا نقف!! مولاي هذا ظلمني هذا تجاوز عليّ أين حقّي كيف آخذ حقّي؟!! نتوقّف هنا هذا تجاوز عليّ وظلمني سبّني وشتمني وطعن بي، كيف يُترك هذا الظالم؟!! أنا المظلوم كيف آتي الى الظالم وأقول له أنا أتنازل وأقول له: نعم.. أنا الظالم حتى تبقى المودة بيننا؟!! الإمام(عليه السلام) يُجيب عن هذه النقطة يقول: (نعم.. فإنّ الله حكمٌ عدل يأخذ للمظلوم من الظالم) اصبرْ سيأتي يومٌ عاجلاً أم آجلا سيأخذ لك الله تعالى بحقّك، التفتوا إخواني أيّ مرتبة من الأخلاق يريد الأئمّة منّا، وأيّ مرتبةٍ من التماسك الاجتماعيّ حتى تبقى العلاقات علاقاتٍ قويّة متماسكة وعلاقات مودّة وتواصل لا علاقات أحقاد وبغضاء وتقاطع، الإمام يقول: نعم.. الله تعالى حاكم عدل لا يترك شيئاً بسيطاً من الظلم إلّا أخذه، سيأخذ لك الله تعالى بحقّك أيّها المظلوم إن عاجلاً أو آجلاً.
ثمّ يقول الإمام(عليه السلام): (نفسُه منه في عناء والناسُ منه في راحة) نلتفت الى هذه الصفة المهمّة والجميلة، الإنسان المؤمن والمتّقي دائماً نفسُهُ تُتعبه، في كلّ الأيّام في كلّ الشهر في كلّ السنين في كلّ يوم في كلّ ساعة في اليوم، كيف نصل الى هذه المرتبة؟ نأتي الآن أوّلاً في باب الطاعات والعبادات هذا المتّقي والمؤمن مهما جدّ واجتهد في طاعة الله تعالى وعبادته، يقوم لصلاة الليل ويصلّي الفجر والنوافل والتعقيبات والزيارات والصوم وغير ذلك من العبادات يقول أنا مقصّر، يا نفسي أنت مقصّرة بحقّ الله تعالى عليك بمزيدٍ من الطاعات والعبادات، وإن كانت هذه الطاعات والعبادات في الصباح والمساء في الليل والنهار في كلّ الأوقات في الشتاء والصيف في الحرّ وفي البرد عليك أن تجتهدي مزيد اجتهادٍ لطاعة الله تعالى حتّى تحصلي على الأجر العظيم، وأيضاً الإنسان المؤمن يواجه إغراءات المال والشهوات المحرّمة فيصبر، تضغط عليه الدنيا لكي يحصل على مزيد من المال ويُعاني لأنّه يريد مزيداً من المال وتُعرض عليه شهواتٌ محرّمة وتضغط عليه هذه الشهوات فيصبر، ربّما يستمرّ هذا الضغط سنين فيصبر على المحرّمات، وأكثر يقول: هل يكفي أن أعبد الله تعالى فقط؟ هؤلاء الناس ماذا قدّمتُ لهم؟ هل نفعتُ مجتمعي؟ يكفي أن أنفع نفسي في الطاعات والعبادات؟!! يقول: لا.. عليّ أن أعمل الخير عليّ أن أجتهد في نفع الناس وفي أعمال البرّ والخير، ومهما جدّ واجتهد في مساعدة الناس ونفع الناس يقول أنا مقصّر عليّ أن أعمل وأعمل في أعمال الخير والبرّ ومساعدة الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والمرضى، مهما اجتهد يقول: أنا مقصّر، أو يأتي الى الوظيفة سواءً كان معلّماً أو مدرّساً في المدرسة أو أستاذاً جامعيّاً أو طبيباً أو موظّفاً في دائرته يعمل ساعاتٍ طويلة، يقول: أنا هل أدّيت الحقّ الذي عليّ لدائرتي ولوظيفتي ولمجتمعي؟! مهما اجتهدتُ في عملي الوظيفي فأنا مقصّر عليّ أن أجتهد أكثر ولا أقصّر في هذا العمل، وإذا انتهى من وظيفته وتدريسه ورجع الى البيت هل هناك يقول أنا تعبت من عملي فعليّ أن أخلد الى الراحة؟ يقول: لا.. عليّ أن أقضي بقيّة الساعات في نفع مجتمعي وأنفع هذا المجتمع بأعمال الخير والبرّ وغير ذلك من الأمور التي ينتفع منها المجتمع.
الأكثر من ذلك يُراجع نفسه ويُحاسب نفسه فيجد فيها العيوب ولا يبحث عن عيوب الناس، هذا هو الإنسان المؤمن والمتّقي، البعض يشتغل بعيوب الناس ويُراقب الناس في ذلك ويتحدّث بعيوب الآخرين، وهذا يقول: لا.. أنا نفسي مليئةٌ بالعيوب فلأراقبها وأحاسبها وأوبّخها وأحاول أن أصلح نفسي، وهكذا تراه طول يومه بليله ونهاره مشتغلاً إمّا بطاعة الله تعالى وعبادته أو بنفع الناس، وحتّى في عمله الوظيفيّ أو في عمله الاجتماعيّ هو يجتهد في ذلك، لاحظوا هذه الصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها المؤمن، يقول: إخواني المؤمنين عندهم مشاكل، عندهم نزاعات، عندهم مشاكل اجتماعيّة، أو نزاع بين عشيرة وعشيرة، بين عائلة وعائلة، أنا كمؤمن وظيفتي أن أبذل جهدي في أن أحلّ هذا النزاع والاختلاف وهذا التقاطع، وإن طالت هذه المحاولات لأشهر وسنين تراه في ليله ونهاره كلّه مليء بالخير والنفع وأتعب نفسه وأجهدها إمّا في طاعة الله تعالى أو في نفع المجتمع، لذلك هذا المؤمن دائماً يُتعب نفسه ويُجهدها في هذه الأعمال التي تكون إمّا طاعةً لله تعالى أو أنّها لنفع مجتمعه.
(والناس منه في راحة) أوّل شيءٍ يُراقب نفسه ويُراقب لسانه ويُراقب قلمه ماذا يكتب في صفحات التواصل الاجتماعيّ؟ وماذا يكتب في الصحف والمجلّات وفي بقيّة المواقع التي يقرأها الآلاف والملايين؟ ينتبه لئلّا يصدر منه أذى للناس بغيبةٍ أو نميمةٍ أو طعن أو سبٍّ أو افتراء أو كذب وغير ذلك من هذه الأمور التي فيها إيذاء للناس، وفيها توليد للمشاكل والنزاعات بين الناس، والناس منه في راحة يعني الناس سلموا منه في كلّ شيء من لسانه من يده من إيذائه من بقيّة الأمور التي فيها شرّ وظلم وأذى وسوء للناس، هذا المؤمن الحقيقيّ الذي هو في مراقبةٍ دائمةٍ لنفسه لئلّا يصدر منه أيّ أذى أو سوء أو شرّ تجاه الآخرين، لذلك يقول: (نفسه منه في عناء والناس منه في راحة).
ثمّ يقول(عليه السلام): (أتعب نفسه لآخرته وأراح الناس من نفسه) الإنسان المؤمن يعتقد أنّ هذه الدنيا لا بقاء لها وأنّه سوف يرحل عاجلاً أم آجلاً، فالحياة الحقيقيّة والسعادة التي ينشدها الإنسان والتي تليق به ليست هنا إنّما هناك في الآخرة، وما هذه الدنيا إلّا جسر ومعبر الى تلك الحياة، لذلك يُتعب نفسه من أجل آخرته ويُريح الناس من نفسه، ثمّ قال(عليه السلام): (بُعْدُه عمّن تباعد عنه زُهدٌ ونزاهة، ودنوّه ممّن دنا منه لينٌ ورحمة) المؤمنُ عمّن يتباعد وممّن يقترب؟!! المؤمنُ مع مَنْ يُقيم علاقاته الاجتماعيّة ويعمّقها؟!! وعن أيّ صنفٍ من الناس يبتعد ويهرب منهم؟!! الإمام(عليه السلام) يقول: يبتعد عن أهل الدنيا، لاحظوا الغرض والهدف من ذلك، ابتعاده أو اقترابه لأجل أهداف دينيّة مقدّسة، يقول: ابتعاده زهدٌ ونزاهة أي أنّه يبتعد عن أهل الدنيا حتى لا يتلوّث بالمعاصي والمحرّمات التي يرتكبونها، وفي نفس الوقت هو ينزّه نفسه عن الانشغال بالدنيا والافتتان بالدنيا، ويقترب من المؤمنين ويكون اقترابُه ليناً ورحمة من أجل أن يتواصل ويتعاطف ويتراحم ويتوادد مع بقيّة المؤمنين لأجل هذه الغاية لا لأجل الدنيا، لا أقترب من هذا الإنسان لأنّ لي مصلحةً دنيويّة وماليّة أو مصلحة فرديّة، بل يكون الهدف من هذا الاقتراب ومن هذا التواصل إنّما هو أهداف أخرويّة.
ثمّ يقول: (ليس تباعده بكبرٍ وعظمة) البعض من أهل الدنيا لا يقترب من هذا الإنسان تكبّراً واستعلاءً، يرى مقامه أعلى من مقام هذا الإنسان البسيط فيتباعد عنه تكبّراً من نفسه واستعلاءً، في نفس الوقت قد يقترب من إنسانٍ آخر من أجل أن يحصل على مصلحةٍ ماليّة أو دنيويّة، ويستخدم وسائل المكر والخديعة والحيلة والتضليل من أجل أن يصل الى مبتغاه الدنيويّ، الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: لا.. أنت حينما تتباعد عن إنسان لا يكنْ تباعدك تكبّراً واستعلاءً وكذلك إذا اقتربت من إنسان لا يكن اقترابُك منه لأجل مصالح دنيويّة وماليّة وتستخدم هذه الوسائل من أجل تحقيق هذه الغايات.
في ختام هذه الخطبة أعود أيّها الإخوة والأخوات فأذكّركم بصلاة الليل!! ما أعظم هذه العبادة التي وردت في كثيرٍ من الكتب، أنّ الحسنات والأعمال الصالحة لها ثواب معيّن إلّا صلاة الليل فمنزلتها عظيمة جدّاً عند الله تعالى وفيها من الثواب ما لا يُحصى!! حتّى ورد في الآية القرآنيّة الكريمة: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ..) هنا الشاهد (..فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) مهما خطر في خيال الإنسان من ثواب صلاة اللّيل لا يُمكن أن يخطر على باله وخياله مقدار ونوع هذا الثواب كما ورد في هذه الآية القرآنيّة، ثمّ أيضاً في حديثٍ آخر لاحظوا هذه الفوائد العظيمة أيّها الإخوة والأخوات ويُمكن أن يحصل كلّ واحدٍ منكم عليها بمجرّد أن يضحّي ببضع دقائق من النوم ويحاول أن يستعدّ في الّليل للقيام لصلاة اللّيل يُناجي فيها ربّه يتضرّع الى ربّه يبثّ شكواه وهمومه، ويوصل هذه العلاقة مع الله تعالى في تلك الأجواء التي نامت فيها العيون وهدأت فيها الأصوات، الله تعالى يُباهي به الملائكة وهو قد ترك مضجعه وضحّى بلذّة نومه من أجل أن يُناجي ربّه، لاحظوا هذا الحديث وما فيه من الثواب والأجر في الدنيا والآخرة: (صلاةُ اللّيل مرضاةُ الربّ، وحبّ الملائكة، وسنّة الأنبياء، ونور المعرفة، وأصل الإيمان، وراحةُ الأبدان، وكراهيّة الشيطان، وسلاحٌ على الأعداء، وإجابة الدعاء، وقبول الأعمال، وبركةٌ في الرزق، وشفيعٌ بين صاحبها وبين ملك الموت، وسراجٌ في قبره، وفراشٌ تحت جنبه، وجوابٌ مع منكر ونكير، ومؤنس وزائر في قبره الى يوم القيامة...) في هذه الوحشة في هذا البيت الصغير في هذا اللّحد الصغير مؤنسك وزائرك الى يوم القيامة في ذلك البيت الموحش هو صلاة اللّيل، (...فإذا كان يوم القيامة كانت الصلاة ظلّاً فوقه وتاجاً على رأسه ولباساً على بدنه ونوراً يسعى بين يديه وستراً بينه وبين النار وحجّةً للمؤمن بين يدي الله وثقلاً في الميزان وجوازاً على الصراط ومفتاحاً للجنّة).
أيّها الإخوة والأخوات الكلمةُ الأخيرة فليتأمّل الواحدُ منكم كم من الخسارات -وليست خسارة واحدة- بل كم من الخسارات سيخسر حينما يؤثر لذّة النوم على القيام بين يدي الله تعالى في صلاة اللّيل على ضوء هذا الحديث والآية القرآنيّة، لذلك أيّها الإخوة والأخوات أتعبوا أنفسكم -كما ذكرنا- (نفسُهُ منهُ في عناء) هذه واحدةٌ منها أنّ الإنسان وهو في لذّة النوم يؤثر طاعة الله تعالى ومناجاته في تلك اللّحظات على هذه اللذّة ويقوم بين يدي الله تعالى، فيربح هذا الأجر وهذا الثواب وهذه المنزلة العظيمة عند الله تعالى من خلال القيام لصلاة اللّيل، فجرّبوا أيّها الإخوة والأخوات ولو بأن يقوم الواحد منكم لركعة الوتر ثمّ بعد ذلك يتطوّر ويتقدّم في إيمانه، ركعة الوتر ثمّ ركعتي الشفع ثمّ صلاة ثماني ركعات، أيّها الإخوة والأخوات فإذا أنس والتذّ بهذه العبادة لا يستطيع أن يفارق صلاة اللّيل كعدم استطاعته لفراق الطعام والشراب، هكذا هي صلاةُ اللّيل في حياة الإنسان، فاغتنموا أيّها الإخوة والأخوات هذه الفرصة قبل أن تأتي تلك الساعة فإذا بالواحد منّا يُحمل على النعش وربّما يرى الآخرين في هذه الأجواء التي عاشها أصحابُ اللّيل فيندم ندماً شديداً ويتحسّر حسرةً عظيمة ولكن لات ساعة مندم ولم ينفع ذلك الندم والحسرة.
نسـأل الله تعالى أن يوفّقنا لمراضيه ويجنّبنا معاصيه، وأن يوفّقنا للانتفاع والاستماع والاتّعاظ والعبرة والعمل بهذه المواعظ البليغة لأمير المؤمنين(عليه السلام)، والتوفيق لها وقبولها من الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.
اترك تعليق