تقدم الكلام في الجزء الأول من القسم الثاني عن بعض الروايات التي يمكن ان يستفاد منها وجوب زيارة الإمام الحسين عليه السلام وتبقى رويات أخرى نكمل البحث فيها.
الرواية السادسة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني جعفر بن محمد بن إبراهيم بن عبيد الله الموسوي، عن عبيد الله بن نهيك، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حقٌّ على الغني أن يأتي قبر الحسين عليه السلام في السنة مرتين، وحقٌّ على الفقير أن يأتيه في السنة مرة))[43].
ورواها عنه الشيخ المفيد في مزاره، قال: ((حدثني أبو القاسم جعفر بن محمد...))[44].
وكذا رواها عنه ابن المشهدي بإسناده إليه[45].
وما رواه ابن قولويه أيضاً في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي ناب، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: حقٌّ على الفقير أن يأتي قبر الحسين عليه السلام في السنة مرة، وحقٌّ على الغني أن يأتيه في السنة مرتين))[46].
وما رواه الشيخ الطوسي في التهذيب، قال: ((وعنه [أي: محمد بن أحمد بن داوود] عن محمد بن الحسين، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن ابن رئاب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : حقٌّ على الغني...))[47]
دلالة الرواية: جعلت هذه الرواية زيارة الإمام الحسين عليه السلام حقاً في رقبة الجميع، إن كان غنياً ففي السنة مرتين، وإن كان فقيراً ففي السنة مرة، ولو لم تكن الزيارة واجبة لما كانت حقاً على الآخرين، فالحقّ يعني الوجوب.
ولا يقال: من غير المحتمل أن تجب زيارة الإمام الحسين عليه السلام على الغني في السنة مرتين وعلى الفقير مرة، فإن هذا يرفضه التسالم الفقهي بين العلماء.
لأنه يقال: إنّ الكلام فعلاً في أصل الوجوب وهو لا يضرّه هذا الإشكال، خصوصاً على التبعيض في حجيّة دلالة الروايات، وهو ما عليه العمل بين الأعلام.
ولكن يمكن الإشكال على دلالة هذه الرواية من جهة أُخرى، وهي: أنّ كلمة الحقّ لا تعني الوجوب، فلربما يكون هناك حقّ، إلاّ أنّه ليس واجباً، بل من المستحب الأكيد مثلاً، وإلاّ فحقّ الإمام عليه السلام أكثر من ذلك بكثير، وما هذا إلاّ الشيء اليسير، وكم هناك حقوق لأهل البيت عليهم السلام إلاّ أنّها ليست واجبة، فمن حقوقهم المسلّمة أنّ يُذكروا ويُزاروا في كلّ وقت، كما أن لله تعالى حقوقاً كثيرة إلاّ أنّه تعالى أوجب بعضاً دون بعض، فهذه الرواية تُثبِتُ أصلَ الحقّ لا وجوبه، وهذا ينسجم تماماً مع المرّة والمرّتين في السنة.
فإن قلت: لو كانت هذه الرواية تريد أن تُثبِتُ أصل الحقّ وليس وجوبه، فلماذا قيّدت الزيارة بالمرّة أو المرّتين في السنة؟
قلت: يمكن أن يكون ذلك أقل الحقّ الذي عليه التأكيد.
ولكن الإنصاف يقتضي القول بالوجوب؛ لأنّ الرواية لم تُبيِّن أصل الحقّ للإمام الحسين عليه السلام، حتى يقال: إنّ بعض الحقّ واجب وبعضه ليس كذلك. وإنّما الرواية بيّنت أنّ حقه عليه السلام في رقبة الجميع، فهو في عُهدتهم ولا يخرجوا عنه إلاّ بأدائه، وهذا معنى الوجوب.
سند الرواية: أمّا سند كامل الزيارات الأول فهو سند تامّ ومعتبر؛ فجميع رجاله ثقات. وأمّا سنده الثاني فليس فيه إلاّ إرسال ابن أبي عُمير، وقد ثبت في محلّه أنّ مراسيله كمسانيده، فالسند تامّ أيضاً.
وأمّا سند التهذيب فهو تامّ أيضاً، لأنّ محمد بن أحمد هو محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري، الثقة المعروف. ومحمد بن يحيى هو محمد بن يحيى العطار، وهو شيخ القمّيين الثقة المعروف.
الرواية السابعة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عامر بن عمير وسعيد الأعرج، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ائتوا قبر الحسين عليه السلام في كل سنة مرّة))[48].
ورواها أيضاً عن أبي العباس، عن الزيّات، عن جعفر بن بشير، عن حمّاد، عن ابن مسلم، عن عامر بن عمير وسعيد الأعرج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:((...))[49].
دلالة الرواية: الرواية تأمر بإتيان قبر الإمام الحسين عليه السلام، والأمر ظاهر في الوجوب بالاتّفاق، فالرواية ظاهرة في المطلوب.
سند الرواية: الرواية صحيحة السند؛ فإنّ رجال السند جميعهم ثقات إلاّ عامر بن عمير، فهو مجهول، وهذا لا يضرّ بصحّة السند؛ لأنّ سعيداً الأعرج رواها معه، وهو ثقة.
الرواية الثامنة: ما رواه بن قولويه، قال: ((حدَّثني الحسن بن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن صباح الحذّاء، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: زوروا قبر الحسين عليه السلام ولو كلّ سنة مرّة. وذكر الحديث))[50].
دلالة الرواية: الكلام في دلالة هذه الرواية كسابقتها.
لا يقال: إنّ قول الإمام عليه السلام: ((ولو كلّ سنة مرّة)) يدلّ على الاستحباب.
لأنه يقال: لو دلّت هذه الفقرة على الاستحباب، فهي تدلّ على المدّة التي فيها الزيارة، لا أصل الزيارة، وهذه تفصيلات سيأتي بحثها.
سند الرواية: الكلام في سند هذه الرواية في عبد الله بن محمد بن عيسى؛ حيث إنّه لم يرد فيه توثيق صريح، ولكن يمكن أن يُستدلّ على وثاقته بأمور:
منها: أنّه واقع في إسناد كامل الزيارات، فعلى رأي مَن يذهب إلى توثيق كلّ مَن جاء فيه، فسوف يكون ثقة.
ومنها: رواية محمد بن أحمد بن يحيى عنه، ولم يستثن روايته.
ومنها: رواية الأجلاّء عنه، منهم: محمد بن أحمد بن يحيى، ومحمد بن علي بن محبوب، وصفوان، وموسى بن القاسم وغيرهم.
ومنها: رواياته عن الأجلاّء وكثرتها.
ومنها: وصف جملة من العلماء لرواياته بالصحيحة[51].
فجميع ذلك يُطمئن النفس بالاعتماد عليه والركون إلى روايته؛ فالرواية معتبرة سنداً.
الرواية التاسعة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني جعفر بن محمد بن عبيد الله الموسوي، عن عبيد الله بن نهيك، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن زيارة قبر الحسين عليه السلام، قال: في السنة مرّة؛ إنّي أكره الشهرة))[52].
ورواها أيضاً عن محمد بن الحسن، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام [53].
وروى أيضاً في الكامل، قال: ((حدَّثني محمد بن الحسن، عن محمد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان، عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن زيارة الحسين عليه السلام. قال: في السنة مرّة؛ إنّي أخاف الشهرة))[54].
دلالة الرواية: تحديد الإمام عليه السلام للزيارة في السنة مرّة يظهر منه الوجوب، وإلاّ لما حددها الإمام عليه السلام في السنة مرّة؛ لأن الزيارة المستحبة ليس لها وقت محدّد، فهي مستحبة في كل وقت.
ولكن يمكن أن يقال: بقرينة التعليل في الرواية وأنّ الإمام يكره الشهرة ويخافها، يُفهم منها الاستحباب في السنة مرّة تجنباً للشهرة تقيّةً؛ فالتقييد بسنة جاء مناسباً للتعليل، لا مطلقاً.
فإن قلت: إنّ الاستحباب في زيارة الإمام الحسين عليه السلام أكثر من ذلك، والنصوص كثيرة على ذلك من قبيل ما دلّ على زيارته في كلّ ليلةِ جمعة، وفي ليالي القدر، وفي الخامس عشر من شعبان، وفي عاشوراء، وفي الأربعين، وغيرها الكثير، فجميع ذلك يدلّ على أنّ المراد بالتحديد هو الوجوب.
قلت: إنّ التعليل بالشهرة يفيد أنّ الأمام ناظر إلى ظروف خارجية كان يمرّ بها المجتمع الشيعي آنذاك، والتي كان يتعرّض فيها الشيعة للسجن والقتل والاضطهاد بمجرّد ظهور انتسابهم لأهل البيت عليهم السلام، فأراد الإمام أن ينبّه الشيعة على أنّ زيارة الإمام الحسين عليه السلام في السنة مرّة؛ تجنباً لتعريضهم للمخاطر، وحفظاً للمجتمع الشيعي من التفكك على أيدي حكّام الجور، ويؤكّد هذا المعنى التصـريحُ بالخوف في النقل الآخر للرواية.
ولكن الإنصاف يقتضي أن نقول: لو كانت الظروف ظروف تقية وخطر، وأن الزيارة مستحبة لا واجبة لكان على الإمام عليه السلام أن يمنع من الزيارة، إلا أن الإمام عليه السلام مع تلك الظروف الخطرة حدد الزيارة في كل سنة مرة، وهذا يعني أن الزيارة ليست فقط واجبة، بل هي واجبة حتى في فرض التقية، فإذا لاحظنا أن التقية توجب ترك الواجبات المسلّمة في الدين، نستنتج أن الزيارة من أعظم الواجبات، التي لا يجوز تركها تحت أيّ ظرف كان.
وبعبارة أُخرى: إن كانت الرواية ناظرة إلى الحالة الاعتيادية والظروف الطبيعية، فلا معنى للتحديد بسنة إلا إرادة الوجوب، وإن كانت الظروف ظروف تقية كان على الإمام عليه السلام أن يمنع من الزيارة، خصوصاً إذا كانت مستحبة، فمع عدم المنع ـ بل مع الأمر ـ يكون الوجوب هو الظاهر.
سند الرواية: الرواية صحيحة السند، وجميع رواتها ثقات أجلاّء، سواء التي بلفظ أكره أو التي بلفظ أخاف.
الرواية العاشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن الحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة، عن العباس بن عامر، قال: قال علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: لا تجفوه، يأتيه الموسر في كل أربعة أشهر، والمعسر لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها. قال العباس: لا أدري، قال هذا لعلي أو لأبي ناب))[55].
دلالة الرواية: الاستدلال بهذه الرواية على الوجوب مبني على استفادة الأمر من الجملة الخبرية، من قبيل قوله: ((يعيد الصلاة)) أو ((يتوضأ)) وما شاكل، فإنّ هذه صيغٌ تدلّ على الأمر، والأمر ظاهر في الوجوب، فمعنى الرواية: على الموسر أن يأتيه في كلّ أربعة أشهر مرّة، وعلى المعسر بما يقدر، فهذه الرواية تدلّ على الوجوب.
مناقشة: إنّ الرواية ناظرة إلى فرض الجفاء، أي: حتى لا يتحقق الجفاء، فلا بدّ من إتيانه في هذه المدّة، وإلاّ مع عدم تحقق الجفاء لا يجب ذلك، فالوجوب هنا مقيَّد لا مطلق. بل المعنى ـ في الواقع ـ هو أنّ الجفاء ممنوع، لا أنّ الزيارة واجبة، وهذا أمر آخر غير ما نحن بصدد إثباته، وستأتي الإشارة إلى هذا المعنى في بعض الروايات القادمة.
سند الرواية: الكلام عن سند هذه الرواية في علي بن أبي حمزة البطائني، وقد وقع كلام طويل الذيل فيه، وتعددت الآراء حوله، إلاّ أنّ المستفاد من البحث عنه أنّه ثقة يمكن الاعتماد عليه، بدليل كلام للطوسي ورواية الأجلاّء عنه، خصوصاً أصحاب الإجماع، وقرائن أُخرى لا مجال لذكرها، ولكن لا تُقبل روايته مطلقاً، وإنّما فيما إذا كانت الرواية قبل وقفه، وأمّا بعد وقفه فلا يصحّ الاعتماد عليه؛ للتنصيص على كذبه من قِبَل بعض أرباب علم الرجال، ومن القرائن التي تحدد أنّ الرواية قبل أو بعد الوقف هي رواية الإمامي الاثني عشري عنه، وفي المقام قد روى عنه العباس بن عامر، وهو مستقيم العقيدة. هذا بالإضافة إلى أنّ العباس تردد في أنّ هذا القول لعلي أو لأبي ناب، فإن كان لعليّ ففيه ما تقدّم من الكلام، وإن كان لأبي ناب فهو ثقة معتبر. فهذه الرواية معتبرة من حيث السند.
الرواية الحادية عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني أبي رحمه الله، عن عبد الله بن جعفر الحميري بإسناده، رفعه إلى علي بن ميمون الصائغ، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: يا علي، بلغني أنّ قوماً من شيعتنا يمرّ بأحدهم السنة والسنتان لا يزورون الحسين عليه السلام؟ أما ـ والله ـ لحظّهم أخطأوا، وعن ثواب الله زاغوا، وعن جوار محمد صلى الله عليه وآله تباعدوا. قلت: في كم الزيارة؟ قال: يا علي، إن قدرت أن تزوره في كل شهر فافعل. قلت: لا أصلُ إلى ذلك، لأنّي أعمل بيدي ولا أقدر أن أغيب من مكاني يوماً واحداً. قال: أنت في عذر ومَن كان يعمل بيده، إنّما عنيت مَن لا يعمل بيده ممَّن إن خرج كلّ جمعة هان ذلك عليه، أما إنّه ما له عند الله من عذر، ولا عند رسول الله صلى الله عليه وآله من عذر يوم القيامة. قلت: فإن أخرج عنه رجلاً فيجوز ذلك؟ قال: نعم، وخروجه بنفسه أعظم أجراً وخيراً له عند ربه))[56].
ورواها الشيخ في التهذيب بسنده باختلاف يسير في المتن، قال: ((وعنه، عن محمد بن همام، عن علي بن محمد بن رباح، أنّ محمد بن العباس حدَّثه عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن علي بن ميمون الصايغ، قال: ((قال لي أبو عبد الله عليه السلام:...))[57]. وكذا رواها الشيخ المفيد في المزار[58].
دلالة الرواية: يمكن أن يقال: إنّ هذه الرواية تدلّ على الوجوب بدلالة قوله عليه السلام: ((إنّ مَن لم يزر الإمام الحسين عليه السلام وهو قادر على ذلك فإنّه ليس بمعذور أمام الله تعالى)). وعدم العذر لا يكون إلاّ على ترك شيء واجب.
ولكن هذا النحو من الاستدلال لا يمكن قبوله؛ لأنّ الرواية في صدد الكلام عن الثواب العظيم الذي لا يحوزه الشخص إلاّ بزيارة الإمام الحسين عليه السلام، ومَن لم يزره فقد فاته الخير الكثير، وهو غير معذور في فوات الخير على نفسه، خصوصاً إذا كان هذا الخير هو مجاورة محمد صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام عليهم السلام. وبقية فقرات الرواية كلها واضحة في الاستحباب والثواب الجزيل، هذا بالإضافة إلى أنّ هذا الذيل الذي استُدل به لم يرد في رواية التهذيب التي هي معتبرة السند.
سند الرواية: أمّا رواية الكامل فهي مرسلة. وأمّا سند التهذيب فهو وإن كان فيه الحسن بن علي وقد ضُعِّف واتُّهم بالكذب، إلاّ أنّ الكلام فيه كالكلام في أبيه، وأمّا علي بن ميمون فالقرائن عديدة على اعتباره والاطمئنان بما يرويه.
الرواية الثانية عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني أبي رحمه الله، عن أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى، عن العمركي بن علي البوفكي، قال: حدَّثنا يحيى ـ وكان في خدمة أبي جعفر الثاني عليه السلام ـ عن علي، عن صفوان بن مهران الجمّال، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل، قلت: مَن يأتيه زائراً ثمَّ ينصرف عنه متى يعود إليه؟ وفي كم يأتي؟ وكم يسع الناس تركه؟ قال: لا يسع أكثر من شهر، وأمّا بعيد الدار ففي كل ثلاث سنين، فما جاز ثلاث سنين فلم يأته فقد عقَّ رسول الله صلى الله عليه وآله، وقطع حرمته، إلاّ عن علّة))[59].
دلالة الرواية: تدلّ هذه الرواية على أنّه لا يسع الناس ترك زيارة الإمام الحسين عليه السلام في المدّة المذكورة، أي: لا يجوز لهم ذلك، وهذا يعني الوجوب في المدّة المعيّنة، كما أنّ مَن لم يأتِ قبر الإمام الحسين عليه السلام في المدّة المعيّنة، وهي شهر للقريب وثلاث سنوات للبعيد، فإنّه قد عقّ رسول الله صلى الله عليه وآله وعقوق الرسول من أعظم المحرمات، كما أنّ مَن لم يزره في هذه المدّة فقد قطع رحم رسول الله صلى الله عليه وآله.
سند الرواية: الكلام عن سند الرواية في أمرين:
الأول: الكلام في يحيى خادم الإمام الجواد عليه السلام، حيث لم يرد فيه توثيق، ولكن يمكن اعتباره لأمور، منها: روايته عن الثقات الأجلاّء، ورواية الثقات عنه، ومنها: خدمته لأبي جعفر الثاني إمامنا الجواد عليه السلام، ومنها: استقامة رواياته ووجود شواهد عليها من روايات أُخرى، إلى غير ذلك من الشواهد التي تؤيد اعتباره وإمكان الركون إلى روايته.
الثاني: الكلام في عليّ، الذي روى عنه يحيى، فإنّه ـ وبحسب الراوي والمروي عنه ـ إمّا عليّ بن الحكم وهو ثقة، وقد أكثر الرواية عن صفوان الجمّال، وإمّا علي بن الحسن، ثمّ إنّ عليّ بن الحسن هذا أيضاً مشترك ـ وبحسب الطبقة ـ بين علي بن الحسن بن رباط، وعلي بن الحسن الطاطري، وعلي بن الحسن بن فضال، والجميع ثقات؛ فالرواية معتبرة من جهة السند.
الرواية الثالثة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني محمد بن جعفر الرزّاز، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: زوروا الحسين عليه السلام ولا تجفوه، فإنّه سيد شباب أهل الجنّة من الخلق، وسيد الشهداء))[60]
دلالة الرواية: إنّ الإمام الصادق عليه السلام يأمر بزيارة الإمام الحسين عليه السلام، والأمر ظاهر في الوجوب، كما ثبت في محله.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ هذا الأمر لا يدلّ على الوجوب؛ لأنّه غير ناظر له أصلاً، وإنّما الإمام عليه السلام كان ناظراً إلى حالة الجفاء، حيث عقّب الأمر بالزيارة بالنهي عن الجفاء، فعدم الجفاء هو العلّة في الأمر؛ وعليه فيدور الأمر مداره، فإن كان فالأمر موجود وإلاّ فلا، وهذا غير ما نحن بصدد إثباته من الوجوب النفسي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، أي حتى مع عدم تحقق الجفاء فالزيارة واجبة.
سند الرواية: إنّ سند هذه الرواية تامّ؛ لأن محمد بن الحسين هو محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الزيّات، وهو جليل من أصحابنا عظيم القدر. وأمّا محمد بن إسماعيل، فهو محمد بن إسماعيل بن بزيع، وهو من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم. وأمّا حنان، فهو حنان بن سدير الثقة.
الرواية الرابعة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((وبهذا الإسناد [أي: حدَّثني أبي وعلي بن الحسين وجماعة مشايخي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن علي، عن عباد أبي سعيد العصفري] عن علي بن حارث، عن الفضل بن يحيى، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: زوروا كربلاء ولا تقطعوه، فإن خير أولاد الأنبياء ضمنته، ألا وأنّ الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قَبل أن يسكنه جدي الحسين عليه السلام، وما من ليلة تمضي إلاّ وجبرئيل وميكائيل يزورانه، فاجتهد ـ يا يحيى ـ أن لا تُفقَد من ذلك الموطن))[61].
دلالة الرواية: دلالة هذه الرواية كسابقتها؛ حيث عقّبت الأمر بالزيارة بالنهي عن القطيعة.
سند الرواية: سند هذه الرواية بين مهمَل كعلي بن الحارث، وبين مجهول كالعصفري، وبين مشترك كمحمد بن علي.
الرواية الخامسة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني أبي رحمه الله وعلي بن الحسين، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن موسى بن الفضل، عن حنان، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في زيارة قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام؟ فإنّه بلغنا عن بعضهم أنّها تعدل حجّة وعمرة. قال: لا تعجب، ما أصاب مَن يقول هذا كله! ولكن زره ولا تجفه؛ فإنّه سيّد الشهداء وسيد شباب أهل الجنّة، وشبيه يحيى بن زكريا، وعليهما بكت السماء والأرض))[62].
وروى أيضاً عن أبيه ((عن سعد، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن موسى بن الفضل، عن علي بن الحكم، عمَّن حدَّثه، عن حنان بن سدير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: ما تقول في زيارة الحسين عليه السلام، فقال: زره ولا تجفه؛ فإنّه سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة، وشبيه يحيى بن زكريا، وعليهما بكت السماء والأرض))[63].
دلالة الرواية: إنّ دلالة هذه الرواية كسابقتها، حيث أعقبت الأمر بالزيارة بالنهي عن الجفاء.
سند الرواية: أمّا السند الأول ففيه موسى بن الفضل وهو مجهول، وأمّا الثاني فبالإضافة إلى جهالة موسى بن الفضل فيه إرسال.
الرواية السادسة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني أبي رحمه الله ومحمد بن عبد الله وعلي بن الحسين ومحمد بن الحسن رحمهم الله جميعاً، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن موسى بن عمر، عن حسان البصري، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال لي: يا معاوية، لا تدع زيارة قبر الحسين عليه السلام لخوف؛ فإنّ مَن ترك زيارته رأى من الحسرة ما يتمنى أنّ قبره كان عنده، أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمَن يدعو له رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والأئمة عليهم السلام))[64].
ورواها أيضاً عن حكيم بن داود بن حكيم السرّاج، عن سلمة بن الخطاب، عن موسى بن عمر، عن حسان البصري، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله عليه السلام [65] .
دلالة الرواية: الاستدلال بهذه الرواية على المطلوب من خلال فقرة ((لا تدع زيارة قبر الحسين عليه السلام لخوف))؛ حيث إنّ الإمام ينهى عن ترك الزيارة حتى لخوفٍ، فضلاً عن عدمه، والنهي عن الترك يعني لزوم الزيارة ووجوبها؛ لأنّه لا معنى للنهي عن المباح.
لا يقال: إنّ الرواية بصدد بيان الفضل الكبير لزيارة الإمام الحسين عليه السلام وبيان مقدار الخسارة التي يتعرّض لها تارك الزيارة؛ حيث إنّ الرواية عقّبت فقرة الاستدلال بالحسرة الشديدة لمَن ترك الزيارة، ثمّ أردفتْها بحبّ الشخص أن يُرى في موضع يحب الله تعالى أن يرى عبادَه فيه، وهو موطن دعاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام، فهذا التعقيب قرينة على أنّ المراد هو بيان درجة الفضل لا بيان الوجوب.
لأنه يقال: إنّ هذا البيان لمقدار درجة الفضل للزيارة التي تكون في حالة الخوف، لا ينافي وجوب الزيارة؛ إذ لا مانع من بيان فضل الأمر الواجب، وربما يكون بيان الفضل لدفع توهم أنّ الزيارة التي عن خوف لا ثواب فيها، فلأجل ذلك بيّن الإمام عليه السلام ذلك المقام لزيارة الإمام الحسين عليه السلام.
نعم، يمكن مناقشة الاستدلال المتقدّم على الوجوب من وجه آخر، وهو أنّ هذا النهي يُحتمل فيه أنّه النهي بعد توهم الحظر؛ إذ ربما يتوهم الشخص أنّ الزيارة التي تكون عن خوف منهيّ عنها؛ لأجل ذلك نهى الإمام عليه السلام عن تركها، والنهي عقيب توهم الحظر يفيد الجواز.
ويمكن دفع هذه المناقشة، بأن يقال: إن الأمر بعد توهم الحضر يفيد الجواز في الأُمور الطبيعية، وأما في فرض الخوف، فالأمر يختلف؛ لأن الخوف يستدعي التقية التي بموجبها تخالف الواجبات، فمع هذا الفرض كان المفروض أن تمنع الزيارة، لا أن الإمام يأمر بها، فأمره بها عليه السلام يدل على وجوبها حتى مع الخوف، فتامل.
سند الرواية: الكلام عن سند الرواية في أمرين:
الأول: الكلام عن موسى بن عمر، حيث إنّه مشترك بين موسى بن عمر بن يزيد، وبين موسى بن عمر بن بزيع، والأول لم يُنصّ على توثيقه، وأمّا الثاني فهو ثقة بالاتّفاق، وقد ذكر الشيخ الطوسي الأولَ مقيَّداً بابن يزيد وأطلق الثاني؛ من هنا ذهب بعض الرجاليين إلى القول: بأنّ هذا العنوان موسى بن عمر إذا أطلق فهو منصرف إلى ابن بزيع الثقة، إلاّ أنّ صاحب القاموس ذهب إلى خلاف ذلك؛ حيث قال في ترجمة موسى بن عمر بن بزيع: ((موسى بن عمر اثنان: هذا، وموسى بن عمر بن يزيد الآتي عن النجاشي وفهرست الشيخ، وحيث إنّ الفهرست قيَّد الآتي وأطلق هذا، جعل هذا المنصرف إليه من الإطلاق. لكن الظاهر العكس، فروى محمد بن علي بن محبوب، عن موسى بن عمر في زيادات كيفيّة صلاة التهذيب وزيادات مائه، وفي الاستبصار الماء يقع فيه شيء ومحمد بن علي بن محبوب راوي الآتي في الفهرست. وكأن الفقيه والتهذيب أيضاً جعلا هذا المنصرف إليه))[66].
أقول: لا يمكن الاطمئنان بالانصـراف لأيّ منهما؛ فلأجل ذلك لا يمكن الاطمئنان بكونه هو ابن بزيع الثقة.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ موسى بن عمر بن يزيد وإن لم يرد فيه توثيق، إلاّ أنّه من المعاريف الذين لم يرد فيهم ذمٌّ، وهو أمارة على الاعتبار؛ حيث إنّ موسى هذا عنده أكثر من كتاب وقد روى عن الثقات ورووا عنه، فممَّن رووا عنه: سعد بن عبد الله، وأحمد بن محمد بن يحيى، وسلمة بن الخطاب، وغيرهم. وممَّن روى عنهم: الحسن بن محبوب، وعلي بن أسباط، ومحمد بن سنان، وعلي بن النعمان، وغيرهم؛ وعليه فلا فرق حينئذٍ بين أن يكون هو ابن بزيع أو ابن يزيد.
الثاني: الكلام في حسّان البصري، قيل: إنّ الصحيح هو غسّان البصـري، وقد ذُكرت بعض الشواهد على ذلك[67].
أقول: كيفما كان، فسواء كان هو حسّان أو غسّان، فإنّ الحكم عليه لا يتغيّر؛ لأنّه مجهول في العنوانين.
الرواية السابعة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((وروي، قال أبو جعفر عليه السلام: الغاضرية هي البقعة التي كلّم الله فيها موسى بن عمران عليه السلام، وناجى نوحاً فيها، وهي أكرم أرض اللهِ عليه، ولولا ذلك ما استودع الله فيها أولياءه وأبناء نبيه، فزوروا قبورنا بالغاضرية))[68].
دلالة الرواية: الاستدلال بهذه الرواية من خلال فقرتها الأخيرة، حيث أمر الإمام عليه السلام بزيارة قبور الغاضرية وهي كربلاء، والأمر ظاهر في الوجوب.
سند الرواية: الرواية مرسلة.
هذا تمام الكلام في الروايات التي تدلّ بظاهرها على الوجوب، أو التي ادُعي فيها ذلك.
الخلاصة: إنّ النتيجة المتحصَّلة من خلال البحث في القسم الثاني من الروايات هو: أنّه توجد مجموعة من الروايات تامّة دلالةً وسنداً على المطلوب، من قبيل الرواية الأُولى، والثانية، والسادسة، والسابعة، والثامنة، وغيرها؛ وبذلك تكون زيارة الإمام الحسين عليه السلام واجبة بنحو المقتضي في هذا القسم من الروايات أيضاً، حيث تقدّم أنّ الزيارة واجبة من خلال القسم الأول من الروايات الذي تقدّم في القسم الأول من البحث.
ولكن إلى هنا لا يمكننا أن نخرج بنتيجة نهائية من البحث ما لم نبحث الموانع والعوارض للحكم بوجوب الزيارة، وهذا ما سنعقد له القسم الثالث من البحث في هذه الدراسة، فهناك سوف نسلّط الضوء على تلك الموانع لنرى هل يمكن دفعها أو لا؟
الكاتب: الشيح رافد عساف التميمي
مجلة الإصلاح الحسيني - العدد الثانيمؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
________________________________________
[43] ابن قولويه، جعفر بن محمد،كامل الزيارات: ص490. واُنظر: الحر العاملي، الوسائل: ج14، ص532.
[44] الشيخ المفيد، المزار: ص28.
[45] اُنظر: ابن المشهدي، المزار: ص341.
[46] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491.
[47] الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص42 ـ 43.
[48] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص490. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص532.
[49] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص492. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص532.
[50] المصدر نفسه: ص493، الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص534.
[51] اُنظر: البحراني، الحدائق الناظرة: ج24، ص601. السيد الروحاني، فقه الصادق: ج22، ص236.
[52] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص532.
[53] اُنظر: المصدر نفسه: ص491.
[54] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص492. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص533.
[55] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص533.
[56] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص492. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص534.
[57] الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص45.
[58] الشيخ المفيد، المزار: ص225.
[59] ابن قولويه، جعفر بن محمد،كامل الزيارات: ص494. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص535.
[60] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص216.
[61] المصدر نفسه : ص452 ـ453.
[62] المصدر نفسه: ص184.
[63] المصدر نفسه: ص486.
[64] المصدر نفسه: ص227.
[65] المصدر نفسه: ص243.
[66] التستري، محمد تقي، قاموس الرجال: ج10، ص288ـ 289.
[67] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص227، هامش رقم1 بتحقيق جواد القيومي.
[68] المصدر نفسه: ص452.
اترك تعليق